تحييد الناتو: إطار أمني روسي صيني قيد المناقشة

41

لم تشهد المنطقة الأوروأطلسية أزمة مثل أزمة اليوم منذ عقود؛ وذلك يخلق فرصة لتغيير حقيقي”.”  في خطابه السنوي أمام الجمعية الفيدرالية الروسية في 29 فبراير 2024، أكد الرئيس فلاديمير بوتين على الحاجة إلى إطار جديد للأمن المتساوي والمتكامل في منطقة أوراسيا. وأعرب أيضا عن استعداد روسيا للدخول في مناقشة موضوعية بشأن هذه المسألة مع الأطراف والمنظمات ذات الصلة.

وكانت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى الصين هذا الشهر إحدى تبعات هذه المبادرة. أبلغ كبير الدبلوماسيين في موسكو الصحافة عن اتفاق مع الصين لبدء مناقشة حول هيكل جديد للأمن في منطقة أوراسيا. وحقيقة أن اقتراح بوتين كان على جدول الأعمال بين البلدين الرئيسيين يشير إلى أنه قد يتخذ شكلا ملموسا.

تثير فكرة الأمن الأوراسي بطبيعة الحال أسئلة حول المبادرات الأخرى ذات الصلة. خلال زيارته لبكين، ربط لافروف بشكل مباشر الحاجة إلى إطار أمني جديد بالتحديات التي تواجه الأمن الأوروبي الأطلسي، والتي تتمحور حول الناتو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. والإشارات إلى التجربة الأوروبية الأطلسية هامة لسببين:

أولا، يتميز المشروع الأوروبي الأطلسي بدرجة عالية من التكامل المؤسسي. وهي تقوم على كتلة عسكرية (الناتو) تحافظ على التزامات صارمة لأعضائها. على الرغم من نهاية الحرب الباردة، لم يستمر حلف شمال الأطلسي فحسب، بل توسع ليشمل أعضاء سابقين في حلف وارسو. الناتو هو أكبر كتلة عسكرية وأكثرها استقرارا على مدى التاريخ.

ثانيا، فشل المشروع الأوروبي الأطلسي لما بعد الحرب الباردة في معالجة مسألة الأمن المشترك لجميع الدول في المنطقة. من الناحية النظرية، كان بإمكان منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أن تجمع، في مجتمع واحد، كل من دول الناتو والدول غير الأعضاء في الناتو، بما في ذلك روسيا. ولكن منذ أوائل عام 2000، شهدت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عملية تسييس فضلت مصالح الدول الغربية.

ونتيجة لذلك، أصبحت روسيا تنظر بشكل متزايد إلى توسع الناتو على أنه تهديد لأمنها, وقد أدى الافتقار إلى مؤسسات فعالة وعادلة قادرة على معالجة مخاوف روسيا بفعالية ودمجها بالكامل في إطار أمني مشترك إلى زيادة القطيعة، وفي نهاية المطاف، إلى أزمة في العلاقات مع الغرب.

وقد رافق هذا التطور تدهور المبادرة الدولية للحد من انتشار الأسلحة وتآكل المعايير الأمنية، على خلفية العمليات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة والتدخل في دول ما بعد الاتحاد السوفيتي. وجاءت الأزمة الأوكرانية تتويجا لهذه الأحداث، التي وصلت إلى مرحلتها العسكرية وستحدد في النهاية الحالة النهائية للانقسامات الأمنية الناشئة في أوروبا.

لم تعد المنطقة الأوروبية الأطلسية يُعبر عنها كمجتمع أمني واحد. بدلا من ذلك, فهي تعاني بالقطبية الثنائية غير المتماثلة، مع وجود حلف شمال الأطلسي من جهة وروسيا من جهة أخرى.

على خلفية الصراع العسكري المستمر بين روسيا وأوكرانيا، انطلقت مواجهة مكثفة ومتنامية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. لم يتصاعد هذا الصراع بعد إلى مرحلة عسكرية كاملة، لكنه يتجلى في أبعاد أخرى مختلفة، بما في ذلك حرب المعلومات وتقديم المساعدة العسكرية المباشرة والشاملة من الدول الغربية إلى أوكرانيا.

توازن جديد للقوى

في أحسن الأحوال،  يأمل المراقبون في الحد من حدة الأزمة الحالية من خلال توازن جديد للقوى ورادع متبادل، مع الاعتراف بالانقسامات الأمنية الناشئة. في أسوأ الأحوال، يمكن أن تكون هناك مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، مع إمكانية التصعيد النووي.

طرح الرئيس بوتين أن تجربة فشل المشروع الأوروبي الأطلسي تسلط الضوء على الحاجة إلى إنشاء إطار جديد بمبادئ وأسس مختلفة. أولا، يجب أن يستند هذا الإطار الجديد إلى التعاون بين عدة جهات فاعلة ويجب ألا يعتمد فقط على هيمنة أي طرف واحد، مثل ما يحدث في الناتو قاصدا هيمنة الولايات عليه. وفي هذا الصدد، أشار إلى أنه من المهم أن تبدأ المشاورات بشأن المسائل الأمنية الأوروبية الآسيوية بين روسيا والصين..

ومع ذلك، لا تقتصر هذه الخطوات على العلاقات الثنائية الروسية الصينية، ولكنها تترك أيضا مجالا لمشاركة الدول الأخرى المهتمة بالمساهمة. وقد تشكل مبادئ المسؤولية المشتركة وعدم الهيمنة الأساس لبنية أمنية جديدة.

وثمة مبدأ آخر يستحق النظر هو مبدأ الأمن المتعدد الأبعاد. لا يقتصر الأمر على المسائل العسكرية (على الرغم من أنها لا تزال أساسية)، بل يشمل مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك “التهديدات المختلطة” مثل الحملات الإعلامية، والأمن السيبراني، والتدخل في الشؤون الداخلية، وتسييس الاقتصاد والتمويل.

كانت هذه القضايا في العلاقات الروسية الغربية أحد الشروط المسبقة للأزمة الحالية. ويمكن أن تشمل المناقشة المتعلقة بهيكل أمني جديد هذه المسائل في مرحلة مبكرة. إن مبدأ عدم تجزئة الأمن، الذي لم يتحقق في المشروع الأوروبي الأطلسي، يمكن وينبغي أن يكون مبدأ أساسيا لمنطقة أوراسيا, كما شددت عديد من المناقشات الروسية الصينية بهذا الصدد.

إطار أمني أم تحالف

وبدء المشاورات بين موسكو وبكين بشأن إطار أمني جديد، بالطبع، لا يشير بالضرورة إلى تشكيل تحالف عسكري سياسي شبيه بحلف الناتو, بل من المرجح أن نشهد عملية مطولة لتطوير وصقل معالم الإطار الأمني الجديد. وقد يتخذ ذلك في البداية شكل منبر للحوار أو التشاور بين الأطراف المعنية، دون تحمل عبء الالتزامات التنظيمية أو المؤسسية المفرطة.

ويمكن استخدام المؤسسات والمنظمات القائمة مثل منظمة شنغهاي للتعاون لتحقيق هذه الغاية.  عندئذ يصبح ممكنا تحويل الخبرة المكتسبة إلى مؤسسات دائمة تركز على طائفة أوسع من المسائل الأمنية. ستكون القضية المهمة هي التوجه الوظيفي للهيكل الجديد. ظهر الناتو في الأصل كأداة للردع ضد الاتحاد السوفيتي، لكنه اليوم منح فرصة جديدة للحياة كرادع ضد روسيا. ومن الممكن أن يكون الهيكل الأمني الجديد في أوراسيا مصمما أيضا للردع الأمني في مواجهة خطر محدد.

كل من روسيا والصين في حالة من التنافس مع الولايات المتحدة، على الرغم من أن هذا في حالة روسيا قد دخل مرحلة علنية، بينما بالنسبة للصين لم يتجلِ بشكل كامل بعد. على الأقل فكرة مواجهة الولايات المتحدة بشكل مشترك تحظى بدعم في كل من موسكو وبكين.

وفي الوقت نفسه، فإن بناء هيكل أمني فقط لدرء واشنطن يحد من الشمول المحتمل للمشروع. يعتمد عدد من الدول الأوروبية الآسيوية على سياسة متعددة الأطراف ومن غير المرجح أن تكون مستعدة للمشاركة في هيكل يهدف إلى التنافس مع الأمريكيين.

ظهرت هذه المناقشات في مجالات حوارية مختلفة مشتركة في روسيا والصين, أبرزها منتدى فالداي في روسيا, لا تزال الفكرة غير مكتملة الأبعاد, على الأقل على المستوى الإعلامي, لكن يبدو أن فكرة وجود إطار أمني مشترك بين روسيا والصين لتأمين مساحة جغرافية مهولة من العالم هي فكرة تلقى قبولا من الطرفين على الأقل, ومن المرجح أن تتحمس العديد من الدول للانضمام لهذا الإطار, وهو ما سيكون بمثابة  المكافئ الموضوعي لحلف شمال الأطلسي, هذا الحلف الذي سيعمل, إن لم يكن للردع المباشر له, لكن على الأقل نحو تحييده.

التعليقات متوقفه