ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :الدولة ومواجهة الغلاء

73

منذ نشأت الدولة الحديثة على مشارف القرن التاسع عشر، والدور المنوط بها هو حماية حقوق المجتمع أفردا وجماعات وإدارة شئونه، والبحث عن حلول لمشاكله، ووضع البدائل لها، والتنبؤ بها قبل تفاقمها وإنفاذ سلطة القانون، فى مقابل أن يؤدى المجتمع ما عليه من واجبات تتمثل فى دفع الضرائب، وتنفيذ ما يُلزم به القانون أفراده من واجبات خدمات وطنية عامة .تلك بديهيات فى علم السياسة لا اختراع فيها .أما الاختراع فهو ما يصف فيه عالم الاقتصاد الأمريكى ” جون جالبريث “التمرير الأيدولوجى لصورة مثالية لنظام السوق، بـ “اقتصاد الاحتيال البرئ”، لماذا هو احتيال على عموم الناس ؟ لأنه يمعن فى الترويج إلى أن علاقات السوق وفق المفهوم الرأسمالى التقليدى هى محض علاقات تنشأ بين أفراد، وأنها تمتلك القدرة على تنظم نفسها بنفسها، وأنها لا تنطوى على آليات للسيطرة والاحتكار، ولا تمتلك من القوة السياسية ما يرسخ نفوذ المؤسسات المالية والتنفيذية ومصالح من هم حولها من مستشارين وسماسرة ومستوردين وتجار وممثلين عتاة لهم فى المؤسسات التشريعية، بات من المتاح لهم، رسم السياسات الاقتصادية السائدة لنظام السوق، بما يخدم مصالحهم، والزعم من باب الخداع والتدليس، بأنها ركائز لخدمة المصالح العامة!.

ولأن ذلك كذلك، فليس فى “كتاب الدولة ” ما يلمح أو يوصى بالسياسة أو بالأحرى باللاسياسة التى يدير بها مسئولوها ملف انفلات الأسواق وارتفاع الأسعار والغلاء الذى يطحن الفقراء ومحدودى الدخل وأصحاب الدخول الثابتة، ويعجزهم عن مواصلة الحياة والحصول على حد الكفاف منها.
ليس من الدولة أن يطلب مسئولوها من المواطنين مراقبة الأسواق والإبلاغ عن المبالغات فى الأسعار، التى أصبحت متروكة فى الأسواق طبقا لحالات العرض والطلب، إلا إذا كانت أجهزة حماية المستهلك وغيرها من الأجهزة الرقابية المسئولة عن ذلك، عاجزة لأسباب شتى، عن القيام بأدوار وظائفها .وليس من الدولة أن يلوح مسئولوها فى مواجهة التجار المحتكرين للسلع الغذائية الذين باتوا يخزنونها طمعا فى مزيد من الأرباح مع الانخفاض المستمر فى سعر الجنيه، وتهديهم فى بلد يعانى من شح فى العملة الصعبة باللجوء إلى زيادة استيرادها من الخارج.
وليس من الدولة، أن تلجأ الحكومة إلى الفتاوى الدينية لمواجهة موجات الغلاء المتصاعدة دون رقيب فيصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ودار الأفتاء بيانات تحرم الاحتكار والمبالغة فى الأسعار لأسباب دينية، وتلحق بهما البرامج الدينية اليومية فى المحطات التليفزيونية وأئمة المساجد فى خطب الجمعة. فالمتاجرون بأقوات الناس والمتربحون من وراء ضعف سلطة الدولة، لا تردعهم المواعظ الدينية والأخلاقية، بل التطبيق الصارم للقانون، إذا ما كانت هناك إرادة سياسية راغبة فى مواجهة حفنة ممن يتحدون سلطة الدولة وقوانينها .
فى بلدنا دستور أقسم الرئيس السيسى أمس على أن يحترم نصوصه وأن يلتزم بالقانون، وأن يرعى مصالح الشعب رعاية كاملة . وفى نص الدستور أن النظام الاقتصادى يهدف إلى تحقيق الرخاء من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، ورفع مستوى المعيشة وخفض معدلات البطالة والقضاء على الفقر.والالتزام بمعايير الحوكمة والشفافية وضبط آليات السوق لحماية العاملين والمستهلك معا. كما يقضى بتحريم المساس بالملكية العامة ويلزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص دون تمييز بين المواطنين، والحفاظ على حقوق العمال، واتاحة الوظائف العامة على أساس من الكفاءة وليس الواسطة أو الاصطفاء.وهو طريق طويل وشاق، لم ينجز منه إلا القليل.
يخطئ من يظن أن الأمن يستطيع بمفرده أن يحفظ الاستقرار، ويخطئ من يفهم المصطلح بأنه استقرار السلطة التنفيذية فى مواقعها، ومواصلة تمسكها بالسياسات التى راكمت الأزمات الاقتصادية، وفى القلب منها الانخفاض المتوالى فى القيمة الشرائية للجنيه. فالاستقرار يصنعه قبل ذلك كله، ثقة المواطنين فى السياسات التى تحكمهم، وقبولهم عن طيب خاطر بها، وبالتضحيات التى تتطلب إنجازها، طالما يثبت لهم أنها توفر لهم الحصول على حقوقهم فى العيش الكريم وتأدية، متطلبات واجباتهم.
والمراهنة على غير ذلك، واستمرار الحال على ماهو عليه، هو مخاطرة فى المجهول، ومغامرة غير محسوبة النتائج.

التعليقات متوقفه