مصر وفلسطين .. إطلاله تاريخية

452

كتبت : أ.د. عواطف عبد الرحمن

من خلال الحرص على إبراز المواقف والاتجاهات التى تبنتها السلطة الحاكمة والقوى السياسية والرأي العام المصرى من القضية الفلسطينية منذ صدور وعد بلفور (نوفمبر 1917) وحتى توقيع أول معاهدة عربية صهيونية بين مصر وإسرائيل (مارس 1979) ثم اتفاق أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ولقد شملت حقبة زمنية تجاوزت تسعين عامًا تفاعل خلالها الواقع المصرى بمعطياته الاجتماعية والسياسية والثقافية مع الواقع العربى وفى قلبه القضية الفلسطينية بانتصاراتها وانكساراتها وبإصرار شعبها على استرداد حقوقه المشروعة، مستعينًا بكل أشكال النضال بدءًا بالمسيرات السلمية والمؤتمرات الشعبية وانتهاء بالانتفاضات المسلحة. ولقد تم التناول من خلال مرحلتين:

أولاهما: تبدأ بالعام الذى تقرر فيه رسميًّا الموافقة على صك الانتداب البريطانى على فلسطين وهو يوليو 1922. ويمثل هذا التاريخ البداية الفعلية لتأسيس ما يسمى بالوطن القومى اليهودى فى فلسطين وتنتهى فى مايو 1948. وهو العام الذى يرمز إلى ضياع فلسطين العربية وقيام دولة إسرائيل على حساب الأرض والشعب العربى فى فلسطين.

ثانيهما: تركز على ثورة يوليو المصرية 1952 التى خرجت من عباءة الصراع الدامى بين قوى التحرر العربية والقوى الصهيونية على أرض فلسطين فى حرب 1948.

وتشير مرحلة ما قبل قيام الكيان الصهيونى (1917-1948) إلى أن الاهتمام المصرى بالقضية الفلسطينية كان موجودًا على المستوى الشعبى خلال حقبتى العشرينيات والثلاثينيات. ولكنه تصاعد فى الأربعينيات والتحم بالاهتمام الرسمى وبلغ ذروته عام 1948. ويمكن رصد تطورات الرأى العام المصرى على النحو التالى:

كان الاهتمام بالقضية الفلسطينية محصورًا فى طبقة المهاجرين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.  وكان الاهتمام محصورًا فى الفئات الدينية طوال العشرينيات وقد كانت قضية البراق سنة 1929 هى الحادث الأول الذى أثار اهتمام الشعب المصرى بالقضية على نطاق واسع. وكانت المبادرة فى ذلك الموقف للفئات الإسلامية فى مصر. وخاصة جمعية الشبان المسلمين التى كانت تقيم اجتماعًا سنويًّا فى ذكرى وعد بلفور وتعقد المؤتمرات وتجمع التبرعات من أجل الشهداء الفلسطينيين. كما كانت تتبادل الزيارات مع فروع الجمعية فى المدن الفلسطينية (يافا وحيفا والقدس)، كما أوفدت من جانبها وفدًا برئاسة محمد على علوبه وعبدالحميد سعيد للدفاع عن ملكية العرب لحائط البراق أمام اللجنة الدولية التى شكلتها عصبة الأمم للتحقيق فى النزاع. وقد انتقل الاهتمام إلى سائر التنظيمات الشعبية مثل نقابة المحامين التى قررت إيفاد مجموعة من كبار المحامين المصريين للدفاع عن الأحرار الفلسطينيين الذين اعتقلتهم السلطات البريطانية فى أحداث البراق.

وتعتبر الصحافة المصرية فى العشرينيات مؤشرًا مهمًا للاهتمام الشعبى فى مصر بالقضية الفلسطينية. ففى الوقت الذى اتسم فيه موقف الحكومات المصرية إزاء القضية بالتخاذل وانعدام الاهتمام، بل وصل أحيانًا إلى حد اتخاذ مواقف معادية. كانت الصحافة المصرية بمختلف أجنحتها واتجاهاتها تتابع باهتمام تطورات القضية الفلسطينية من زواياها كافة، وتبدى تفهمًا عميقًا وإدراكًا مبكرًا للخطر الصهيونى فى فلسطين والعالم العربى. وقد ساهمت بالفعل فى خلق تراث من الاهتمام المصرى بالقضية الفلسطينية.

ومع منتصف الثلاثينيات بدأ الاهتمام المصرى بالقضية الفلسطينية يصبح أكثر اتساعًا ويضم قطاعات أوسع من الرأى العام والقوى السياسية المصرية.

أما فى الأربعينيات فيمكن القول أن فلسطين كانت محل الصراع  المباشر بين الحركة الوطنية المصرية والمعسكر الاستعمارى بنوعيه القديم الممثل فى بريطانيا والجديد الممثل فى الولايات المتحدة. وكان الصراع بين الاستعمارين البريطانى والأمريكى من أجل الاستحواذ على الشرق الأوسط بإمكاناته الإستراتيجية والبترولية ومحاولة التركيز على فلسطين باعتبارها المحور الذى سوف يمكن القوى الوطنية من تحقيق طموحاتهم وأهدافهم، علاوة على تحرك الصهيونية من بريطانيا إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. كل ذلك كان مدرسة تلقت فيها الحركة الوطنية المصرية دروسًا مهمة فى فهم دورها كجزء من قوى التحرر العربية فى مواجهة الخصوم الجدد والتقليديين معًا أى أمريكا وبريطانيا والصهيونية.

هذا وقد كان موقف مصر الرسمى من فلسطين، والذى أعلنته الحكومة المصرية على لسان ممثلها عبد الرازق السنهورى فى مؤتمر لندن فى نهاية عام 1946 تلخيصًا وافيًا لموقف الرأى العام المصرى بجميع مستوياته الرسمية والشعبية من القضية الفلسطينية، إذ عبرت مصر عن رفضها القاطع لأى شكل من أشكال التقسيم لفلسطين أو إقامة دولة يهودية فى هذا الجزء من العالم. كما أعلنت عن استعدادها للحيلولة دون تحقيق الهدف الصهيونى ولو أدى ذلك إلى استخدام القوة. وقد كان هذا الموقف بداية لسلسلة من الأحداث والقرارات التى اتخذت طابعًا حادًا تمثلت أولًا فى الاضرابات والمظاهرات الشعبية التى ازدحم بها الشارع المصرى تعبيرًا عن سخط وإجماع الرأى العام المصرى على رفض قرار التقسيم فى نوفمبر 1947.

وتمثل ثانيًا فى شعارات الكفاح المسلح ضد الصهيونية التى بدأت تطرح نفسها على الساحة المصرية منذ تلك اللحظات وانقسمت ازاءها القوى الوطنية. فالوفد رغم اعتراضه الكامل على قرار التقسيم لم يرفع شعار الكفاح المسلح، كما لم يدع إلى إنشاء كتائب لتحرير فلسطين بل تبنى هذا الموقف كل من جماعة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة. أما اليسار المصرى فقد انقسم إزاء تطورات القضية الفلسطينية فى الأربعينيات، إذ عارضت طليعة العمال والفلاحين قرار التقسيم وكانت تؤيد الدخول فى حرب ضد إقامة الدولة اليهودية، ولكن أيدت الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (حدتو) قرار التقسيم وعارضت الدخول فى الحرب من أجل فلسطين.

ثالثًا: لعل أبرز نتيجة توصلت إليها الدراسات تتمثل فى تلك الحقيقة المحورية وهى استمرارية المشروع الوطنى فى مصر كجزء لا يتجزأ من المشروع القومى العربى فى مواجهة استمرارية المشروع الصهيونى. فقد بدأ الصدام منذ اللحظة الأولى، وتمثل فى مواقف الرفض التى عبرت عنها صحف الحركة الوطنية المصرية. التى تبنت الرؤية الصحيحة لطبيعة الصراع الفلسطينى الصهيونى، رغم انبعاثها من تراث قومى مصرى لم يكشف عن اهتمامه الرسمى بالقضية الفسطينية إلا عندما برزت فى الأفق حتمية المساس بالمصالح القومية المصرية، نتيجة إقامة دولة يهودية على حدود مصر (حديث الزعيم مصطفى النحاس مع السير مايلز لامبسون 14 يوليو 1937).

رابعًا: لقد قامت ثورة يوليو المصرية عام 1952، كى تكشف عن الحلقة المفقودة فى حركة التحرر الوطنى العربية. إذ عبرت منذ اللحظات الأولى لقيامها عن وعى قياداتها بالعلاقة المصيرية التى تربطها بحركة التحرر العربية. كما أدركت أن قضية فلسطين دون كل القضايا العربية هى جوهر قضية التحرر العربى.

ومع المعارك المتصلة والدائمة التى خاضتها ثورة يوليو كانت حركة التحرر الوطنى العربية تواصل اكتشاف طريقها. لقد كان الجلاء عن مصر خطوة نحو تحرير فلسطين، وكانت معارك الأحلاف والمشاريع الاستعمارية وضرب احتكار السلاح ومؤتمر باندونج ثم تأميم قناة السويس 1956 وتحقيق الوحدة المصرية السورية 1958 دفعة هائلة لحركة النضال العربى، ويشير الخروج من الدائرة الاستعمارية. وحين انصرفت ثورة يوليو مؤقتًا لتدعيم طريق تطورها الوطنى والاجتماعى فى الأعوام التى تلت الانفصال عام 1961 لم يكن ذلك نكوصًا أو تخليًا عن التزاماتها القومية. بل كان يمثل حدى الحلقات التى ارتدت شكلًا جديدًا فى قضية التحرير العربية الفلسطينية.

وقد ظلت فلسطين قلب وجوهر القضية الوطنية المصرية وعبرت الصحافة المصرية خلال الحقبة الناصرية عن موقف السلطة السياسية لثورة يوليو التى احتكرت الإشراف على أدوات التعبير السياسى والإعلامى.

لقد نجحت إسرائيل فى إلحاق عدة هزائم عسكرية بالعرب فى أعوام 1948 و1967 ولكنه فى مقابل ذلك كان هناك إدراك عربى أن تلك الهزائم لا تعدو كونها هزائم مرحلية يمكن تعويضها فى معارك أخرى قادمة وقد تجسد ذلك الإدراك بأوضح صورة فى رؤية عبد الناصر التاريخية لطبيعة الصراع عندما أكد (أن قطعة من أرضنا قد تسقط تحت الاحتلال ولكن أية قطعة من إرادتنا ليست عرضة لأى احتلال) ولذلك رفع شعار (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة) وترجم هذا الشعار فى إطار من الإجماع العربى فى لاءات الخرطوم الأربعة (لا تفاوض – لا صلح – لا اعتراف – لا تصرف بالقضية الفلسطينية).

ولا شك أن انتقال الجماهير العربية من حالة الحماس والحيوية والتفاؤل التى رافقت حقبة المد القومى خلال الخمسينيات والستينيات والتى استمرت حتى حرب أكتوبر 1973 إلى حالة السلبية واللامبالاة التى أعقبت مسيرة التسوية مصريًّا وعربيًّا وقمع الانتفاضتين الفلسطينيتين ثم الاحتلال الأمريكى للعراق فضلًا عن القمع المنظم الذى مارسته الحكومات العربية ضد جماهيرها من خلال وسائل السيطرة المتنوعة بدءًا بالإعلام. ومرورًا بأجهزة الأمن علاوة على أساليب الإفقار والتجهيل. كل هذه الأسباب أدت إلى غياب رد الفعل الشعبى العربى تجاه الأحداث الجسيمة التى تعرض لها الوطن العربى وشكلت عنصرًا أساسيًّا فى تأسيس فترة الانحسار العربى.

ولكن كل هذه المظاهر السلبية لا تجعلنا نتجاهل استمرار نبض المقاومة والاحتجاج الشعبي الذى تجسد فى مواقف معظم القوى العربية غير الرسمية مثل الاتحادات والنقابات والأحزاب والجمعيات ومنظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الأكاديمية التى اتخذت مواقف ثابتة ضد إسرائيل والصهيونية منها على سبيل المثال الاتحاد العام لنقابات العمال العرب والنقابات المصرية العمالية والمهنية والاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب واتحاد الصحفيين العرب واتحاد المحامين العرب والجامعات المصرية والعربية.

التعليقات متوقفه