د. عواطف عبدالرحمن تكتب :المسكوت عنه.. تاريخ اليهود في مصر

119

المسكوت عنه.. تاريخ اليهود في مصر
معاهدة “كامب ديفيد” لم تفلح في تشويه وعي الشعب المصري بحقيقة الصهيونية

أ.د عواطف عبد الرحمن

إذا كان من الثابت تاريخيًا إدراك شعب مصر المبكر لحقيقة الصهيونية خصوصًا بعد أحداث البراق (1929) فضلًا عن السجل الحافل من الشهداء والأسرى (120 ألف شهيد و22 ألف أسير) الذين قدمهم الشعب المصري في حروبه مع إسرائيل دفاعًا عن الأمن القومي المصري أولًا ومساندة الشعب الفلسطيني ثانيًا. فإن مرور 46 على المعاهدة المصرية الإسرائيلية المعروفة بـ “كامب ديفيد” لم يفلح في تشويه وعي الشعب المصري بحقيقة الصهيونية، وقد عبر عن موقفه في المقاطعة الشعبية الشاملة للوجود الإسرائيلي في مصر، مما جعل إسرائيل تطلق اسم “السلام البارد” على العلاقات المصرية الإسرائيلية، في ضوء ذلك يجدر بنا أن نسترجع ما قالته جولدا مائير بعد توقيع المعاهدة مع مصر قالت (إننا سوف نسعى بكل جهدنا على أن نحقق بالسلام مع مصر ما لم نستطع أن نحققه من خلال الحرب).
والمعروف أن الهدف من أي حرب هو إخضاع الطرف المهزوم لشروط الطرف المنتصر أي تركيعه وعدم تمكينه من النهوض لمقاومة الخصم سواء في الحاضر أو المستقبل، وهنا يحق لنا أن نولي جل اهتمامنا لكشف المستور واستجلاء المسكوت عنه خصوصًا ما يتعلق بمصر وشعبها بكل طوائفه وفئاته السياسية والاجتماعية والثقافية، ليس فحسب إدراكًا منا لوزن التاريخ الحضاري والسياسي الذي تشغله مصر، ولكن أيضًا وفاء للشهداء الذين قدمناهم وإنصافًا للتاريخ وتأكيدًا لحقنا المشروع في حياة تظللها الكرامة والسيادة بعيدًا عن مذلة الاستسلام للواقع المأساوي الراهن أو مسايرة المناخ السائد، ولسنا بصدد التذكير بأن الحركة الصهيونية قد أدركت مبكرًا الوزن الحقيقي لمصر، ولذلك بذلت ولا تزال تبذل قصارى جهدها لإبعاد مصر عن الصراع العربي الصهيوني في فلسطين وقد كان هدفها الاستراتيجي الدائم هو عقل مصر المتمثل في حكامه ومثقفيه وإرادة مصر التي تتمثل في شعبها بوعيه التاريخي النافذ وطلائعه المستنيرة الملتزمة.
والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه حاليًا وبإلحاح على المستوى المصري.. هو ماذا قدمت مصر (حكومة وشعبًا لليهود؟ وماذا قدم اليهود لمصر؟
هناك العديد من الحقائق التي أود أن أوجزها وأطرحها للمناقشة الموضوعية بهدف استكمال المشهد التاريخي.
تشير الحقيقة الأولى إلى اليهود المصريين والمكاسب التي حققوها في كل المجالات بفضل الرعاية الني قدمتها لهم الحكومات المصرية المتعاقبة في ظل مناخ اجتماعي وثقافي اتسم بالرحابة والتسامح والتواصل الإنساني الصادق من جانب الشعب المصري.
وتشير الحقيقية الثانية إلى الوجود الصهيوني في مصر والذي أغفلته، وقللت من خطورته بعض الكتابات التي تناولت قضية اليهود في مصر وقضية طه حسين ومجلة الكاتب المصري. يقودنا هذا إلى طرح الحقيقة الثالثة التي تتعلق بمواقف المثقفين المصريين من النشاط الصهيوني في مصر، ويأتي في هذا الإطار موقف مجلة “الكاتب المصري”.
وللإجابة عن السؤال المطروح ماذا قدمت مصر لليهود، سوف نسلط الضوء على الحقيقة الأولى التي تؤكد أن الظروف الذاتية والموضوعية لكل من المجتمع المصري والطائفة اليهودية قد ساعدت منذ النصف الأخير من القرن ۱۹ على أن يحتل اليهود مع سائر الأجناس مكانة كبرى في تشكيل الواقع الاقتصادي في مصر، إلا أن الرأسماليين اليهود كانوا يسهمون في إدارة وتوجيه حوالي 95% من الشركات المصرية ويسيطرون على جانب ضخم من رؤوس أموالها، بالإضافة إلى مصالحهم وإسهاماتهم في البنوك والمشاريع الأخرى.
ورغم أهمية وخطورة الدور الذي لعبه اليهود في الحياة الاقتصادية المصرية غير أن الطبيعة التي تميزت بها الطائفة اليهودية في مصر قد حالت دون مشاركتهم في الحركة الوطنية المصرية وجعلت التعبير الغالب من جانبهم لصالح دعاوى مضادة للتيار الوطني بل خلق منهم تربة خصبة للدعوة الصهيونية.
كما أن مشاركتهم في الحياة السياسية تميزت بالضآلة واقتصرت على بعض الأدوار الفردية. وإجمالاً فإن الوضع السياسي لليهود في مصر قد تميز منذ عهد محمد على حتى قيام ثورة يوليو 1952 بالاستقرار بسبب العلاقات الوثيقة التي كانت تربطهم مع جميع الحكام الذين توالوا على مصر مما ساعدهم على الاحتفاظ بامتيازاتهم في ظل جميع العهود السياسية ولم ينجح اليهود فحسب في السيطرة على مفاتيح الاقتصاد المصري فضلاً عن قدراتهم البارعة في استقطاب اهتمام ورعاية القيادات الوطنية ورؤساء الحكومات ورجال القصر، بل امتد نفوذهم فى محاولات متصلة لاجتذاب ومساندة وعطف القيادات الفكرية والسياسية في مصر، وقد نجحوا بالفعل في اكتساب ثقة ومشاركة كبار الكتاب والأدباء المصريين مثل طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل ولطفى السيد إلى الحد الذى ضمنوا به عدم إقدام هؤلاء الكتاب على الخوض في كشف النوايا الحقيقية للنشاط الصهيوني الذي كان يحاول التخفي خلف القناع الديني لليهود المصريين.
ومما يجدر ذكره هنا أن قيادات العمل الصهيوني في مصر كانوا ينتمون إلى الشرائح العليا من اليهود المصريين المنتمين أساساً إلى الثقافة الغربية والمرتبطين بالمصالح الأجنبية مما ساعد على انفصالهم اجتماعياً وثقافياً عن المجتمع المصري ككل من ناحية وعن أبناء طائفتهم من اليهود الأصليين في مصر من ناحية أخرى .
وهنا نفتح قوساً كي نشير إلى الذكريات الإنسانية الحميمة التي كانت تربط بين أهالينا من الآباء والأجداد من المسلمين والأقباط بإخوانهم من اليهود المصريين الأصلاء وإذا كان هذا العرض الموجز يقدم الإجابة عن الشق الأول من السؤال المطروح ماذا قدمت مصر لليهود، فإن الشق الثاني الخاص ماذا قدم اليهود لمصر يقودنا إلى الحقيقة الثانية التي تشير إلى الدور الذي قامت به الحركة الصهيونية لتوظيف وتجنيد اليهود في مصر لخدمة استراتيجيتها التوسعية في فلسطين والعالم العربي، وهنا كم الاختلاف بين المصادر التاريخية على تحديد البداية الفعلية المحاولات الاختراق الصهيوني لمصر وإن كان هناك شبه ترجيح لإرجاعه إلى زيارة هرتزل لمصر عام 19.3 لبحث مشروع الاستيطان اليهودي على المنشآت المصرية إذ أسفرت هذه الزيارة عن تأسيس جمعية بن زيون (بني صهيون) 19.8 وقد نجحت في استقطاب عدد كبير من يهود الإسكندرية كما اتسع نشاطها بعد تدفق آلاف اليهود اللاجئين القادمين من فلسطين وسوريا بعد صدور قرار الوالي العثماني بتحريم النشاط الصهيوني في يناير 1915 وقد تركز نشاط هذه الجمعية في البداية في تنظيم المحاضرات والاحتفالات التي تدعو إلى تحقيق أهداف المنظمة الصهيونية العالمية، ثم شاركت في تسهيل عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين مع لجنة مساندة فلسطين التي أسهم في تشكيلها كبار الرأسماليين اليهود في الإسكندرية بعد صدور وعد بلفور” 1917 وكان دورها الأساسي يتمحور حول كل ما له علاقة بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
وبانتهاء الحرب العالمية الأولى اتسعت أشكال الاختراق الصهيوني لمصر وتمثلت في منظمات الشبيبة الصهيونية ورابطة نوادي المكابي وتوج ذلك النشاط بتأسيس أول فرع للمنظمة الصهيونية العالمية عام 1918 برئاسة ليون كاسترو وإصدار المجلة كلسان ناطق باسم المنظمة الصهيونية. كما كان فرع الكين كايمث (الصندوق القومي لليهود) وسيلة أخرى لجمع التبرعات من اليهود المصريين لشراء أراضي فلسطين، وقد كانت له فروع في طنطا والمنصورة والإسكندرية وكانت الجمعية المصرية لأصدقاء الثقافة العبرية وسيلة فعالة لنشر الفكر والثقافة العبرية بين أبناء الطائفة إذ كانت تقوم بإيفاد بعثات دورية من يهود مصر إلى فلسطين حيث كانوا يتلقون دورات دراسية في الفكر الصهيوني يعودون بعدها إلى مصر. وقد أصبحوا كوادر قادرة على نشر هذا الفكر وترويجه.
هذا وقد انتعشت الدعاية الصهيونية في مصر خلال الثلاثينيات ففي إطار محاربة الفاشية تشكلت الهيئات اليهودية ذات الولاء الصهيوني وقامت بدور خطير في الترويج للفكر الصهيوني تحت غطاء مقاومة النازية والفاشية واستطاعت اجتذاب بعض كبار الكتاب والأدباء المصريين إلى صفوفها.
والواقع أن الحرب العالمية الثانية قد أتاحت للنشاط الصهيوني في مصر فرصة الاتساع والتنوع والفاعلية بسبب وجود العديد من جنود الحلفاء اليهود وخصوصاً المتطوعين الصهاينة الذين رحبت بهم المنظمة الصهيونية وأتاحت لهم سبل المشاركة مع شباب الطائفة الإسرائيلية في مصر في الأنشطة الدعائية وجمع الأموال والتبرعات وإرسالها إلى الوكالة اليهودية في فلسطين وقد ظل فرع المنظمة الصهيونية في مصر يمارس نشاطه كقاعدة رئيسية للاختراق الصهيوني داخل المجتمع المصري تحت اسم الاتحاد الصهيوني حتى إعلان قيام دولة إسرائيل فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة في مايو 1948 ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى الدور الذي قامت به المجموعات اليسارية من اليهود المصريين الذين بادروا إلى تكوين الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية في منتصف عام 1947 وقد حرصت هذه الرابطة على إبراز أوجه الاختلاف الجذرية بينها وبين الصهيونية وأسباب عدائها للحركة الصهيونية التي ترمى إلى تعقيد المشكلة بتحويل العالم العربي المعروف بتسامحه التاريخي مع اليهود إلى أرض خصبة للحركات المعادية لهم.
كما أكدت الرابطة على العلاقة بين الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية العالمية التي تريد استخدام اليهود لتأكيد سيطرتها على الشرق الأوسط وطرحت تصورها للحل الأمثل للمشكلة اليهودية وهو ضرورة سعى اليهود للمشاركة المخلصة في الحياة القومية للبلاد التي يعيشون فيها. كما أعلنت الرابطة رفضها الحاسم لسياسة الهجرة اليهودية على أساس أنها سوف تؤدى إلى حرب أهلية في فلسطين كما أنها تتعارض تماماً مع الأغراض الإنسانية المزعومة التي كانت تعلنها الحركة الصهيونية.
والواقع أنه ما كان للنشاط الصهيوني أن يوجد أصلاً في مصر فضلاً عن استمراره واتساعه لولا التسهيلات التي قدمتها السلطات المصرية خصوصاً أجهزة الأمن المصرية التي كانت في أيدى الإنجليز في ذلك الحين.
كذلك لعبت العلاقات الوثيقة التي كانت تربط الطبقة الحاكمة المصرية مع كبار الرأسماليين اليهود الذين كانوا يمثلون قوة أساسية في بنك مصر واتحاد الصناعات المصري. هذا وقد تواكبت أساليب الاختراق الصهيوني لمصر مع مراحل تأسيس ما يسمى بالوطن القومي اليهودي في فلسطين فإذا كانت مرحلة العشرينيات التي تلت صدور “وعد بلفور” قد استلزمت اللجوء إلى أساليب دعائية اتسمت بالحذر والتخفي وراء أقنعة مختلفة مستهدفة التأثير على الرأي العام المصري وكسبت تأييده وتعاطفه إلى جانب الحركة الصهيونية على أساس أن اليهود يسعون إلى إيجاد ملجأ في فلسطين لليهود المضطهدين فمرجع ذلك كان يستند إلى طبيعة المرحلة ذاتها التي لم تكن تسمح للحركة الصهيونية بأكثر من ذلك.
ولذلك حاولت التخفي وراء عدة أقنعة مثل صدور معظم الصحف الصهيونية باللغة الفرنسية مثل الفجر والمجلة الصهيونية وإسرائيل. كما حاولت التخفي وراء الواجهات الدينية مجلة (الاتحاد الإسرائيلي) أما الثلاثينيات فشهدت تدفق الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين تلك الهجرة التي شكلت التجسيد المادي لوعد بلفور وأصبحت تمثل سنداً فعلياً للحركة الصهيونية حينذاك اختلفت أساليب الدعاية الصهيونية كماً ونوعاً . وطرحت الصحف الصهيونية مفهوم الدولة اليهودية المستقلة كحل أمثل للمشكلة اليهودية بعد أن كانت تقصره في العشرينيات على الوطن القومي لليهود فحسب دون التجرؤ عن الإفصاح عن الهدف الحقيقي وهو الدولة اليهودية المستقلة.
ولقد كانت صحيفة إسرائيل أول صحيفة صهيونية تصدر باللغة العربية في القاهرة والإسكندرية عام 1920. واستمرت ١٤ عاما ورغم الوجه الصهيوني السافر الذي ارتدته هذه الصحيفة إلا أنها كانت تحاول أن تؤكد عدم تبعيتها للمنظمة الصهيونية. وبعد وفاة مؤسسها ألبير موصيرى عام 1933 واصلت زوجته ماتيلدا إصدار صحيفة إسرائيل وكانت تستحث يهود مصر على المشاركة في تمويل الصحيفة وكتبت نوفمبر 1933تقول :(لقد قمنا بنشر الدعوة الصهيونية طيلة هذه المدة والتبشير بالمبادئ الصهيونية والدفاع عنها ورد حملات خصومها عليها . وكم من مرة لفتنا نظر كبار رجال الصهيونية في الشرق إلى ضرورة وجود جريدة يهودية بلسان عربي فى مصر تتولى الدفاع عن الصهيونية وتنشر الدعوة لها).
أما الصحيفة الثانية التي صدرت في بداية الثلاثينيات وقدر لها أن تكون إحدى الدعائم الدعائية للحركة الصهيونية فى مصر. فقد كانت صحيفة الشمس، التي أصدرها سعد يعقوب المالكي عام1934 وقد حرص على أن يتجنب جميع السلبيات التي وقعت فيها صحيفة إسرائيل وأهمها عدم التسرع في الكشف عن الوجه الصهيوني لصحيفة “الشمس” بالإضافة إلى اهتمامه بعدم الاصطدام برجالات الطائفة البارزين وكانت تحظى باهتمام ومساندة كبار الرأسماليين اليهود وحاولت إقناعهم بتحويلها إلى صحيفة يومية، ولكن تصدى كبار رجال الطائفة للحيلولة دون تحقيق ذلك خشية إثارة المزيد من المشاعر العدائية ضد اليهود خصوصاً بعد انكشاف حقيقة الأطماع الصهيونية في فلسطين.
وعندما أقبلت الأربعينيات وأصبح تحقيق الوطن القومي اليهودي في فلسطين قاب قوسين أو أدنى وانكشف تماماً الخطر الصهيوني أمام أعين الرأي العام العربي والمصري من خلال الصدامات الدامية التي وقعت بين الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الحركة الصهيونية المدعومة بالمساندة البريطانية حينئذ أصبح لزاماً على الحركة الصهيونية أن تعيد النظر في أساليبها الدعائية وتحاول استحداث أساليب جديدة تتلاءم ومتطلبات المرحلة التي كانت تستلزم مواصلة تجنيد الطاقات البشرية لليهود المصريين من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي للصهيونية وسعياً لإنجاز هذا الهدف لم تقدم الحركة الصهيونية على إصدار صحف جديدة في الأربعينيات بل فوجئ الرأي العام المصري بأسلوب دعائی صهيوني جدید يتلخص في إصدار مجلة مصرية ذات طابع ثقافي ضمت نخبة من كبار المفكرين والمثقفين المصريين وبتمويل يهودي صهيوني وهي مجلة “الكاتب المصري” التي صدرت في أكتوبر 1945 وكان يرأس تحريرها طه حسين وقد تعرضت مجلة الكاتب المصري” لحملة عنيفة من جانب بعض الصحف المصرية مثل مصر الفتاة وغيرها متهمة إياها بالخضوع للسيطرة الصهيونية وأن الهدف من إصدارها هو العمل على استقطاب المثقفين المصريين لصالح الحركة الصهيونية من خلال شراء صمتهم إزاء الصراع العربي الصهيوني في فلسطين. وقد ثبت من متابعة أعداد مجلة “الكاتب المصري” تجاهلها للقضية الفلسطينية في الوقت الذي بلغت الصدامات العربية الصهيونية ذروتها في فلسطين ولم تخل صحيفة مصرية من متابعة هذه الأحداث بشتى ألوان الكتابة والتغطية الصحفية.
ونلاحظ أن مجلة الكاتب المصري كانت تخوض في مختلف القضايا السياسية المعاصرة بدءاً بمشكلة المضايق التركية ومستقبل آسيا بعد هزيمة اليابان والثورة الدامية في ملاجاش(جزيرة مدغشقر)، وذلك في إطار باب ثابت أطلقت عليه اسم (شهرية السياسة الدولية). وكان مخصصا لمتابعة الشئون والأحداث العالمية وكانت لا تمنح القضية الفلسطينية أكثر من عمود واثنين كحدث هامشي. كما كانت تقتصر على المعالجات الخبرية دون التعليق أو التحليل( “الكاتب المصري” ديسمبر 1945، أبريل 19946 يونيو 1946) ولا يمكن إرجاع ذلك إلى الجهل بالقضية الفلسطينية لأنها كانت آنذاك في ذروة تصاعدها.
كما يمكن ملاحظة النغمة الحيادية التي تناولت بها مجلة “الكاتب المصري القضية الفلسطينية من خلال معالجتها للأحداث ذات الدلالة في مصير القضية مثل قرار التقسيم 1947 إذ اكتفت بنشر الخبر وردود الفعل في الأوساط العربية والبريطانية فحسب، كذلك يلاحظ اهتمام المجلة بإبراز انجازات اليهود وإسهاماتهم في الثقافة والأدب العربي (الكاتب المصري أبريل 1949). ويقودنا ذلك الحدث إلى الحقيقة الثالثة والأخيرة والتي تتعلق بموقف المثقفين المصريين من النشاط الصهيوني في مصر، ولقد أحرزت الدوائر الصهيونية في مصر نجاحاً ملحوظاً فى اجتذاب اهتمام وتعاطف القيادات الفكرية والثقافية في مصر وذلك من خلال عدة أساليب ومحاولات انتهى معظمها بضمان تحييد المثقفين المصريين الذين ينتمون إلى التيار القومي المصري ويؤمنون بانتماء مصر للحضارة المتوسطية ويتجسد ذلك في حادثين مهمين أولهما اشتراك مصر في الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية عام 1925 بإيفاد لطفى السيد رئيس الجامعة المصرية آنذاك مندوباً رسمياً، وقد أثار اشتراك مصر في افتتاح هذه الجامعة الصهيونية احتجاج الفلسطينيين وكثير من القيادات الوطنية في مصر. وقد استغلت الدوائر الصهيونية حضور لطفي السيد لافتتاح الجامعة العبرية من الناحية الدعائية إلى مدى بعيد وشاركتها في ذلك وكالات الأنباء الأوروبية. أما الحدث الثاني فهو يتعلق بمجلة “الكاتب المصري التى تقدم أقوى دليل على المحاولات الصهيونية للنفاذ إلى العقل المصري من خلال استغلال جميع المداخل الثقافية والفكرية والأيديولوجية علمانية كانت أو دينية مستهدفة السيطرة عليه وكسبه إلى جانبها. وقد يكون من عدم الإنصاف أن نسجل لهذه المجلة عدم تورطها المباشر في الدعاية للأهداف الصهيونية، ولكنها أسهمت بقدر وافر في ذلك بعدم التصدي للحركة الصهيونية أو كشف حقيقتها أو تحديد موقف واضح للمجلة من الحركة الوطنية الفلسطينية خصوصاً أن الصراع الفلسطيني الصهيوني كان في ذلك الوقت الأربعينيات في ذروة اشتعاله. ولا شك أن شركة الكاتب المصري التي صدرت عنها المجلة كانت شركة كبيرة ومتقدمة تكنولوجيا بمقاييس عصرها ولكن ليس هذا كافياً لاستبعاد أي ريبة أو شك حول انتمائها الموالي للصهيونية خصوصاً أن مموليها من أسرة هراري كانوا ينتمون إلى الشريحة العليا من كبار الرأسماليين اليهود الذين ثبت تاريخياً دورهم الأساسي في تمويل ومساندة الأنشطة الصهيونية في مصر.

التعليقات متوقفه