لماذا جاء بيان الحكومة خاليا من البعد الثقافي؟

28

 

مثقفون: الثقافة الفريضة الغائبة عن برامج الحكومة

الحركة الثقافية خط الدفاع الأول عن الهوية

ضرورة وضع خطة متكاملة بين وزارة الثقافة والجامعات لتعزيز الدور التربوي والثقافي

إعادة هيكلة المؤسَّسات الثقافية وفقًا لما تتطلبه من كفاءات وخبرات

 

 

جاء بيان الحكومة خاليا تماما من أي دور للثقافة في المرحلة المقبلة، وهو ما أثار عددا كبيرا من المثقفين، ومنهم الكاتب محمد سلماوي، رئيس اتحاد الكتاب المصريين، والذي قال في مقاله المنشور بجريدة الأهرام بتاريخ 10 يوليو «بيان الحكومة الذي يفترض أن يحول التكليفات الرئاسية إلى سياسات وبرامج تنفيذية، جاء خاليا تماما من أي دور للثقافة».. وأضاف «بناء الإنسان لا يكون بالتعليم وحده، وإنما بحزمة المؤثرات المتكاملة التي تشكل وجدان المواطن، والتي تأتي في مقدمتها الثقافة بوزارتها التي أعتبرها سيادية لأنها تتصل بالأمن القومي».

يقول الناقد د. أحمد تمَّام سليمان، الأستاذ بكلية الآداب جامعة بني سويف، حول تصوُّر المثـقَّـفين للثَّـقافة في المرحلة القادمة في مرحلة جديدة من تاريخ مصر الحديث، وبعد إعادة انتخاب فخامة رئيس الدَّولة لولاية جديدة، ثـمَّ تعيين سلطةٍ تنفيذيَّةٍ جديدةٍ بوزرائها ومحافظيها، يطمح المثـقَّـفون إلى الاهتمام بالشَّـأن الثَّـقافيِّ، المصريِّ خاصَّةً والعربيِّ عامَّةً، وتختلف رؤى المثـقَّـفين وقناعاتهم وتصوُّراتهم حسب الأيديولوجيَّات المتعدِّدة والانتماءات المتـنوِّعة، وفي رأيي أنَّ هذا الاختلاف صحِّيٌّ بل مطلوبٌ، مادام يدعِّم الهُويَّة الوطنيَّة من جهةٍ، ويعلي المصلحة العامَّة على الخاصَّة من جهة أخرى.

والثَّـقافة لم تعد ترفًا أو رفاهيةً، بل صارَتْ ضرورةً وركيزةً؛ للدِّفاع عن الهُويَّة بشتَّى روافدها، فيجب تعزيز مقوِّماتها، والانتباه إلى معوِّقاتها، وإلَّا صار الشَّعب مسخًا، لا جذور ينتمي إليها ولا خصائص يدافع عنها، بدءًا من العمل على ترسيخ الوسطيَّة الدِّينيَّة للقضاء على موجات التَّـشدُّد، وترجمة الدِّين لا تكون باجترار الموعظة وإنَّما باستقرار منظومة الأخلاق الحسنة والقيم الإيجابيَّة.

خطط مستقبلية

ويضيف د. تمام قائلا: يمكن أن تضع الحكومة للغرس الثَّـقافيِّ ما تضعه للتَّوسُّع (الزِّراعيِّ والصِّناعيِّ والتِّجاريِّ والعمرانيِّ)، من خططٍ مستقبليَّة؛ بعضها آنِيٌّ أو مُلِحٌّ، وآخَر قصير المدى، وثالثٌ طويل الأمد، وذلك يستلزم إعادة هيكلة المؤسَّسات الثَّـقافيَّة، وفقًا لما تتطلَّبه من كفاءاتٍ وخبرات، تقرأ الواقع جيِّدًا وتتطلَّع إلى المستقبل بوعي، على أن تُراعي نقطتان: أولاهما عدم تغيير الاستراتيجيَّات بتغيُّر الأفراد، فالأفكار أرسخ من المناصب، ثانيتهما أن يُـقتطع من الموازنة العامَّة للدَّولة التَّمويل الكافي؛ لتنفيذ المشروعات الثَّـقافيَّة حتَّى لا تتوقَّف.

والعمل على التَّـنسيق بين المؤسَّسات الثَّـقافيَّة الرَّسميَّة، فهي غالبًا تعمل في جزر منعزلة؛ لذا تتشابه بعض الأنشطة وتتكرَّر بعض الفعَّاليَّات، تبعًا لرغبة بعض المسؤولين، وقد تُـتجاهل بعضها لأنَّها لم تحظَ بهذه الرَّغبة، رغم احتياج الجمهور إليها، وعادةً ما يكون الاهتمام منصبًّا على جمهور العاصمة لما يحظى به النَّشاط من تغطية إعلاميَّة، بينما تظلُّ الأقاليم والأطراف متعطِّشةً إلى الخدمة الثَّـقافيَّة.

وتفعيل بروتوكولات بين المؤسَّسات الثَّـقافيَّة الرَّسميَّة (مثل: المجلس الأعلى للثَّـقافة والمركز القوميِّ للتَّرجمة والهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة وصندوق التَّـنمية الثَّـقافيَّة والهيئة العامَّة للكتاب)، والوزارات والهيئات المعنيَّة (مثل: وزارة التَّـربية والتَّـعليم ووزارة التَّـعليم العالي ووزارة الشَّباب والرِّياضة ووزارة الأوقاف ووزارة السِّياحة والآثار والإعلام، والأزهر الشَّريف والمجلس الأعلى للشُّؤون الإسلاميَّة ومجمع اللُّغة العربيَّة والمجمع العلميِّ)، كذلك تفعيل بروتوكولات بين المؤسَّسات الثَّـقافيَّة الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة؛ لإمكانيَّة الانطلاق نحو تحقيق مقترحات مبتكرة.

والبحث عن الموهوبين منذ الطُّفولة في العلم والأدب والفنِّ ورعايتهم ودعمهم، من خلال مسرحة المناهج ومسابقات أوائل الطَّلبة والأشبال والكشافة… وغيرها، فالأداء المستقبليُّ للمسئول الموهوب الَّذي حظي بالرِّعاية والدَّعم منذ صغره سيختلف عن أقرانه، في الابتكار والإجادة والدِّقَّة.

والعمل على زيادة هامش الجمال في المجتمع؛ ليحدَّ من هامش القبح المستشري، فحرص الأسر على تعليم أبنائها جيِّدٌ، والأجود أن يتمتَّع هذا المتعلِّم بالانخراط في مجتمع القراءة، والعزف على آلة موسيقيَّة أو ممارسة لعبة رياضيَّة في أثناء رحلته التَّعليميَّة، ربَّما تحدُّ هذه الأنشطة من توتُّره وترقُّ من طبعه، وتدرِّبه على الاندماج في فرق العمل، وتغرس فيه قيم التَّـشارك والتَّعاون.

وتيسير حصول قصور الثَّـقافة على نسبتها من موارد المحافظات؛ لاستثمارها في برامجها الثَّـقافيَّة، وتبنِّي هيئة الكتاب طبع المجلَّات الثَّـقافيَّة والأدبيَّة الَّتي تفتقر إلى التَّمويل، فقد توقَّـفَـتْ مجلَّة “الشِّعر”، ولولا دعم الهيئة لمجلَّة “أدب ونقد” لتوقَّـفَـتْ، وبوجه عامٍّ فهناك ضرورةٌ ملحَّةٌ لزيادة مكافآت الباحثين في المؤتمرات، والمحاضرين في النَّدوات، والكُـتَّاب في المجلَّات، والمبدعين في العروض، والأدباء في النَّوادي… وغيرهم، بما يتناسب مع ضغوط العصر ويضمن استمراريَّة الإبداع.

وتفعيل دور نوادي الأدب في قصور الثَّـقافة والمدارس والجامعات والنِّقابات وغيرها، وحال عمل الأحزاب السِّياسيَّة يجب الاهتمام بتنشيط اللِّجان الثَّـقافيَّة فيها، ولعلَّ ما تفرِّقه السِّياسة تجمعه الثَّـقافة، خاصَّةً إذا تمركزَتْ حول الهُويَّة، وتنظيم لقاءات تجمع رموز الثَّـقافة ومبدعيها برجال الأعمال الوطنيِّين؛ للتَّـنسيق فيما بينهم على دعم الأنشطة الثَّـقافيَّة، ومواجهة تحدِّياتها الجسيمة.

 

الفريضة الغائبة

يؤكد الشاعر د. أحمد صلاح كامل أن الإبداع والأدب والفن والثقافة كلمات تبدو عديمة الجدوى والفائدة على المستويات المادية والمالية والاقتصادية في أي فكر رأسمالي متجرد وعقيم، لكن لتفهم وتدرك قيمتها فعليك أن تتخيل مصنعًا لإنتاج الأقمشة بلا ألوان وبلا مصمم أزياء وبلا مسوق ماهر وواعي يراعي تناسب تلك الأقمشة مع أمزجة الناس المتفاوتة، هل يصبح لهذا المصنع بإنتاجه المادي الكبير أي قيمة بغير هذه الأشياء؟ بالتأكيد لا وألف لا.

وإذا كان فكر أي حكومة ينصب فقط على الاهتمام بالمشاريع ذات العوائد الاقتصادية العاجلة دون النظر لأهمية الأبعاد الثقافية لتلك المشاريع وانعكاساتها على واقع الناس وحياتهم وأثر ذلك عليهم وردود أفعالهم تجاهها، فإنها تكتب بذلك شهادة الوفاة لكل مشاريعها ولجهودها الحالية والمستقبلية، فلا يعقل أن تهتم باستخراج الذهب والحديد والمعادن من المناجم في صورة كتل معدنية ضخمة دون النظر في كيفية صياغتها وتشكيلها وتسويقها بما يتناسب مع احتياجات الناس ورغباتهم المادية والنفسية والمزاجية، وهذا الجانب الأخير هو الإبداع والفن والثقافة، هو الروح التي تحرك الجسد، هو القلب الذي يضخ الدماء في شرايين الحياة.

ويضيف د. صلاح قائلا: في مصر لدينا الكثير من المؤسسات والهيئات التي تُدْعَى كذبًا وزورًا بالثقافية يتسلط عليها عظامٌ نخره وخُشبٌ مسندة، ويُخْتَارُ لقيادتها أصحابُ الولاء أو متصنعوه وليس أصحاب الكفاءة والمشاريع الثقافية الحقيقية، وتعمل بمنطق ونظام كتاتيب القرن التاسع عشر، فلا يجمعها هدف واحد ولا خطة واضحة ولا غاية وطنية، وإنما تسودها مصالح القائمين عليها وشللهم من ماسحي الجوخ والمقربين، وإذا ادعت إحداها الموضوعية والحياد فهي موضوعية انتقائية وحياد منحاز لفئة دون غيرها، ووزارة الثقافة لا تضع مشروعًا قوميًّا واضح الملامح للاستفادة بما تملكه مصر من طاقات أدبية وإبداعية وفنية وثقافية تتهافت الكثير من المؤسسات الثقافية العربية عليها وعلى توظيفها نتاجها لخدمة مشرعها، فإذا جاء وزير محا أثار من قبله وأزال رجال سلفه وعين من يدينون له، فلا توجد استراتيجية ثقافية طويلة الأمد يقاس عليها مدى نجاح هذا الوزير أو فشله في تنفيذها، وإنما كلها مشاريع فقاعية

رؤية اجتماعية

ويقول الباحث والناقد محمد صلاح غازي بوصفي باحثا مختصا فى علم اجتماع الأدب والانثروبولوجيا الثقافية، فهناك اتجاهين فى تعريف الثقافة، الأول ينظر إلى الثقافة على أنها تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات العقلية. والثانى ينظر إليها على أنها (النمط الكلى لحياة شعب ما ، والعلاقات الشخصية بين أفراده ، وكذلك توجهاتهم) ومن خلال انحيازي للاتجاه الثانى (النمط الكلى لحياة شعب ما) ومن خلال الرصد الأثنوجرافى لحركة الشارع المصرى فى الفترة الأخيرة تبين لنا انتشار ظواهر ثقافية – اجتماعية سلبية على رأسها ظاهرة التدنى الأخلاقي لبعض الشرائح الاجتماعية وخاصة من جيل الشباب والمراهقين ، ومظاهر متنوعة من حالات القبح الاجتماعي والعنف الرمزي والاجتماعي، ويساعد على ذلك اتساع مساحة وقت الفراغ لهذا الجيل، مما أثر سلبا على البنية الاجتماعية والثقافية للشخصية المصرية.

ويضيف غازي قائلا: أرى أن دور وزارة الثقافة، من خلال جهاز يمتد باتساع الجمهورية وهو الهيئة العامة لقصور الثقافة وبالتعاون مع مراكز الشباب والمدارس والجامعات المصرية فى وضع خطة ممتدة تحتوى على برامج متنوعة تهدف إلى إعادة بناء الشخصية المصرية ، للحد من مخاطر ثقافة العنف والقبح الاجتماعي والارتقاء بالذوق العام وتعزيز الثقافة الجمالية الجادة والراقية وترسيخ القيم الحضارية لنمط الحياة اليومية للشخصية المصرية. من خلال العمل على تفعيل أنشطة أندية الأدب بقصور الثقافة وبمساعدة من وحدات الإدارة المحلية على مستوى مراكز ومدن وقرى بجميع المحافظات المصرية. التعاون والتنسيق بين أنشطة نوادي الأدب ومراكز الشباب فى إقامة الندوات والمهرجانات الأدبية والفنية الجادة والفاعلة.

ويطالب غازي بضرورة وضع خطة متكاملة بين وزارة الثقافة والجامعات لتعزيز الدور التربوي والثقافي من أجل ترسيخ قيم الانتماء والولاء للدولة والمجتمع المصرى، فى ظل المخاطر العالمية التى يواجهها المجتمع المصرى. وكذا ضرورة تنشيط النشاط المسرحي وتفعليه بصورة جادة خاصة مسرح قصور الثقافة وبالتعاون مع المسرح المدرسي. إقامة مسابقات أدبية وثقافية وفنية وعمل معارض للفن التشكيلى لدعم الموهوبين والمبدعين ودعم مكتبات قصور الثقافة بالكتب والمراجع العلمية والأدبية والفنية الحديثة ، مع ضرورة الرقابة على أداء الموظفين بالهيئة العامة لقصور الثقافة. بالإضافة إلى أهمية تفعيل مشروع مكتبة الأسرة أو إصدار سلسلة شهرية على غرار سلسلة عالم المعرفة.

أعتقد أن الحصاد هو محاولة استقطاب الشباب والمراهقين للتردد على أنشطة الهيئة العامة لقصور الثقافة بدلا من تواجدهم على المقاهي الشعبية. وأرى أن استعادة الهيئة العامة لقصور الثقافة وممارسها دورها التنويري وحماية الثقافة والمجتمع المصرى من الظواهر الاجتماعية والثقافية الباثولوجية التى يعانى منها وخاصة ظاهرة العنف والتدني الأخلاقي والسطحية والارتقاء بالمستوى الثقافي والحضاري للإنسان المصرى اليوم وغداً، هى من الأدوار الرئيسة الملقاة على عاتق وزارة الثقافة المصرية.

الوعي الجمعي للمجتمع

يقول الشاعر والمترجم شرقاوي حافظ: “مما لا شك فيه أن الثقافة هي التي تشكل الشعوب فكلما ارتقت الثقافة ارتقى شعبها وكلما انحدرت انحدر شعبها. وتتشعب الثقافة إلى عدد كبير من الفروع فهناك الثقافة التعليمية والعلمية والأدبية والفنية والسياسية والدينية والإعلامية والقانونية والرياضية وهكذا وأهم أنواع الثقافة هي الثقافة السلوكية التي هي جزء من الثقافة الاجتماعية التي هي نتاج من كل الثقافات الأخرى، ولكن لأن هذه الثقافات هي التي توجه الثقافات الأخرى من حيث المناهل التي تنهل منها وهي التي تشكل الوعي الجمعي للمجتمع، ومن البديهي أن أساس هذه الثقافات جميعها هي التعليمية فلو أن الفرد غير متعلم فلن يتلقى أي ثقافة والتعلم غير العلم غير القراءة والكتابة في نظري، فقد يكتسب الفرد أحيانا القافلة من خلال وسيلة غير الكتابة والقراءة وإن كان الأمر اختلف كثيرا عن الماضي غير أنه لا زال الكثير من الأفراد يتلقون ثقافتهم الدينية على وجه الأخص من التلقي لا من القراءة والكتابة، وهنا تكمن الخطورة.

وبنظرة سريعة على العهود الماضية نجد أن الثقافة الدينية تغيرت حسب الثقافة السياسية وإن أصبحت قوة في ذاتها تشكل كثير من الفكر المجتمعي فعندما كانت السياسة تجنح نحو التحرر الفكري كانت الثقافة الدينية تتسم بالتنوير وعندما تحولت السياسة لسبب أو لآخر أو نستطيع القول حولت الثقافة الدينية إلى اليمين رأينا أن الثقافة الدينية أصبحت مغلقة تعتمد على النقل لا العقل، ومن هنا حدث شرخ كبير بين الثقافات فبدلا من تقاربها في الفكر صارت منشقة بل انشقت الثقافة الواحدة ، فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى الثقافة الأدبية ففي فترة التنوير الثقافي كانت هناك مدارس أدبية مختلفة ولكن كان الشعار السائد الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وللأسف الآن أصبح الاختلاف هو السبيل للشجار وتبادل الاتهامات، ولو نظرنا إلى الدينية كانت اختلافات المذاهب والآراء يسودها مفهم اختلافهم رحمة، والآن أصبح العنصر المشترك هو التكفير، وقس على ذلك كل الثقافات الأخرى سواء الفنية أو الرياضية .

لو أننا تصورنا مستقبل الثقافة سنضع صورتين، صورة تنويرية تحرر العقل، وصورة مغلقة تجرجر المجتمع إلى الخلف، والذي يحدد إحدى هاتين الصورتين هو التعليم فهو الأساس الذي تنشأ منه كل الثقافات، ولو أن هذا التعليم اهتم بالعلوم التطبيقية سيقودنا إلى ثقافة علمية متقدمة لن أقول قد تصل إلى الابتكار فكثير من العقول المصرية ابتكرت، ولكن أقول تصل إلى التطبيق فإذا ما تم التطبيق حدث تنقيح للعقل الجمعي وبالتالي سوف تتغير الثقافة المجتمعية والأدبية وكل الثقافات الأخرى.

ومن وجهة نظري أن هناك ثورة فكرية تطل على استحياء من عيون كثير من المثقفين رغم الردع الديني، ولكن مع وجود مناخ تنويري حولنا ، وهنا أود أن أفرق بين التنويري والهدام، فالتنويري هو إعطاء الحرية للجميع دون تسبب أي ضرر لأي فرد في المجتمع ويكون هدفه دائما بناء الوطن، أما الهدام فهو مدمر للجميع حتى لمن يستخدمونه.

أحلام ثقافية

ويقول الروائي د. هشام قاسم قبل أن يعين جمال عبد الناصر زميله في تنظيم الضباط الأحرار ثروت عكاشة وزيرا للثقافة استقبله وقال له أريد منك أن تحقق كل أحلامك في الثقافة التي كنت تحدثني عنها قبل قيام الثورة . ياه رئيس دولة أو حتى مؤسسة يطلب من مرؤوسه أن يحقق كل ما يحلم به .. لأنه في الغالب يحدث العكس لو بالغ المرؤوس في طموحاته يكون رد فعل الرئيس “فرمل نفسك، و تصرف في حدود الإمكانيات المتاحة .. لا تنس أن لدينا عجزا كبيرا في الموازنة العامة .. لا تنس أن علينا ديون يجب سدادها .. لا تنس لا تعيينات جديدة ومن يخرج إلى المعاش لا مجال بإحلال شخص محله .. فنحن ملتزمون أمام الصندوق النقد الدولي أن لا يتجاوز الاستثمار الحكومي حاجز اثنين تريليون جنيه “. لم يجد ثروت عكاشة أي من تلك العراقيل فانطلق يحقق أحلامه و أنجز انجازات لم تشهدها الحياة الثقافية من قبل و من بعد فأنشأ فرق الباليه و الفنون الشعبية وأوكسترا القاهرة السيمفوني و السيرك القومي و معهد السينما وأنشأ مؤسسة السينما والفرق المسرحية المتعددة التي قدمت جيلا كبيرا من كتاب المسرح .. هذا غير انتظام عروض المسرح العالمي . هذا غير سلاسل الكتب الثقافية المنتظمة .

ويضيف د. هشام قائلا: ماذا نحلم اليوم في مجال الثقافة : أولا : أن يكون هناك تنسيق بين الوزارات و الهيئات المعنية بالشأن الثقافي أي بين وزارة الثقافة والتعليم والشباب والإعلام و لأوقاف لتحديد إستراتيجية عليا تكون تحت قيادة وزارة الثقافة بلجنة مكونة من كبار المثقفين الذين يشار إليهم بالبنان .

ثانيا: عودة هيئات الوزارة للنشر بقوة بحيث لا يمكث الكتاب لديها أكثر من ستة أشهر تحت إشراف لجان ذات مستوى عال و التضييق على دور النشر الهامشية التي أتاحت الفرص لجيل ضعيف المستوى .. طالما قادر على دفع تكلفة النشر .

ثالثا: انتظام مجلات وزارة الثقافة و عودة مجلات المتخصصة للمسرح والسينما والفنون التشكيلية . لا يصح أن تكون مصر أهم مركز ثقافي في العالم العربي أقلها شأنا في هذا المجال.

رابعا : النشاط المسرحي يجب أن لا تقل عروض مسارح الدولة عن خمسين عملا مسرحيا سنويا .. ولو بأبسط الديكور والإمكانيات . عودة مسرح المقهى . يمتد النشاط المسرحي للمدارس بحيث تقدم كل مدرسة مالا يقل عن عملين مسرحيين في السنة .

خامسا : عودة دور الدولة للإنتاج السينمائي أو بدعمه إذا كان الإنتاج ممنوعا . تكوين لجنة عليا لاختيار تلك الأعمال .

سادسا : عودة النشاط لقطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري .

الحركة الثقافية

ويشير الشاعر ناجي عبد اللطيف إلى أنه علينا أن نعترف منذ البداية أن الثقافة هي ميراث بالضرورة تتسلمه الأجيال جيلا بعد جيل وتضيف إليه ليزداد ويكبر عبر الأزمان يحمل بين طياته من عادات الشعوب وتقاليدها وقيمها ومنجزها عبر السنين ما يؤهلها للريادة والتقدم والازدهار وبالتالي تظهر بمرور السنين مناطق زمنية تتسم بالازدهار والقوة وأخرى تتسم بالركود والضعف ومن محطات القوة والازدهار علي الشعوب أن تتعلم لتصحح مناطق الضعف والركود ولذلك فبلادنا اليوم وهي تمر بكبوة ثقافية تعتبر حجر عثرة في مدها الثقافي في ربوع مصر عليها أن تنظر لتجاربها السابقة في فترة الخمسينيات والستينيات المزدهرة من القرن الماضي لتتعلم منها وهذه الكبوة الثقافية ليست وليدة اللحظة بقدر ما هي وليدة النسيان على خريطة السير حتى أننا وجدنا أمورا أساسية في مسيرة الحركة الثقافية كالكتاب والورقة والقلم وحصص القراءة والمطالعة والرسم والأشغال والموسيقى في فصول الدرس والمكتبات المدرسية وغيرها توارت وظهرت على السطح أشياء ثانوية كالكتاب الرقمي والحاسوب والانترنت وما أسموه مؤخرا بالذكاء الاصطناعي وغير ذلك الأمر الذي يهدد الثقافة وهي حياة الشعوب والأمم وإصابة الإنسان بالتواكل والضعف والخذلان من جانب ومن جانب آخر لا أقول إصابة المجتمع بالركود والضعف بل بالموت المحقق.

ويضيف عبداللطيف قائلا: ولذلك كان من الضروري أن نشخص الداء قبل أن نصف الدواء فالأمر ليس في عدم التمرس بالصعب بل في استسهال الأمور وعدم جدية التعامل معها واكتفاء القارئ بالسطحيات والقشور ليتحدث في كل شئ فالقراءة من الكتاب الورقي دعامة أساسية لصقل المعرفة والعقل لنا أن نعود إليه بدعم من الدولة ولنا في تجاربنا السابقة ما نتعلم منه ففي فترة الخمسينيات والستينيات كانت تصدر سلاسل للقراءة بشكل دوري ينتظرها القارئ كسلسلة أقرأ عن دار المعارف والمكتبة الثقافية عن هيئة الكتاب على سبيل المثال لا الحصر وهي مؤسسات حكومية دعمت ذلك المنتج الثقافي ( الكتاب ) بسعر رخيص في متناول الجميع تلك السلاسل التي شكلت وجدان وشخصية القارئ وجعلت منه انسانا فاعلا في مجتمعه ومع مرور الوقت وجدنا اندثار تلك السلاسل وأصبح الواقع الثقافي أشبه ما يكون بالجثة الهامدة فجاء مشروع مكتبة الأسرة والقراءة للجميع في محاولة يائسة لاستعادة شمس المعرفة لكن هيهات و الحديث عن الكتاب وما أصابه لا يجعلنا ننسى أن بقية فروع الثقافة والمعرفة في الموسيقى والفن التشكيلي وكل الفنون في وقتنا الحالي قد امتد إليها الداء وعلينا أن ننظر أيضا لتجاربنا السابقة فيها لنتعلم من خلالها كيف نداوي جراحنا وليس عيبا بل هو في المقام الأول تصحيح مسار الحركة الثقافية في مصر ولذلك لابد وان تأخذ الحكومة وهي تصحح مسارها لصالح المواطن العادي في أمور حياته أن تتذكر الحركة الثقافية في مصر وانه من الضروري أن تدعمها بما يتيح للمواطن أن يضيف لفكره وعقله كما يضيف لجيبه وحاجاته اليومية، لنا أن نتذكر مشروعات ثقافية رائدة في الفن والأدب والموسيقى والفن التشكيلي ورواد سابقين أخذوا بأيدنا لنخطوا للأمام وكان للدولة حينذاك دور فاعل في دعمهم وتأكيد دورهم الريادي وحصد نتاجهم الذي جعلنا نذكر إلى الآن جيل الخمسينيات وجيل الستينيات بالخير ونتعلم منهم علينا أن نعيد الأمور إلى نصابها والأمور الرئيسية تظل رئيسية ويتوارى ما طغى على السطح ويعوق مسيرتنا وأن نستخرج كل نفيس وغال من الأعماق من تجاربنا السابقة بدعم حقيقي وواقع بحياة المواطن العادي لا الأديب.

التراث والحداثة

ويقول الأديب عبدالله مهدي: نحن في وقت تزايدت فيه حدة الصراع بين التراث والحداثة وتجديد الفكر والتنوير وفق المناهج الغربية متناسين في ذلك أن الهوية والتراث هما معيار الذات وتأكيد الخصوصية لأى أمة من الأمم ، فما بالنا بأقدم الأمم في مضمار الحضارة والثقافة ( مصر ) . ولابد أن نعى أن تحقيق الهوية يعتمد على الميراث الحى، الميراث الذى يستطيع أن يمتزج مع تجربة الإنسان الحداثية المتطورة ، فعلى مؤسساتنا الثقافية توظيف كل إمكاناتها للكشف عن إرثنا الثقافي المستنير الذى تم تجاهله وطمسه، لصالح الإرث والأفكار الظلامية المتخلفة، وهذا الفعل الاكتشافى لابد أن تتبناه وزارة الثقافة بدعم برامجها في القطاعات المتنوعة بنخبة من المثقفين المستنيرين والذين يملكون القدرة على اقتحام ساحة النضال ، في ظل أجواء من الحرية يوفرها مجتمع مدنى حقيقي …

وعلى وزارة الثقافة بجميع قطاعاتها النزول لمناطق التجمعات السكانية وعرض أفلام تسجيلية وروائية تدعم هويتنا وإرثنا الثقافي التنويري، وإنتاج أفلام تغطى كل العصور التاريخية للحضارة المصرية وتكشف عن مفردات تميزها وازدهارها وعوامل ضعفها وانهيارها، كما تقوم الوزارة بتحفيز المبدعين في كل مناحى الإبداع على توظيف واستلهام المنجز الإبداعي للحضارة المصرية في أعمالهم الفنية ..

كما نأمل تدريس اللغة المصرية القديمة في جميع المراحل التعليمية بما يناسب المرحلة السنية لكل طالب، وتدريس المنجز الإبداعى للحضارة المصرية على جميع المراحل التعليمية، لأنه من غير المنطقى إهمال مرحلة تاريخية تمثل حقبة زمنية تشمل الاف الأعوام ، ونحتفي بألف وأربعمائة عام وفقط .. خلاصة الأمر:أنه لن يتم تأصيل ذاتنا الحضارية إلا من خلال المناهج التعليمية الواعية، وإحداث صحوة ثقافية وإعلامية تتبناها الدولة المصرية بكل مؤسساتها.

التعليقات متوقفه