عن الخازوق الإثيوبي العظيم..الدكتور عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق يكتب للأهالي:

650

مثلما هي تهيؤات البحارة بالوصول بمراكبهم إلى بر الأمان، كانت ولا زالت تهيؤات الساسة الأثيوبيين والهواة من المسؤولين المصريين، بأن سد النهضة الإثيوبي العظيم، منذ الإعلان عن وضع حجر الأساس، وفي كل مرة يتم الإعلان فيه عن تعلية السد وملئه خلال مراحل الإنشاء، هي أنهم سيؤثرون على حصة مياه النيل الواصلة لكل من السودان و مصر.

خلال تلك الفترة التى قاربت ١٣ عامًا، وكنت مشاركًا و فاعلاً في بداياتها كرئيس أسبق لقطاع مياه النيل، ومعايش لأحداثها بدول حوض النيل، ثم شاهدًا ومعلقًا على أحداثها كأستاذ باحث بالمركز القومى لبحوث المياه، كانت وجهة نظري السياسية و قليل هم من يتحدثون بها أو عنها، وهي كره لنا، و كذا وجهة نظري الفنية المرتبطة بإيراد نهر النيل السنوي، ومناسيب المياه ببحيرة ناصر أمام السد العالي، والتي بكل أسف لا يتم الإعلان عنها من مسئولي المياه منذ سنوات ليست بالقليلة، لأجل عدم طمأنة المصريين باعتبارها سر وقدس الأقداس، فى حين توفرها كل دول العالم من خلال وسائل دولية وإقليمية بل ومحلية عديدة.

رؤساء وزراء خانهم التوفيق:

الغريب فى الموضوع أن تهيؤات هؤلاء الساسة و منهم من قضى نحبه مثل الراحل ميليس زيناوي، و منهم من ينتظر مثل الحالى أبي أحمد أقرب الى (الخيابة) السياسية، و كان قد سبقهم قبل ذلك الراحل هيلا ماريام منغستو في السبعينيات من القرن العشرين، خلال الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب، وحقبة الراحل محمد مرسي رئيس الجلسة السرية العلنية الشهيرة، وغيره مثل هيلا ماريام ديسالين – الذى وقع الإتفاق الإطاري مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس السوداني عمر البشير آنذاك فى مارس ٢٠١٥.

الحقيقة الفنية المؤلمة لهواة الابتزاز:

شاءت الأقدار ومن حسن الطالع، أنه في كل مرة يعلن الإثيوبيون عن تعلية السد، ومنذ بداية حجز المياه أول مرة في التعلية الأولى وحتى التعلية الخامسة، أن تكون بحيرة ناصر في أقصى حالات امتلائها، إلى الحد الذي كان لابد فيه من إلقاء المياه الزائدة كل مرة الى منخفضات توشكى بالصحراء الغربية، وفي البحر الأبيض المتوسط، و ذلك من أجل الحفاظ على أمان السد العالي.
خلال فترات التعلية وما قبلها منذ الإعلان عن إنشاء سد النهضة الإثيوبي العظيم، والذي أعلن عنه وعلى وجه التحديد الراحل زيناوي يوم ٢٨ فبراير ٢٠١١، وسماه آنذاك بسد إكس “X”، كان أن تعاقبت حكومات فى كل من مصر والسودان وإثيوبيا، و جاء وزراء مياه بالدول الثلاثة من الجماعات الارهابية، ووزراء من الهواة وليس المحترفين، والذين جعلوا من القضية مادة للابتزاز السياسي داخل دولهم والدول المتشاطئة على نهر النيل و روافده، من المنابع وحتى الفروع بشمال الدلتا.

الوسيط الأمريكي:

خلال حقبة حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان قد بادر بالقيام بدور الوسيط بين دول حوض نهر النيل الأزرق فى مصر و السودان وإثيوبيا، للوصول إلى صيغة مناسبة لملء سد النهضة ووضع قواعد لتشغيله، بالاستعانة بخبراء من وزارة الخزانة الأمريكية، الوزير ستيفن منشن وديفيد مالباس رئيس البنك الدولي، ووزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو الرئيس الأسبق لوكالة المخابرات الأمريكية.
و بعد أن توصل الخبراء الأمريكان و خبراء الدول الثلاث لِقواعد الملء والتشغيل، التي وقعت عليها مصر وتحججت إثيوبيا وأدعت أن لديها انتخابات رئاسية جديدة، وعدم قدرة الخبراء على السفر بسبب وباء كورونا، وعدم توقيع السودان إلا بعد موافقة كل الأطراف.
وجهة نظري المتواضعة أن كل من أثيوبيا والسودان أضاعَا الفرصة التاريخية التى وفرتها لهما الادارة الأمريكية آنذاك، وها هم يضيعون دولهم بحروب عرقية وصراعات حول الثروة والسلطة.

احتمالات المستقبل:

بعد توقف مسار المفاوضات الثلاثية في ديسمبر ٢٠٢٣ الماضي، وبعد انتهاء المدة الزمنية التي وافق عليها الرؤساء الثلاثة فى مصر والسودان وإثيوبيا على استكمال جولات التفاوض لمدة عام إضافي، يدور السؤال التالي: ألا وهو ماذا بعد؟

الخازوق الإثيوبي العظيم:

بعد هذه الرحلة الطويلة من الأحداث و التصريحات المتداولة من هواة الابتزاز السياسي من المسؤولين الإثيوبيين، ومن بعض الفنيين المصريين من عديمي اللون و الطعم و الرائحة السياسية، أعتقد أنه قد آن أوان زوالهم من المشهد، وبالفعل زال منهم الكثير، فقد أصبح ملحًّا ضرورة تغيير سياساتهم الفاشلة القائمة على اللعب على أحاسيس المواطنين البسطاء، وتبني سياسات جديدة لإدارة الماء والغذاء والطاقة، من أجل ترقية نوعية الحياة لمواطني دولهم، بدلاً من جلوسهم على خازوق سد النهضة الإثيوبي العظيم.

دور الإعلام والمؤسسات الدولية والإقليمية والمحلية:

بعد عمل مراجعة سريعة للتصريحات اللانهائية ممن أدعوا الخبرة بشؤون مياه النيل، وتاريخ الصراع حول مياهه، وكذا بمراجعة الأسئلة الموجهة لهم، سنجد أن معظمها كانت تصب فى اتجاه أن مصر ستعطش، و ستنقص حصتها من مياه النيل بمقدار عشرات المليارات، وستذهب لتدمير سد النهضة.
ومن أبرز التصريحات في هذا الشأن تصريح للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بقوله إن المصريين سَينسفون هذا السد في يوم من الأيام.
على جانب أخر وجدنا العديد من المنظمات الدولية والإقليمية التي شاركت في المفاوضات، حيث منظمة الاتحاد الأفريقي التى تولت رئاسة المفاوضات لعدد من السنوات، تناوب على رئاستها العديد من رؤساء الدول الأفريقية و لم تصل لنتيجة من خلال وساطتها بين دول حوض النيل الأزرق.
حتى مجلس الأمن الدولي الذى توجهت مصر إليه، وتمت مناقشة الأمر في أكثر من جلسة، وتولت العديد من الدول رئاسة جلساته، لم يصل إلى قرار حاسم سوى التوصية بالاستمرار في التفاوض.

السؤال المهم:

بعد أن تبين لنا أن موضوع سد النهضة وكل ما أثير حوله لم يؤدٌِ إلى عطش مصر، أو استفزازها، ولا تحولت إثيوبيا إلى دولة عظمى، و لكنها ظهرت في صورة دولة تحاول ابتزاز جيرانها، وتحاول أن تقنع شعبها والقارة الافريقية والعالم بأن خازوق سد النهضة التى جلست عليه لا زال يبحث عمن يجلس عليه.

و بناء عليه:

أعتقد أن الخطاب المصري داخل مصر وخارجها في حاجة لمراجعة، من واقع ما حدث بالفعل على الأرض، ومن واقع ما حدث فى جولات التفاوض اللانهائية المحلية والإقليمية والدولية.
الخطاب المصري الجديد عليه أن يفضح و بجرأة ما كان يكرِّره الأثيوبيون وغيرهم من دول حوض النيل، منذ بداية الحرب الباردة وحتى الآن، عن حصول مصر على نصيب الأسد من مياه النيل، من خلال معاهدات خلال حقبة الإستعمار الغربي لدول الحوض.
مصر لم تكن أبدًا ضد تنمية موارد مياه النيل في دول المنابع و حتى دول المصب.
الموضوع ببساطة شديدة أنه من المطلوب قواعد تشغيل وإدارة فنية كفؤة للسد، بدايةً حتى لا تغرق السودان، وحتى لا تتأثر مصر حال وجود سنوات شحيحة الإيراد، وأن تولِّد إثيوبيا الطاقة الكهرومائية لشعب لا طاقة لديه لمعظم سكانه، وغير قادر على الجلوس على مقعد الخازوق مرة أخرى.

بقلم /أستاذ دكتور متفرغ عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق.

التعليقات متوقفه