خلال 48 عاما من عودة الحياة الحزبية بشكل مقيد وتحكمى، باتت الرأسمالية الطفيلية ذات نفوذ سياسى قوى، بجانب نفوذها الاقتصادى الاحتكارى فى دوائر السلطة والحكم فى مصر منذ رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، الذى عمل باختياراته الاجتماعية على تقليص نفوذها الاقتصادى، ووضع قيودا على تحركها السياسى. تربعت تلك الفئات على قمة السلم الاجتماعى، ولم يكن يهمها لا فى الماضى ولا فى المستقبل، إقرار نظام ديمقراطى حقيقى. والسبب واضح، أنها تمكنت بثرائها الطفيلى فى عهد الرئيس السادات والفترات التى أعقبته، من السيطرة على كل المجالس النيابية والتشريعية، وعلى جانب كبير من السلطات التنفيذية فى المراكز وفى المحافظات. وشهدنا فى كثير من الأحيان وزراء فى المجموعة الاقتصادية، يتولون وزارات تشتبك مباشرة مع مشاريعهم الخاصة، فيما يعد تضاربا مفضوحا فى المصالح يحظره القانون. وعرفنا الأحزاب الحاكمة التى حازت على أغلبيتها بانتخابات غابت عنها النزاهة، وسادها فى الكثير من الأحوال، التحكمات الأمنية.
وعاصرنا محاصرة الأحزاب بالحملات الأمنية، وحملات التشويه المتعمدة من قبل أجهزة السلطة الإعلامية، ومصادرة الصحف التى تصدر عنها وتزوير الانتخابات ضد قيادتها . وكانت دراسة صادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية قد ذكرت أن 84% من تلك الحملات، كانت موجهها فقط ضد حزب التجمع!.
ومنذ الرئيس السادات مرورا بالرئيس مبارك وحتى الآن، اقتصر النظام الديمقراطى على مجرد السماح بتشكيل الأحزاب، وإقرار مبدأ التعددية الشكلية. فكما هو معروف على المستويين التاريخى والسياسى، أن الأحزاب تنشأ من أجل الوصول إلى الحكم أو المشاركة به. وأن آليات الديمقراطية، تمهد الطريق لكى يصبح تداول السلطة ممكنا بشكل سلمى، لاعنف به.
لكن التجربة المصرية كان لها رأى آخر. صارت التعددية فى حد ذاتها هى المظهر الوحيد والنهائى على ديمقراطية نظم الحكم المتعاقبة. زادت أعداد الأحزاب لا سيما بعد 25 يناير 2011 وفى ظل حكم جماعة الإخوان، ليصبح العدد كما يقول المثل الشعبى فى الليمون، سلعة شائعة يمكن الحصول عليها بثمن بخس. لكن المؤكد أن معظم تلك الأحزاب، ينطلق من أرضية واحدة تؤمن أن مستقبل مصر هو فى سيادة نمط اقتصاديات السوق الحرة، الذى يرفع يد الدولة من كل الأنشطة، لاسيما تلك الداعمة لأدوارها الاجتماعية، ويوكل إلى السوق والقطاع الخاص قضية التنمية.
مع أن تجارب مصر المعاصرة تثبت بالوثائق والأرقام والوقائع، أن الدولة لم تدخل فى مجال النشاط الاقتصادى، إلا بسبب تقاعس الرأسمال الخاص المتسم بطابع طفيلى، عن المشاركة فى الإنتاج، وأن الهدف من تدخلها كان من أجل الإنتاج قبل أن يضاف له الأبعاد الاجتماعية، فمازال هذا النمط سائدا بتحكم. أما مايتبع نمط السوق الحرة، من توسيع نظاق الحريات السياسية وحريات الرأى والتعبير والصحافة، فبات من المحرمات، ويحيط به التعتيم من كل جانب، رغم ما جلبه من مشاكل فساد عاتية، تعجز مؤسسات الدولة عن مواجهتها. ومن ثم دارت دائرة العمل الحزبى، دون أي ضمانات تتيح لها ممارسة عملها بحرية، أو تهيئ لها الفرص لكى تحوز على ثقة المواطنين فى انتخابات تتسم بمنافسة عادلة للحصول على أغلبية حقيقية لا مصنوعة ومختلقة.
كان من النتائج المتوقعة لهذا اللون الهش والمرتبك من الديمقراطية أن تضعف الحياة الحزبية برمتها. وأن تنشأ أحزاب للمتاجرة برخص الحج والعمرة، وأخرى لمتاجرة صحفها بمنح عضويات لنقابة الصحفيين للاستيلاء على البدل النقدى أو اقتسامه مع صاحب العضوية المشتراه، وثالثة للمتاجرة بالخدمات التى تمنحها الدولة لعموم المواطنين، ويتم اقتناصها عبر مواقع تنفيذية.
كان من نتيجتها أن يملأ الفراغ السياسى تيارات العنف والتخلف الاجتماعى والتطرف الدينى السائدة بقوة الآن، تفرض وصايتها على المجتمع. كان من نتيجتها أن تعزف الأجيال الجديدة عن المشاركة فى العمل الحزبى، وينصرف كثيرون من الفئات الوسطى عن دائرة نشاطه بسبب التهميش الرسمى له واستمرار الأبواق الدعائية للحكومات المتوالية للتشكيك فى جدواه والتقليل من شأنه، لكى يفتقد كل هؤلاء الثقة فى قدرة العمل الحزبى على إحداث أى تغيير نحو الأفضل أو مساهمته حتى فى الارتقاء بالعمل السياسى أو العام.
لعبت الأزمة الاقتصادية التى تتنامى عاما بعد آخر، بسب افتقاد الملف الاقتصادى لإدارة سياسية محترفة ورشيدة دورا كبيرا فى الوصول إلى تلك النتيجة. فقد نجحت مؤسسات المجتمع المدنى التى تتناسل بكثرة من بعضها، وتتنافس فى أنشطتها، فى أن تجذب إليها أجيالا من الحزبيين للعمل المجزى ماليا بين صفوفها، كان معظم من اجتذبتهم من بين صفوف اليسار وأعضاء سابقين فى حزب التجمع.
ولأن الحزبين الكبيرين فى الساحة السياسية وهما التجمع والوفد لايزالان يصارعان لجذب الحياة الحزبية لكى تقف على قدميها بدلا من رأسها، ويناضلان بأبنية حزبية تتسم بقدر من التماسك، وتحفل بالبرامج السياسية والقواعد اللائحية، فهو ما بات لا يروق لكثيرين من انتهازيين من داخلهما واستبدادين من خارجهما، لكى تبقى التعددية مشروطة، لا صوت يعلو فيها على صوت الرأسمال الطفيلى الحاكم!.
التعليقات متوقفه