عن تصريح جيما نونو كومبا واتفاقية عنتيبي ومياه النيل الدكتور عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق يكتب للأهالي :

884

بقلم / عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق يكتب للأهالي :

جرى العرف أن نأمل في حلول لمشاكلنا بأفكار من خارج الصندوق، ولكن مقال اليوم يتحدث عن مشكلة محتملة لمصر من خارج الصندوق، وبالأحرى من بعض من دول حوض النيل.

أين المشكلة؟

المشكلة غريبة بعض الشيء، حيث كانت مصر والسودان قد اتفقتا من خلال اتفاقية الانتفاع المشترك لمياه النيل الموقعة عام ١٩٥٩، على أن تحصل مصر على ٥٥.٥ مليار متر مكعب سنويًّا٠ و ان تكون حصة السودان ١٨.٥ مليار متر مكعب هي الأخرى، و أن متوسط البخر السنوى من بحيرة ناصر ١٠ مليار متر مكعب.
الآن ومع استمرار الحرب الدائرة بالسودان فإنه يأخذ أقل من حصته، وذلك لهجرة ونزوح المزارعين من مناطق الصراع في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأبيض و الدندر والرهد، وهي مناطق استهلاك كمية معتبرة من حصة السودان من مياه النيل.
يبقى السؤال وهو: أين تذهب تلك المياه المفترض استخدامها في المشروعات الزراعية بالسودان الشمالي؟ سنجد أنّ الإجابة البسيطة هى أن تلك المياه غير المستغلة ستجد طريقها إلى مصر، وعلى وجه التحديد إلى بحيرة ناصر.
قد يسأل سائل ويقول هل نمانع أن يكون الخير القادم خيرين؟
المشكلة يا سادة يا كرام أنه إذا ما التزمت مصر بتصريف حصتها المقررة من بحيرة ناصر إلى السد العالى، فإن المياه الفائضة من حصة السودان سوف تتجمع في بحيرة ناصر، ومع أي سنة مائية عالية الإيراد و بحيرة ناصر فى أقصى حالات امتلائها، سوف ترتفع مناسيب المياه بالبحيرة، وقد تصل إلى حد الخطر على السد العالى وعلى المصريين وضيوفهم من السودانيين من الشمال ومن الجنوب.

تصريح السيدة جيما نونو كومبا الغريب:

كتبت صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ الاثنين الموافق ١٥ يوليو ٢٠٢٤ تحت عنوان: قلق مصري بعد تصديق جنوب السودان على اتفاقية ” عنتيبى”، وفي المقال تصريح غريب من نوعه، هو أن السيدة جيما نونو كومبا رئيسة المجلس التشريعي الوطني الانتقالي بجنوب السودان (البرلمان) قامت بتسليم السيد رئيس جمهورية جنوب السودان سيلفا كير ميارديت يوم الجمعة الموافق ١٢ يوليو ٢٠٢٤، مشروع قانون للتوقيع عليه تحت عنوان “اتفاقية الإطار القانوني والمؤسسي للتعاون بين دول حوض النيل”، أو ما اصطلح على تسميته ب “اتفاقية عنتيبي”.

ما الذي تعنيه السيدة نونو؟

مع احترامنا للسيدة نونو، والتي من المفترض أنها تعلم أن حكومة الجنوب ملتزمة بتوارث اتفاقية ١٩٥٩ حتى بعد استقلال الجنوب عن الشمال، وأن الاتفاقية بها بنود ملزمة لاستكمال مشروعات استقطاب الفواقد من مناطق المستنقعات بالجنوب، وهي قناتى بحر الغزال وقناة جونجلى و تحويلة مشار، والتى من المفترض أن يكون إيرادها المائي السنوي ١٨ مليار متر مكعب سنوياً، تقسم مناصفة بين مصر والسودان شماله و جنوبه، و لذا أعتقد أنها غير واعية و لا مدركة بحقيقة الوضع المائي بجنوب السودان، على الرغم من معايشتها وعيشها في جنوب السودان، هي ومن قدم لها تلك الوثيقة للتوقيع، حيث الجنوب يذخر بكميات هائلة من الأمطار ومياه الأنهار، ومنها على سبيل المثال حوض بحر الغزال الذي يسقط عليه حجم أمطار ٥٥٠ مليار متر مكعب سنوياً، لا يصل منها سوى نصف مليار متر مكعب للنيل الأبيض، وكان الأولى بسيادتها أن تستشير مصر قبل قدومها على هذه الخطوة التى لن تقدم جنوب السودان بل بكل تأكيد ستؤخره.
و أرجو أن تعلم سيادتها أن مصر والري المصري بالسودان كان يقوم بعمل رحلات مساحية كل عام لمجاري الأنهار بدولة الجنوب حتى عام ١٩٨٣، ثم توقفت وحتى الآن بسبب الحرب الأهلية بين شمال و جنوب السودان و حرب الجنوب مع نفسه.

حقيقة اتفاقية ” عنتيبي ” المنقوصة:

فى مشهد هزيل و حزين لوزراء المياه بأوغندا و تنزانيا وكينيا وإثيوبيا عام ٢٠١٠ بالعاصمة الأوغندية عنتيبي، تم التوقيع على الاتفاقية التي أسميها منقوصة للعديد من الأسباب: أن عدداً من بنودها لم يحظَ بالتوافق بين دول الحوض، وأن النسختين بالانجليزية والفرنسية لم تأخذ فى اعتبارها ملاحظات مصر والسودان، وبكل أسف فإن السكرتارية لمبادرة حوض نهر النيل التي أعدتها كانت غير أمينة في إعداد النسخ التى تم التوقيع عليها.

هيا نلطم الخدود:

سأعطى هنا أمثلة للتخمة المائية التي تعاني منها بعض الدول الموقعة على عنتيبي المنقوصة و منها إثيوبيا التي بها ١٣ حوض نهر، بخلاف حوض النيل الأزرق، وأوغندا التي تقع معظم بحيرة فكتوريا داخل أراضيها و تشاركها تنزانيا و كينيا، و هي أكبر بحيرة مياه عذبة بأفريقيا و ثانى أكبر بحيرة مياه عذبة بقارات العالم، و مساحتها ٦٧٠٠٠ كيلو متر مربع و تعادل ١١ مرة مساحة بحيرة نأصر أو أكثر قليلاً من مساحة شبه جزيرة سيناء.
واحد سنتيمتر بخر يومي من فيكتوريا يعادل حصة المملكة الأردنية الهاشمية في عام، و ٣ سنتيمترات تعادل حجم المياه العذبة بدولة إسرائيل فى عام.
و فى المقدمة تحدثنا عن مياه حوض بحر الغزال بجنوب السودان.
و ها هى السيدة نونو تشارك جيرانها في دعاواهم بتقسيم مياه النيل بين دول المنابع و دول المصب.
و لا أملك سوى الدعوة للطم الخدود من كل من يقرأ هذا المقال على العمى الذي أصاب المتحدثين عن مياه النيل.
كل تلك الأحداث لم تؤثر على مصر، بل على العكس نحن قلقون من المياه الزائدة الواردة من دول المنابع و كذا عدم استخدام السودان لحصته.
و تأكيداً على ذلك فإن الواقع الهيدرولوجي خلال الخمسة عشر عاماً الماضية شهد فيضانات مروعة فى كل دول المنابع في أثيوبيا و أوغندا و جنوب السودان، حيث الكل كان يبحث لنفسه عن مخرج للمياه الزائدة و كانت مصر هى محطة النهاية.

كاتب هذه السطور لن يندم

و بما أنني كنت مسئولًا عن التعاون مع دول حوض النيل خلال العقد الأول من القرن العشرين، وبعد اتفاق نيفاشا عام ٢٠٠٥ ثم الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، وكنت قد تقدمت للحكومة المصرية بأن تدعم دولة جنوب السودان بمنحة لا ترد مقدارها ٢٦ مليون دولار، و بالفعل وافقت الحكومة و قمنا خلالها بتنفيذ العديد من المشروعات المائية لوزارة المياه بالجنوب، وأود أن أسأل السيدة جيما نونو إذا كانت تعلم عنها شيئا وعن المضايقات التي حدثت للفريق المصري ومرافقيه من الجانب السوداني، الذي تعرض فيه وكيل الوزارة الجنوبى للاعتداء عليه بالضرب من بعض الميليشيات الجنوب سودانية التى تحمى شركات استخراج البترول من الحقول بجنوب السودان، و مع ذلك تم الاستمرار فى تنفيذ مشروعات التعاون.
و قبل ذلك فى نهاية التسعينيات تم تقديم منحة لأوغندا ب ١٨.٣ مليون دولار أمريكى، و غيرها و غيرها من المنح.
ومع كل ذلك أعتقد أنني وغيري غير نادمين على تقديم تلك المنح.

نصيحة للإعلام المحلي و الإقليمي و الدولي:

خبر جريدة الشرق الأوسط لم يخلُ من التحذير من إعادة اقتسام المياه بين دول منابع حوض النيل و دولتي المصب: مصر وشمال السودان.
و من العناوين:
قلق مصري،
و خطوة صادمة لمصر،
و مصر ستعطش،
و دول المنابع لا تعترف بالاتفاقيات لأنها استعمارية،
و سنعيد تقسيم المياه لأن مصر تحصل على نصيب الأسد،
و قطع المياه عن مصر،
و نهاية التحكم المصرى في مياه النيل.
وسؤال هو اذن:
ألم تملوا من تكرار تلك العناوين؟ و أليس أولى بكم يا سادة يا كرام أن تحاولوا إنتشال تلك الدول من مصائد الفقر و الجهل و غياب برامج التنمية؟ من أجل الارتقاء بحياة تلك الدول وشعوبها.

و بناء عليه:

أنا لست قلقًا و لا مصدومًا من أفعال السيدة نونو، و التي يمكن تصنيعها تحت بند الابتزاز السياسى و أدعوكم ألا تقلقوا.

التعليقات متوقفه