ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :حكايتى مع المكتبة

113

” إنت زعق لك نبى”. هكذا صاح بحماس وثقة بالغين الصديق العزيز الدكتور”عمرو النويجى ” تعليقا على تأثرى الشديد حين رويت له استعدادى لنقل مكتبة ” صلاح عيسى “إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية .ومعنى المثل الشعبى الذى أراد به دكتور عمرو، من فرط أدبه وأبوته الحانية -رغم أننى أكبره بثمانى سنوات – أن يقلل من حزنى وتعاستى من الخطوة التى أنوى الإقدام عليها، وأن يحفزنى على المضى قدما فى تنفيذها، معناه أن صوتا بمقام نبى قادم من البادية والصحراء، صاح لى يدعونى لكى أقطع ترددى وأنبذ خوفى، فمنحنى نعمة تقارب المعجزة ، لم أكن أتوقع حدوثها : زعقلى نبى فعلا وحقا، وطيب خاطرى وهزم جزعى وخوفى ، لأمضى قدما فى تلك الخطوة دون ألم أو حزن .أما لماذا خصنى النبى بذلك النداء الأسطورى الذى ابتدعته المخيلة الشعبية ؟ فلأن المكتبة تذهب إلى المكان الصحيح الذى يليق بصاحبها وبقيمتها الثقافية والمعرفية والتاريخية لتصبح متاحة أمام أجيال متعاقبة من الباحثين والدارسين وراغبى المعرفة .

لعل الدكتور “عمرو النويجى “وهو يخفف من جزعى، كان يفكر فى حاجته هو نفسه إلى “زعقة ” مماثلة، تساعده على أن تؤول مكتبة أبيه، المناضل الاشتراكى والمفكر السياسى الدكتور “على النويجى “إلى مكان يليق بما تحويه من عشرات الآلاف من أمهات الكتب والمراجع التراثية ،والتاريخ العربى والإسلامى والأوروبى والأمريكى والفلسلفة الماركسية بلغاتها العربية والأنجليزية، وهى مكتبة لاتزال تقبع فى منزل دكتور على فى دسوق بكفر الشيخ، منذ رحيله عام 2012.
أثمرت محاولة الدكتور”عمرو النويجى” نتائجها الطيبة . وكنت أفكر فى مصير تلك المكتبة منذ أودعت فى مكتبة الأسكندرية عام 2018 ، بعد سنة واحدة من رحيل صلاح ، وبنصيحة من الصديق “أيمن الحكيم “كما هائلا من وثائق قضايا التحقيقات الأمنية والقضائية التى ينطوى كثير منها على بيانات وبرامج ونشرات تلك الحركات التى تمت مصادرتها للتحقيق الأمنى والقضائى مع أعضاء وقادة الحركتين الشيوعية والإسلامية، منذ الثلث الأول من القرن العشرين وحتى نهايته .وكانت مكتبة الأسكندرية برئاسة الدكتور “إسماعيل سراج الدين “والعاملين معه، قد وافقوا على استلام تلك الوثائق ورحبوا بها، بإدراك حقيقى لقيمتها المعرفية والسياسية ، ووعدوا بإقامة ركن خاص بها يحمل اسم صلاح عيسى، قبل أن تتغير الأحوال بعد أشهر قليلة من تسلم تلك الوثائق، ويترك دكتور سراج الدين المكتبة، ويخلفه أخرون فى رئاستها .
جمع صلاح عيسى تلك الوثائق على مدار أربعين عاما من مصادر وأماكن شتى ومن أرشيف وزارة العدل ومن دار الوثائق ومن أفراد ممن كانوا ينتمون لتلك التنظيمات، ومن بائعى الكتب والوثائق، وقام بفهرستها وتجليدها، فى سياق مشروع بحثى كان يعمل عليه، ولم يمهله الزمن الفرصة لاستكماله .والمشروع الذى بدأ بالفعل العمل به، هو عن وثائق وتاريخ الحركتين الإسلامية واليسارية وموقعيهما من تاريخ مصر المعاصر، وتأثيريهما فى مستقبل التطور السياسى والديموقراطى للبلاد والمنطقة العربية .ولازلت أنتظر فرج الله وعونه، ووعود المسئولين عن إدارة مكتبة الأسكندرية، بعد أن أختفى من المشهد من تسلم الوثائق ووعد -هو من وعد ولست أنا -لفرط أهميتها أن توضع فى المكتبة باسم صاحبها، لتحديد مصير تلك الوثائق، بعد مرور ستة أعوام على استلام المكتبة لها .
زعق لى نبى فعلا، حين حالفنى الحظ، و هدانى تفكيرى للإتصال بالمؤرخ ووزير الثقافة الأسبق الدكتور صابر عرب،لأستشيره فى أفضل مكان يفضل أن تؤول إليه مكتبة صلاح عيسى . وبعد مكالمة هاتفية ممتعة، مع من هو مثقف كبير مثله ، أخذت الاقتراحات التى وضعها دكتور عرب وأشرف على تحريكها بنفسه، تدخل حيز التنفيذ، بسرعة فاقت كل توقعاتى . وبعد يومين من تلك المكالمة شرفنى بالزيارة الدكتور “أحمد الشربينى” رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية والدكتورة “ناصرة على “ومعهم مجموعة من شباب الباحثين ودارسى الماجستير والدكتوراه، لتفقد المكتبة، ووضع التصورات لسرعة نقلها لمقر الجمعية بمدينة نصر .
وخلال نحو عشرة أيام من الجهد المركز والمنظم والمنسق والمثابر، والبالغ الإتقان، أنجزت كتيبة من الشباب تحت إشراف الدكتور “محمد محروس” نقل نحو عشرة آلاف كتاب إلى مقر الجمعية المصرية للدراسات التاريخية . وضمت تلك الكتيبة من شباب الباحثين والباحثات كلا من يوسف حمزة ومحمد تمساح ومحمد عبد الحميد ومدحت كامل وعبد الرحمن طارق وهبة حسن واسراء سليمان . تذكروا جيدا تلك الأسماء التى ستلمع وتشع نورا فى مقبل الأيام فى مجال البحوث والدراسات التاريخية .
وبإتاحة المكتبة الشديدة التنوع والثراء أمام الجميع يحق لى القول بفخر : زعق لى نبى، فبهذا الاجراء تكون الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وقيادتها والباحثون والعاملون فيها قد منحوا صلاح عيسى حياة جديدة رغم غيابه، وأكدوا بجهودهم المخلصة للعلم والتاريخ الذى هو ذاكرة الأمة قول شوقى :
الناسُ صنفان، موتى فى حياتهم، وأخرون ببطنِ الأرضِ أحياءُ

التعليقات متوقفه