في المدى قصير: أربع أزمات دولية تشكل العالم من ٢٠٢٤
لا يخفى على أحد ملامح تشكل نظام عالمي جديد، يتسم بالتعددية القطبية وتراجع لمراكز القوى العالمية التقليدية أمام قوى جديدة على مدى السنوات القادمة، وهي متغيرات لا يمكن رصدها إلا على المدى البعيد، بعد سلسلة مستمرة من الأحداث التاريخية التي تؤسس لأعمق أشكال التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية على حد سواء.
لكن على المدى المتوسط والقصير، ما هي أهم الاستشرافات التي يمكن أن تكشفها لنا مؤشرات وبيانات الزمن الحاضر بشكل يساهم في رسم ملامح المستقبل القريب؟ نرى أن هناك أربع اتجاهات أو ميول عالمية رئيسية قد تسود العالم في هذا العام والأعوام القليلة المقبلة.
1-تراجع الإيمان بالنظم الديمقراطية
يشهد عام 2024 حراكا ديمقراطيا طبيعيا، حيث تجرى عمليات انتخابية في جميع أنحاء الكوكب- ويتوجه أكثر من نصف سكان العالم إلى صناديق الاقتراع في أكثر من 70 دولة.
ومع ذلك، فإن حصة الديمقراطيات الليبرالية المقاسة بنصيبها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد انخفضت بشكل كبير من 1992-2022، والارجح أن يستمر هذا الاتجاه في الانخفاض.
وحتى داخل الدول الديمقراطية، فإن قبول النظام الديمقراطي يتناقص بشكل واضح بين المواطنين بسبب عدم كفاءة حكوماته وسوء سلوكها. يميل عدد متزايد من شعوب هذه الدول أيضا إلى التشكيك في نتائج الانتخابات بعد أن أصبحت عمليات انتقال السلطة قبيل السباقات الانتخابية أكثر صعوبة من ذي قبل. من المرجح أن تتزايد نسبة المشككين في شرعية الانتخابات في الولايات المتحدة والغرب بعد اتمامها.
وخير مثال على ذلك هو الوضع في الولايات المتحدة، حيث يعتقد ثلث السكان البالغين على الأقل أن الانتخابات الرئاسية لعام 2020 لا تتحلى بالشرعية. مثل هذا التشكيك في الديمقراطية يحيد اثنين من المزايا الرئيسية القليلة للعملية الديمقراطية ، وهي (أ) الشرعية المتصورة لدى عموم المواطنين و (ب) إمكانية الانتقال السلس للسلطة.
يترافق مع ذلك مقاومة شديدة للتيارات الليبرالية, مع رفض قطاعات أوسع من السكان خطابات النخب السياسية التقليدية. وعلى نفس الخط يتصاعد الرفض للحركات المنظمة جيدا في المجتمع الأمريكي مثل مجتمع الميم، فمطالبات حركة مثل مجتمع الميم تؤدي في نهاية المطاف إلى حالة من الاضطراب الاجتماعي الذي يحث النزعات المحافظة لدى عموم المواطنين.
كذلك سوف نشهد موجة رفض ضد ما يسمى بالصوابية السياسية وسياسات التي تسمى بسياسات “اليقظة” التي يصر أتباعها بشدة على الوعي اليقظ بال”ظلم المجتمعي”.
وكذا سينقلب المزيد والمزيد من الناس أيضا ضد تدابير حماية المناخ المتطرفة، بما في ذلك الخطط الشمولية (مثل أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة) لتقييد استهلاك اللحوم والملابس والتنقل واستخدام الطاقة، من بين أمور أخرى. في نهاية المطاف، ستخفض أسواق رأس المال حجم وعدد الشركات التي تنخرط في النشاط الاجتماعي والبيئي.
مع الأخذ في الاعتبار هذه التطورات الانعكاسية، يمكنني أن نفترض أن المنظمات التي لا تتسم بالصوابية السياسية لديها إمكانات كبيرة، حيث تتوسع الشركات التجارية والصناعية رغما عن أنف النشطاء البيئيين وتزداد الأحزاب المحافظة وضوحا في خطاباتها.
2-تصاعد صراعات الهوية
على الأقل على المدى المتوسط، سيستمر اختلاط المجموعات العرقية المختلفة، وهو ما يحدث بصورة مستمرة منذ عصور ما قبل التاريخ. ويرجع ذلك بالأساس إلى حركة الهجرة العالمية، ينطبق هذا الأمر على البلدان التي تحظى بكتلة متجانسة من السكان، مثل العديد من البلدان في أوروبا. بشكل عام، زاد معدل الهجرة في دول الاتحاد الأوروبي بشكل كبير من 2013-2021 ، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه خلال الأعوام القادمة.
في ألمانيا، أكبر اقتصاديات أوروبا، تضاعف معدل الهجرة أربع مرات منذ عام 2021، وفقا لأحدث تقرير للهجرة صادر عن الحكومة الفيدرالية. في عام 2022 وحده، هاجر 2.7 مليون أجنبي إلى ألمانيا. من ناحية أخرى، تتزايد الهجرة أيضا في البلدان التي يعتقد أنها’ بنيت من قبل المهاجرين ‘ مثل الولايات المتحدة الأمريكية. هناك، ارتفعت الهجرة بشكل ملحوظ من عام 2021 إلى عام 2022 على وجه الخصوص. مرة أخرى، لا بد أن يستمر هذا الاتجاه التاريخي، على الأقل في المدى المتوسط.
تحاول العديد من الحكومات الغربية اقناع ناخبيها بعديد من القضايا فيما يتعلق بالهجرة. مثل التزيد في تدابير قبول طالبي اللجوء – وأعمال ترحيل اللاجئين- كغطاء لإرضاء المزيد من القوميين والمحافظين، بينما يخفون في الوقت نفسه العدد الكبير من المهاجرين الذين يتحلون بدور اقتصادي في البلاد، وهو ما تطلبه الشركات العابرة للجنسية صراحة من عمالة مدربة مهنيًا.
ومع ذلك، فإن التدابير المتطرفة مثل التشجيع القوي للهجرة الجماعية غالبا ما تسفر عن عكس ذلك، وغالبا ما يؤدي الضغط في اتجاه واحد إلى ضغط معاكس في الاتجاه الآخر. وبسبب هذا الوضع، سيتمرد عدد متزايد من المواطنين على سياسات الهجرة المتبعة في الدول الأوروبية. كما سيقاومون صراحة مطالب التعددية الثقافية المصاحبة للهجرة، التي تقسم المجتمع وتؤدي إلى مزيد من صراعات الهوية، في هذا السياق، نجد أن أوروبا ستكون أكثر المتعرضين لها من أي رقعة جغرافية أخرى.
3-تزايد مستويات الدين العالمي
ونشهد أيضا اتجاها ضارا على المستوى العالمي يتمثل في زيادة الديون العالمية, حيث ارتفع الدين العام العالمي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بشكل حاد منذ عام 1999 إلى عام 2023. من المرجح أن يستمر هذا الاتجاه خلال الدورة الاقتصادية العالمية القادمة، مما يؤدي إلى تعثرات كبيرة للغاية على المدى المتوسط.
في سنوات الانتخابات، تقوم الحكومات عادة بزيادة الإنفاق الممول من الديون من أجل زيادة فرص إعادة انتخابها. إذا وصلت الحكومات الشعبوية إلى السلطة في عام 2024 وحاولت إرضاء مؤيديها بإنفاق استثماري أكبر، فسوف يستمر تصاعد الديون في التسارع.
الدين هو وسيلة مريحة لتمرير المشاكل المالية إلى الأجيال القادمة في نهاية المطاف، وتؤدي الزيادة في الديون إلى ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل. وتؤدي زيادة تكاليف الاقتراض إلى مزاحمة الاستثمارات، وبالتالي، إلى انخفاض النمو. بالإضافة إلى ذلك، تجبر الحكومات المثقلة بالديون المرتفعة على استخدام جزء أكبر بشكل متزايد من موازاناتها لتغطية مدفوعات الفائدة.
علاوة على ذلك، عندما تقع الدول في فخ الديون (دورة من الاقتراض المتصاعد حيث يتم الوفاء بالالتزامات المالية من خلال تحمل المزيد من الديون)، فإن احتمالات سداد جميع الديون بالكامل تنخفض أيضًا بشكل كبير. كذلك. ومع ارتفاع أسعار الدين والفائدة، من المتوقع حدوث رد فعل سلبي من الأسواق المالية، كما يتضح بالفعل من تحذيرات المستثمرين بشأن مستويات الدين العام غير المقيدة.
وفي الولايات المتحدة، تعد الزيادة في الدين الوطني هائلة، حيث ارتفع صافي إصدار سندات الخزانة الأمريكية الاسمية بشكل حاد من عام 2015 إلى عام .2023 وفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي، ستنمو مدفوعات الفائدة في الولايات المتحدة من أقل من 3 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 إلى 4.5 ٪ في عام 2028. لن يكون لمستوى الديون المتزايد عواقب سلبية على القوة العظمى نفسها فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى زعزعة استقرار العالم بأسره. ويرجع ذلك إلى أن دولا أخرى ملزمة باتباع المثال السيئ للولايات المتحدة.
4-صعود صيني رغم تباطؤ النمو.
منذ بداية سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين عام 1978، انتقلت الصين من كونها دولة نامية إلى ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وأصبحت دولة ذات إمكانات عسكرية هائلة.
ومع ذلك، فإن أداء اللحاق بالركب في الصين مقابل المنافسين الإستراتيجيين الآخرين لابد أن يتباطأ على الأقل في المستقبل القريب. أحد مؤشرات هذا الاتجاه هو حقيقة أن الناتج المحلي الإجمالي للصين كنسبة مئوية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة قد انخفض بالفعل بالقيمة الاسمية من 76 ٪ في عام 2021 إلى 66 ٪ في عام 2023.
ترجع بعض المشكلات في الاقتصاد الصيني إلى مزيج من العوامل الخارجية والداخلية المؤثرة. من ناحية، تحاول الولايات المتحدة وأوروبا تقليل اعتمادهما على بلد يصنفونه على أنه خصم. على سبيل المثال، في أعقاب إستراتيجية فك الارتباط الأمريكية، انخفضت حصة الصين من واردات الولايات المتحدة من السلع الصناعية بشكل كبير من 2018-2022. خلال نفس الفترة، زادت واردات الولايات المتحدة من دول وكيانات آسيوية أخرى، مثل فيتنام والهند وتايلاند، بشكل كبير.
من ناحية أخرى، يضعف الطلب الإجمالي في الصين نفسها، وتتفاقم المشاكل الهيكلية المختلفة على جانب العرض, فتعكس أسواق الأسهم في الصين مشاكل الاقتصاد الصيني. على سبيل المثال، اعتبارا من 10 يناير 2024، انخفض مؤشر شنتشن المركب بنسبة 12.3 ٪ مقارنة بقيمة الإغلاق في 30 ديسمبر 2022. في المقابل، خلال نفس الفترة من عام واحد تقريبا، نما مؤشر ستاندرد آند بورز 500 في الولايات المتحدة بنسبة 24.6 ٪ وارتفع مؤشر ناسداك المركب بنسبة تصل إلى 43٪.
نتيجة لانخفاض الجاذبية المتصورة للصين كوجهة استثمارية، انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين – الذي كان في يوم من الأيام مؤشرا رئيسيا للنجاح الاقتصادي بالنسبة للبلاد – من عام 2021 إلى الربع الثالث من عام 2023 ومن المتوقع أن ينخفض أكثر. في الوقت نفسه، تتحول تدفقات الاستثمار من الصين إلى مناطق أخرى، مثل الشرق الأوسط.
سيدفع هذا التحول الجزئي من الصين كوجهة للاستثمار العالمي, إلى اتجاه البلاد نحو مزيد من النشاط الاقتصادي للشركات الصينية الخالصة, والتي تتحلى بكثير من الخبرات المتعلقة بالإنتاج في سبيل التصدير للخارج.
وعلى الرغم من التباطؤ قصير المدى في صعود الصين الاقتصادي، فإنه على المدى الطويل، ما زال متوقع أن تلعب البلاد دورا مهما للغاية على المستوى العالمي. يعتمد هذا التوقع على الإمكانات الهائلة التي تتحلى بها الصين، والتي سيتم الاستفادة منها في النهاية جزئيا من خلال الإمكانيات الإدارية والتنظيمية التي لا تتميز بها أي دولى أخرى حول العالم، فالقدرة الاستثنائية للدولة الصينية تمكن من جمع كافة جهود القطاعات الاقتصادية المختلفة في مسار اقتصادي مخطط واحد، بفضل القدرات الإدارية المركزية العالية، التي يوفرها كيان منظم عملاق وشديد التماسك، وهو الحزب الشيوعي الصيني.
التعليقات متوقفه