في ذكرى 25 يناير… المؤرخ والمفكر د.شريف يونس في حوار شامل عن الثورة مع “الأهالي”.

أفضل ما فعلته أنها أتت بالأخوان إلى السلطة...وهي ثورة سياسية وليست ثورة اجتماعية

151

حوار: مارك مجدي

25 يناير ثورة سياسية..وليست ثورة اجتماعية 

الواقع المصري لم يفرز قوى ديمقراطية منظمة وواعية يمكن أن تضع أسس نظام سياسي ديمقراطي 

جماعة الأخوان تحولت عبر تاريخها إلى طائفة تربت على أيدولوجيا مشبعة ب”الاستعلاء بالإيمان” 

البرادعي كان يتصرف عبر منطق غير سياسي… ويكاد يكون معاديًا للسياسة 

بدون ما حدث في يناير…كان سيظل الأخوان مسيطرون على وعي المصريين

شرعية النظام الحالي تنبع من 25 يناير

مع حلول ذكري ثورة 25يناير 2011، تحاور الأهالي د. شريف يونس مدرس التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، وأحد أهم محللي وكتاب التاريخ الحديث، عُرف عبر مؤلفات اشتهرت في الأوساط الأكاديمية والثقافية، أبرزها كتاب نداء الشعب: تاريخ نقدي للأيدولوجيا الناصرية، وكتاب الزحف المقدس: مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر، وكتاب سيد قطب والأصولية الإسلامية، وكتاب البحث عن الخلاص أزمة الدولة والإسلام والحداثة في مصر، وغيرها من المؤلفات الهامة. لدى يونس رؤى وتحليلات مميزة للأحداث المعاصرة، التي تتميز بالنقد الموضوعي والمراجعات المستمرة للأفكار المنتشرة عن طبيعة تلك الأحداث ومآلاتها.

يثير يونس كثيرًا من الجدل في رؤاه للأحداث التاريخية ومواقفه تجاه الأحداث الراهنة، فقد عُرف عنه تفائله تجاه ثورة يناير، ومعاداة التيار الإسلامي، كما أيد أحداث 30 يونيو والسلطة السياسية المنبثقة عنها، مما دفع البعض لاعتباره أحد الكتاب الذين انتقلوا من معسكر المعارضة إلى الموالاة.

وبشأن حدث الحراك الشعبي في يناير، كان يونس مِن بين مَن لديهم أراء مُعمقة واستشرافية هامة. نتناول في هذا الحوار قضايا عديدة متعلقة بالثورة: من أسباب انفجارها مرورًا برؤية يونس فيما حققته من انجازات واخفاقات، انتهاءًا إلى مدى صحة وفعالية الرؤى والسرديات المتاحة على الساحة السياسية في التعاطي معها.

المؤرخ شريف يونس
الدكتور شريف يونس

إلى نص الحوار:

بما أننا مقبلين على حوار مع مؤرخ يعمل بالمجال الأكاديمي ويهتم بالأطر الفكرية لفلسفة التاريخ، يمكننا أن ننطلق في حوارنا من التصنيفات الأكاديمية والفكرية لمفهوم الثورة، وربما يكون أبرزها تصنيف ألكسي دي توكفيل الذي تحدثتم عنه مرارًا في مناسبات مختلفة، صنف توكفيل الثورات إلى نوعان : ثورات اجتماعية ذات أثر اجتماعي جذري وأخرى سياسية ذات أثر محدود، كيف تصنف أحداث 25 يناير في إطار أطروحة دي توكفيل، وهل تعتبرها ثورة من الأساس؟

كتاب توكفيل

يمكن أن ننظر لأحداث 25 يناير بصفتها ثورة سياسية، بما أنها أسقطت نظام سياسي قائم وأسفرت عن قيام آخر جديد، ولكنها ليست ثورة اجتماعية تماثل الثورة الفرنسية أو الصينية أو البلشفية على سبيل المثال، وربما هي أقرب إلى ثورة 1848 في فرنسا التي غيرت نظمًا سياسية وأثرت على النظم الأخرى التي لم تسقط. من هذا الجانب يمكن اعتبار 25 يناير ثورة سياسية. ومع ذلك، يمكن أيضًا وصف حدث يناير 2011 بالانتفاضة، انتفاضة أدت إلى سقوط بناء سياسي هش وانهياره. وهنا يجب التأكيد على أن الثورة لم تُسقِط النظام بسبب قوتها، فهي لم تكن ثورة مسلحة ولم تحظ بقدرٍ عالٍ من التنظيم، كما كانت أقرب إلى نوع من العصيان العام… وُجد الناس في الميادين ولم تستطع الدولة إجبارهم على الرحيل، بينما كان النظام قد اضطرب داخليًا بفعل الحدث، علاوة على خضوعه لضغوط خارجية أبرزها ضغوط الولايات المتحدة. فالسبب الأعمق لسقوط النظام هو أنه كان هشًا بالفعل ويحتوي على تناقضات شديدة، فلم يتحمل وطأة الحدث المحدود الخطورة في 25 يناير.

 

رغم ذلك، اعتبر كثيرون أن ما آلت إليه يناير هو الفشل، قياسًا على الشعارات التي رفعها المحتجون، “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، وهو بالطبع قياس غير واقعي، حيث لا يمكن أن ننتظر تحقق شعارات على أرض الواقع في الفترة الزمنية الضيقة التي تداعت فيها الأحداث. بالنسبة لكم، هل كان لديكم توقعات كبرى بخصوص الثورة تتجاوز ما حدث بالفعل أثناء إندلاعها؟

بالفعل. الثورة، وأي ثورة، مدرسة، وقد تعلمت منها درسين غيرا رؤيتي جزئيًا للأوضاع المصرية. الدرس الأول بخصوص الديمقراطية. في البداية كان لدي سقف طموحات عالٍ نسبيًا، فكما شهدنا جميعًا، تسلم المجلس العسكري السلطة وورث عن مبارك دولة أكثر هشاشة مما كانت عليه، وكان المناخ منفتحًا إلى أبعد الحدود، من حيث حرية تأسيس الأحزاب والتجمعات السياسية وتنظيم التحركات الاحتجاجية، وبالتالي رأيت أن ثمة فرصة متاحة لتطور قوى ديمقراطية لم تكن موجودة في الوضع السابق. كانت رؤيتي للقوى المعارضة قبل 25 يناير تقوم على أنها قوى سلطوية سواء كانت قومية أو ليبرالية أو يسارية، كانوا جميعًا يرفعون شعارات ديمقراطية، لكن مضمون خطابتهم اتسم بالسلطوية. وأذكر أنني حين قمت بتحليل البيان التأسيسي لحركة “كفاية”، توصلت إلى أنهم يرون الديمقراطية بصفتها وسيلة للتخلص من سلطة خائنة.

حركة كفاية
احتجاجات حركة كفاية

 

ما الذي تعنيه تحديدًا بالسلطوية؟

أقصد أن الديمقراطية لم تكن متأصلة في فكر هذه التيارات، بل كانت وسيلة نحو التخلص من سلطة أدانوها لأنها خائنة وفق تصوراتهم، وليس لأنها سلطوية. وهذا المنطق نفسه هو الذي سمح لبعض الناصريين واليساريين أن يتحالفوا مع التيار الإسلامي، وكان كل من يتحفظ على هذا السلوك معرض للإدانة.

أعود إلى مسألة دروس الثورة. أثناء فترة ما بعد رحيل مبارك كنت أرى أن هناك فراغ سلطوي يسمح بنشوء تيارات ديمقراطية في خضم الأحداث. تذكرت وقتها تجربة الحزب البلشفي، حيث تحول في الفترة ما بين فبراير وأكتوبر 1917من حزب محدود العدد إلى حزب كبير منتشر في عموم روسيا. لم أكن بالطبع أنتظر نشأة حزب بقوة وتأثير الحزب البلشفي، لكني توقعت على الأقل نشوء حزب أو تيار ديمقراطي يبلور شعارات الثورة الديمقراطية بشكل سياسي، لكن هذا لم يحدث. أثبتت لي أحداث الثورة وما تلاها أن الواقع لم يخلق بعد قوى ديمقراطية منظمة وواعية يمكن أن تضع أسس نظام سياسي ديمقراطي.

تصوري الثاني الذي جعلتني الأحداث أتخلى عنه، هو أن الإسلاميين، وجماعة الأخوان بالتحديد، من مصلحتهم الحفاظ على الالتفاف السياسي الذي حدث حولهم، بحكم كونهم أكبر قوة شاركت في الثورة (متأخرًا), وكذلك الحفاظ على إطار ديمقراطي، ليس بسبب توجهاتهم الديمقراطية، فهم ليسوا ديمقراطيون بأي حال، لكني تصورت أن الإبقاء على الإطار الديمقراطي أفضل الخيارات لديهم. هذه التوقعات خابت مرة بعد مرة، فاضطررت إلى إعادة النظر في تصوراتي عن طبيعتهم لكي أفهم تصرفاتهم التي فضت التحالفات من حولهم، وجمعت معظم القوى في النهاية ضدهم، خصوصًا بعد وصول مرسي للسلطة.

فمثلا، فاز الإخوان بموقع رئيس الجمهورية بفارق ضئيل (51.5%) مع منافسهم أحمد شفيق، وحققوا هذا النصر الانتخابي  الذين حصلوا عليه عبر تحالف واسع مع بقية الإسلاميين وغيرهم من القوى، عبر إغرائهم بوعود بالتعاون وعدم احتكار السلطة. كما فازوا في ظل وضع سياسي هش، أي في ظل مشروع نظام ديمقراطي غير مؤسس بعد ويمر بمرحلة انتقالية. هذه الاعتبارات جعلتني أظن أن الإخوان لهم مصلحة مؤكدة في الحفاظ على هذا التحالف وتوسيعه. لكنهم, بدلًا من ذلك, شرعوا في اتباع نهج احتكاري ومتسلط في الحكم، وفي وضع الدستور، وهوما أفقدهم كتل حليفة هامة، في مقدمتهم السلفيين، التيار الأقرب إليهم في المنطلقات الفكرية… حينها أدركت أن سبب فشل توقعاتي هو أنني لم أفهم الإخوان جيدًا.

كتاب سيد قطب
كتاب سيد قطب والأصولية الإسلامية

وهكذا توصلت في النهاية، وقد أكون مخطئًا كذلك، إلى أن الأخوان ليسوا بحزب، لكنهم أقرب إلى الطائفة؛ فالحزب الجماهيري التقليدي يمارس، خصوصًا في هذه الظروف، سياسة متوازنة تُبقي على تحالفاته وتوسعها. لكن الإخوان لم يتصرفوا على هذا النحو، الأمر الذي فسرته بأن هذا التنظيم عبارة عن جماعة تربّت أو أعيد تربية أفرادها على قيم معينة، بداية من انتقائهم بعناية واختبارهم حتى مرحلة إشراكهم في النشاط  لمدة طويلة, قبل أن يتم إدماجهم في عضوية الجماعة. نتج عن هذه العملية أن الجماعة تحولت إلى طائفة أكثر منها حزب، طائفة تربوية قبل كل شيء، تربّت على أيديولوجية سلطوية خاصة مشبعة بفكرة “الاستعلاء بالإيمان”، ومبنية على مفاهيم من قبيل بناء الفرد المسلم والدولة المسلمة وأستاذية العالم، وعمومًا على أفكار البنا وقطب.

وفقًا للعقيدة الأخوانية، الجماعة هي ممثل الإسلام الأقرب إلى الصحة، وهي نواة الدولة المسلمة وأستاذية العالم. وبالتالي ليس لأعضائها ولاء إلّا لها، ممثَّلة في مرشدها، لا للدولة المصرية، ولا أي دولة أخرى. فسواء كان عضو الجماعة يعيش في بلد أغلبيته مسلمة أو في بلاد المهجر، يظل الوطن، أي وطن، في عقيدته مجرد حفنة من تراب، أو مجال يجب الاستيلاء والسيطرة عليه لمصلحة الجماعة.

وهكذا توصلت إلى أن سلوك الجماعة الذي بدا لي غير مفهوم، يمكن تفسيره عبر إدراك أن الجماعة لها طبيعة خاصة تجعلها أشبه بطائفة. فبناء على منطق الطائفة هذا، تكون الأولوية الرئيسية هو الحفاظ على تماسك الطائفة نفسها، بالتصرف وفق هذه العقائد، أولًا، ووفق الوضع السياسي ثانيًا.

كما أن هذه التركيبة شبه الطائفية القائمة على نهج تربوي، تجعل الجماعة بالضرورة عاجزة عن الثقة في القوى الأخرى لأنها لم تتلق نفس التربية، وبالتالي تميل الجماعة إلى خدمة نفسها وتمكين أعضائها في كافة مواقع السلطة على حساب الجميع، فينتهي الأمر بهذه القوى بالتجربة إلى عدم الثقة في الإخوان، وهو ما حدث بالفعل حين خسروا تأييد القوى الإسلامية وغير الإسلامية. كما تفسر هذه التركيبة شبه الطائفية استقرار الإخوان بعد تردد على ترشيح محمد مرسي في انتخابات الرئاسة، خوفًا من التأثير المدمّر على تماسك الجماعة الذي قد يُحدثه مجيء مرشح إسلامي آخر إلى السلطة.

كذلك يمكن أن تفسر هذه التركيبة الخاصة للجماعة عجز قيادتها عن اتخاذ القرار العقلاني بالتراجع بعد 30 يونيو وفض الاعتصام في ميداني رابعة العدوية والنهضة. فبعد عقود من شحن الأعضاء بمُثُل الدولة الإسلامية والاستعلاء باسم الإسلام، كان من شأن قرار كهذا أن يدفع بالجماعة إلى التفكك، حيث يسفر ذلك عن اتهام الأعضاء للقيادة بالتخاذل عن “نصرة الإسلام”، المُعبر عنه في حُكم الجماعة وممثِّلها في الرئاسة.

وقد ظهرت أراء أرجعت فشل الأخوان في السلطة إلى تدابير اتخذتها أجهزة الدولة لعرقلتهم، لكن أيًا كانت هذه التدابير، فإنها لا تفسر بحد ذاتها موقف هذه الأجهزة، كما لا تفسر المشهد العام الرافض للإخوان الذي شاركت فيه قطاعات جماهيرية واسعة… فمن جانت استفز سلوك الإخوان داخل أجهزة الحكومة قطاعات واسعة من موظفي الدولة، بممارسات الأخونة التي هددت التراتب الطبيعي في هذه المؤسسات ونظم العمل فيها. وعلى المستوى الأوسع، استفز سلوك أعضاء الإخوان الاستعلائي والتهديدي المتسلط قطاعات واسعة من السكان في الأحياء والقرى، ربما رغم اتفاق معظمهم مع الشعارات الدينية للأخوان.

هل يرجع تعثر المسار الديمقراطي لممارسات الأخوان المسلمين النابعة من أيدولوجيتهم فقط، أم أن هناك عوامل أخرى؟

في النهاية كانت القوى السياسية غير الإسلامية أضعف من أن تواجه أربعين عامًا من الصحوة الإسلامية وتأثيرها في الشارع، رغم أنها تمكنت من جمع بعض الأفراد الفاعلين في عشرات من التنظيمات الرسمية وغير الرسمية، لكنها لم يكن لديها القدرة على إحداث قدر من التوازن في مواجهة الإسلاميين، خصوصًا مع غياب الثقافة الديمقراطية لدى المواطنين المصريين، أسرى فكرة تولية الحاكم العادل والمستبد في نفس الوقت، بحيث يكون دور الشعب هو تفويض السلطة له. أثبتت هذه الحالة أن شعارات الثورة لم تكن قائمة على أساس واقعي، أو رؤية واضحة لمستقبل النظام السياسي في أذهان المواطنين، أو حتى الرغبة في تحديد معالم هذا النظام. وهو ما يفسر انفجار الاحتجاجات الفئوية على امتداد أعوام 2011 و2012 و2013، بالطبع ليس هناك مشكلة أن تطالب الفئات المختلفة بحقوقها الطبيعية، لكن كانت المسألة في هذه الحالة هي استغلال بعض الفئات لشعارات الثورة للحصول على المطالب، وبمجرد الحصول عليها يتوقف هذا الاحتجاج الفئوي. وهذا ما يعني أنها لم تأتِ في إطار تصور ثوري عام لدى القوى المحتجة.

حكومة الببلاوي
حكومة الببلاوي

علاوة على ذلك، كانت القوى المدنية مفتتة، واتضح ذلك في ضعف العلاقات التنظيمية الداخلية داخل معظم الاحزاب، وضعف قدرتها على قيادة جماهير الثورة. تجلت هذه الحالة في الرفض المستمر في ميادين الاحتجاج للوجود الحزبي فيها، بما جعل انتفاضة يناير تستمر في حالة انتفاض، بجمهور يعرف ما لا يريد أكثر مما يعرف ما يريد. ومع تشكل حكومة الببلاوي في 9 يوليو 2013 ظهرت النتائج الكارثية لهذا الوضع، أي غياب القيادة، فرغم تشكل الحكومة من شخصيات فنية وسياسية ذات خبرة وكفاءة، لم تدعم القوى المدنية هذه الحكومة، بل بالعكس، أُدين من شاركوا في الحكومة باعتبارهم تحولوا إلى حكوميين غير ثوريين. بهذا الشكل كانت الحكومة الأكثر ارتباطًا بالقوى السياسية، والأكثر ولاءً لشعارات الثورة، لا تحظى بأي دعم من هذه القوى، ولم يكن لأعضائها وضع قيادي، بالمقارنة مع الحكومات المدنية للوفد ما قبل ثورة يوليو. ولو كان هناك فرصة لنشوء قيادات سياسية للصفوف المدنية عبر هذه الحكومة، فقد قرر الفاعلون بمختلف توجهاتهم أن ينحوها جانبًا.

ألم يكن محمد البرادعي أحد القادة المُجمع عليهم بالنسبة لكثيرين في هذه الفترة؟

تحلى البرادعي بثقة قطاعات واسعة من المحتجين في البداية، وكان من الممكن أن يعقد الاتفاقات مع المجلس العسكري مثلًا، وتتقبلها هذه القطاعات. لكن البرادعي كان نموذجًا “ضد سياسي”، إن جاز التعبير، أي أنه كان يتصرف عبر منطق غير سياسي، بل ويكاد يكون معاديًا للسياسة. والدلالة الأكبر على ذلك هي استقالته من موقع نائب رئيس الجمهورية بعد أحداث 30 يونيو، دون أن يخطر على باله أن يستشير الحزب الذي أسسه قبلها، أو حتى يُخطره، بل وجه بيانه بالاستقالة للدولة والإعلام. وهكذا تحول البرادعي من قائد محتمل للثورة, إلى أحد النماذج التي مثلت استعراضًا مكثفًا لكافة مشكلاتها ونواقصها، وعلى رأسها غياب القيادة والتنظيم وسيادة الرؤى المثالية وعدم وضوح الهدف العملي.

مجمد البرادعي
محمد البرادعي

من وجهة نظركم ما هي طبيعة التناقضات السياسية التي نتجت عن 25 يناير، حتى وصولنا إلى مرحلة الاحتجاج الشعبي في 30 يونيو؟

حين ننظر إلى الأحداث الآن بعدما اكتملت، وبعد اتضاح ما كان ممكنًا وما كان غير ممكن، يبدو لي أن ثورة يناير سرعان ما تحولت بمجرد تنحي مبارك إلى صراع حول هوية الدولة، صراع بين الدولة الدينية والدولة الوطنية. في البداية، اختار الناس منذ استفتاء مارس 2011 على الدستور المؤقت هوية إسلامية للبلاد، اعتقادًا منهم بأن القوى الإسلامية ستحقق العدل والرخاء، وتأكد ذلك مع الانتخابات البرلمانية. لكن مع اتضاح الأبعاد الكارثية لحكم الطائفة الإخوانية للبلاد، أتت ثورة 2013 كرد فعل على هذا الخيار، فقد قامت لاستعادة الهوية الوطنية للبلاد، واستعادت قطاعات واسعة من الجماهير الإيمان بالدولة المصرية الحديثة، ذلك الإيمان الذي كانت عقود الصحوة الإسلامية الأربعة قد عصفت به.

كتاب نداء الشعب

ودعني استبق السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهنك الآن، حول الفرق بين نظام الأخوان ونظام ما بعد 30 يونيو، فقد يقول البعض أنه لا فرق، فقط حلَّ نظام سلطوي محل آخر. دعني أقول أنه نظام سلطوي بالفعل، لكن الفارق أنه لا يعمل لصالح جماعة تنظيمية محددة، أو طائفة كما وصفتها سابقًا، فهو منفتح مبدئيًا لمشاركة أفراد ذوي مشارب مختلفة، ويمكن أن يتحمل ميولًا أيديولوجية متعددة. ولعله من هذه الناحية يشبه نظام يوليو الذي احتوى في داخله على تيارات وأراء تترواح بين اليمين واليسار وتستند على مصالح مختلفة لفئات اجتماعية متنوعة. ليس الأمر كذلك بالنسبة للأخوان، فهم كجماعة عقائدية تلقت تربية تنظيمية خاصة، لا تستطيع أن تطمئن إلا بتمكين أفرادها وحدهم من مفاصل الدولة ومناصبها. 

هذه الفكرة أدين بها لمعايشة أحداث الثورة. قبلها لم ألحظ هذا الفارق، فكنت أعتبر أن السلطوية المستندة على الهوية الوطنية هي الوجه الأخر للسلطوية المستندة على الهوية الدينية، بل هي أساسها.

 

لايزال التساؤل مطروحًا حول الفئات الاجتماعية التي شاركت أو صنعت الحدث في 25 يناير، خصوصًا في الأوساط اليسارية، التي تعالجها عبر تصورين على الأرجح، تصور أول يذهب إلى أن فئات الطبقة الوسطى كانت هي العماد الرئيسي للأحداث، وبما أنها فئات وسطى فهي غير قادرة على الوصول بالصراعات إلى مراحلها النهائية وحسمها. وتصور ثانٍ يذهب إلى أن الأحداث شهدت حضورًا اجتماعيًا متنوعًا من الفئات الاجتماعية المختلفة، لكن لم يسفر الحدث عن تغييرات جذرية نتيجة لمناخ التضييق السياسي الذي ساد طوال فترة حكم مبارك وإضعاف المؤسسات المدنية من نقابات ومنظمات أهلية ومجتمع مدني، حيث تواجدت الفئات الاجتماعية المختلفة دون أن تجد لها تعبيرات تنظيمية تحركها وتقودها، وبالتالي تكون الثورة ضحية ما سبقها من أوضاع. في ظل هذين التصورين، ما هو تصوركم الشخصي؟

بالنسبة للتصور الثاني، أعتقد أن هناك سؤالين أساسيين يجب طرحهما، الأول هو لماذا ظل النظام السلطوي لمبارك مستمرًا طوال هذه الفترة، هل استمر على سبيل الخطأ التاريخي مثلًا؟ بعبارة أخرى، على أصحاب هذا الطرح تبرير لماذا عاش النظام طوال هذه الفترة. استطاع نظام مبارك أن يحافظ على توازنات بين القوى الفاعلة المختلفة في المجتمع، بإرضاء جميع الأطراف حسب أوزانهم النسبية في المجتمع، وحين يفكر أي من هذه الأطراف في الانقضاض على السلطة أو في أي نهج عنيف نحو ذلك يتم تأديبه وتقوية أطراف أخرى على حسابه.

السؤال الثاني الذي يصدُق على كثير من الأطروحات من هذا النوع، هل القضية هنا هي البحث عن مُذنب؟ إذا افترضنا أن الذنب يقع على نظام مبارك، هل هناك حل ينبثق عن هذه الإجابة؟ ماذا بعد الإدانة؟

أما بالنسبة للطرح الأول، فاعتقد أن الطبقة الوسطى لعبت دورًا مهما في الثورة، وهناك جمهور واسع شارك فيها. لكن سواء بالنسبة للطبقة الوسطى أو الفئات الاجتماعية الأخرى التي شاركت فيها، فقد عانت جميعًا من فقر تنظيمي وقيادي وفقر في الرؤية السياسية، فغَلَبت الأحلام وردود الأفعال على المواقف. هنا أشير إلى أن هذا العيب الجوهري كان هو نفسه سبب نجاح الثورة؛ فقد نجحت في إسقاط النظام لكونها حدثًا غير منظم من الأساس، بحيث لم يكن لدى أجهزة الأمن القدرة على تحديد الشخوص اللازم القبض عليهم لإيقاف الحدث. فأسباب نجاح الثورة قريبة من أسباب أزمتها. ثم أن الطبقة الوسطى نفسها كانت منقسمة بين التيارات الديمقراطية والتيار الإسلامي، وكذلك الجمهور، مع ترجيح كفة التيار الإسلامي من حيث الانتشار والتنظيم.

وهكذا كان من الطبيعي أن يحصد ثمار الثورة التيار الإسلامي الأكثر تنظيمًا والأكثر قدرة على الحشد والحركة، كما أن الوعي العام لدى عموم المواطنين، وأن حلموا بحياة سياسية ديمقراطية، كان متأثرًا بالصحوة الإسلامية بقوة، وبالتالي عادت فكرة المستبد العادل أو بالتعبير المصري “ربنا يولّي من يصلح”.

أريد بهذه المناسبة أن أعلق على التحليلات التى أتت من الغرب، والتي صنفت 25 يناير كعملية انتقال ديمقراطي، فقارنت مع أحداث سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، ومع غيرها. هذه التحليلات كانت غافلة في تقديري عن السياق الواقعي المصري تمامًا وطبقت بشكل آلي أفكارها المسبقة. كنا نطمح إلى قيام نظام ديمقراطي بلا شك، لكن ترتيبات الواقع لم تكن ملائمة لمسار كهذا. ففي ظل دولة هشة، أضعفها نظام مبارك، لم تكن الدولة القوية القادرة على حمل نظام ديمقراطي موجودة من الأساس، فضلًا عن الانقسامات وعوامل الضعف التي ذكرتها من قبل.

من منظوركم كمورخ، ما هي أهم منجزات انتفاضة 25 يناير؟

اعتقد أن أهم منجز أنجزته الثورة السياسية أنها أدت إلى وصول الأخوان المسلمين إلى السلطة، بعد أن أزاحت نظامًا يحكم بأجهزة دولة مفككة، فبدون ما حدث في يناير، كان سيبقى الأخوان المسلمين يسيطرون على وعي المصريين، وبالتالي يزدادون ميلًا إلى فكرة الدولة الدينية، في الوقت الذي كان فيه الفساد ينخر أجهزة الدولة الوطنية، بحيث يمكن القول أنه إذا كان هذا الوضع قد استمر لبضع سنوات، لكان من الأرجح أن يتسلم الإخوان السلطة على طبق من ذهب. هذا في تقديري المسار الذي أوقفته ثورة 25 يناير، لتأتي بعدها ثورة 30 يونيه لتحسم صراع الهوية عبر استعادة المصريين لفكرة الدول الوطنية, لتتسامى في وعيهم على أي تصور آخر لشكل الدولة.

ويمكن القول أيضًا أن ما أحدثته الثورة من وعي لدى قطاعات واسعة من المصريين، خصوصًا الشباب، سيترك أثرًا كبيرًا تراكميًا على المستقبل، نشهد معالمه الآن في اتساع الاهتمام بالشئون العامة وطرح الأفكار التنويرية والعلمانية بقوة ولدى قطاعات لا بأس بها، على خلاف الوضع في عهد مبارك.

صورة السيسي
المشير السيسي في 30 يونيو

رؤيتكم هذه تقودني إلى تصور قد يكون موجودًا لدى بعض الرافضين لثورة يناير، وهو التصور القائل بأن مبارك كان راحلًا دون الحاجة لحراك احتجاجي أو شعبي- حراك أدى لأزمة اقتصادية كبيرة، وأيضًا لعدم انتباه مصر لمصالحها القومية- أي أن رحيل مبارك كان حتميًا، ربما عبر تسلم القوات المسلحة للسلطة بشكل سلمي مرتب، باعتبارها الركيزة الرئيسية التي تقوم عليها الدولة المصرية، حيث لم يكن لتقبل القوات المسلحة أن يكتمل مشروع التوريث، ما رأيكم؟

صحيح أن القوات المسلحة كانت قادرة على التدخل لمنع التوريث لتتسلم السلطة بنفسها، ولكنها كانت سترث الشرعية المباركية الهشة- الشرعية الهشة التي نتجت هشاشتها عن عدم قدرتها على أن تكون استمرارًا لشرعية دولة يوليو، لاعتبارات تخص السلام مع إسرائيل والتبعية للولايات المتحدة وعدم وجود توجه محدد للدولة على المستوى الأيدولوجي- ومع الشرعية الهشة لنظام مبارك، كانت سترث أيضًا المؤسسات المفككة والاهتراء العام لمؤسسات الدولة والأوضاع السياسية الراكدة، ومعها كل التوازنات والقوى التي تدعم هذا التفكك، دون أن يكون لديها شرعية جديدة لإعادة بناء الدولة والانطلاق في مشروع تنموي حقيقي. رغم كل الخسائر، ما منحته الثورة للنظام السياسي الحالي لا يُقدر بثمن، فقد أتاحت له أن يتشكل في ظل دعم شعبي واسع، لم يكن ليحدث لولا أزمة تسلم جماعة الأخوان للسلطة وما ترتب عليها من أحداث. كان هذا الإجماع على استعادة الدولة الوطنية وإيقاف مسار الصحوة الإسلامية المدمِّر هو الذي منح النظام الجديد شرعية أتاحت له فرصة إجراء إصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة وتخليصها من عديد من شبكات المصالح الفاسدة التي أدت إلى اهترائها، والشروع في الإجراءات الاقتصادية الإصلاحية الصعبة، وهو ما لم يكن متاحًا للنظام السابق بشرعيته المحدودة والمختلة.

 

التعليقات متوقفه