عن اللاجئين والمياه في مصر يقدم الدكتور عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق للأهالي: مبادرة مصرية

509

لا أعتقد أن أى واحد منا كان يتخيل هذه الأعداد الهائلة من اللاجئين والوافدين الذين استضافتهم مصر، على مدى العشرين سنة الماضية، والتي وصلت تقديراتها المتواضعة إلى أكثر من عشرة ملايين نسمة، معظمهم من مناطق التخمة المائية بدول حوض النيل.

كنت قد دعيت ذات مرة لإلقاء محاضرة في معهد كوريا الجنوبية للبيئة فى يوليو ٢٠١١ عن “الأمن المائي في المدن الكبرى” وبمعنى آخر الأمن المائي في المدن (الميجا)؛ وهي المدن التي وصل عدد سكانها لعشرة ملايين نسمة أو أكثر.
الآن وصل عدد اللاجئين والوافدين بمصر إلى ميجا نسمة، وهو عدد كاف لملء مدينة كبرى يتم تصنيفها مثل القاهرة ونيويورك وشنغهاي ومدينة المكسيك ونيودلهي ولندن وغيرها من المدن الميجا.
و بالمناسبة هذا العدد يفوق عدد سكان محافظة الفاهرة بالكامل والبالغ ٩,٣ مليون نسمة، أو سكان محافظة الجيزة بأكملها من مدن وقري وغيرها و البالغ ٩,١ مليون نسمة، ويفوق عدد سكان دولة سويسرا أو النمسا.
خلاصة محاضرة كوريا أن أسباب الصراعات في العموم حسب المثل الانجليزي الشائع هى أربعة تبدأ بحرف الدابليو “W” باللغة الانجليزية، و هى ال “Water,Whiskey,Wealth and Women” و بالعربية هى الماء والويسكى و الثروة و المرأة.

مواعيد انتهاء حروب جيران مصر:

نفس الشيء لا احد منا يعرف متى ستنتهي الصراعات و الحروب في السودان وليبيا واليمن وسوريا وغزة وغيرها من الدول في إريتريا وإثيوبيا والصومال وغيرها.
و لا أعتقد أن أى منا يعرف شيئًا عن خطة اليوم التالي ولا عن برامج العودة الكريمة لضيوف مصر إلى ديارهم مرة أخرى.
في نفس الوقت الذي لدي فيه شك كبير لعودة اللاجئين والوافدين إلى ديارهم دونما ضمانات أمن وأمان وخدمات ومستوى معيشة، مثلما هو موجود بالقاهرة والاسكندرية والمنصورة وأسوان وغيرها من المدن المصرية وقليل من قرى الريف المصرى.

التكلفة المصرية:
و لا أعتقد أيضاً أن أحد منا قد قام بحساب ما تتكلفه الخزانة المصرية من أعباء إضافية وديون متراكمة على مصر من البنوك الدولية والدول المقرضة للأموال والعملات الصعبة والساخنة وغيرها من التسميات.
وحتى لا يحدث خلل في الخدمات والرعاية المقدمة لأي مواطن أو ضيف على أرض مصر من أغنيائهم وفقرائهم، قامت الحكومة بزيادة أعباء جديدة على بند الإنفاق العام على البنية الأساسية والخدمات العامة في المساكن والطاقة الكهربية والغازية والمياه وغيرها مما مثل أعباء إضافية وزيادة في الفجوة بين الموارد والنفقات في الموازنة العامة للدولة، ولجأت الحكومة إلى بيع العديد من أصول الدولة المصرية بأبخس الأثمان، وضد رغبات الملايين.

مثال للتكلفة المائية:

وحسبما تعلمنا من الأستاذة الدكتورة السيدة فولكن ماير بالأكاديمية السويدية للعلوم، صاحبة تعريف “الفقر المائي” بأنه في حدود ١٠٠٠ متر مكعب للفرد في العام الواحد، فإن ما يتطلبه عدد اللاجئين أو الميجا لاجئين هو ١٠ مليار متر مكعب من المياه سنوياًً، و هو يقارب ١٨٪؜ من حصة مصر السنوية من مياه النيل، و لنا أن نتخيل أن حجم المياه الزائدة لحصة مصر بعد انشاء السد العالى كان ٧,٥ مليار متر مكعب فقط.
في حين أن مجموع حجوم مياه التحلية بمصر على سواحل البحرين الأبيض والأحمر لا يتجاوز ٣٥٠ مليون متر مكعب سنوياً.
هذا مع العلم بأنه كان لدي تحفظات على تعريف الفقر المائي، كنت قد أوضحته للسيدة فولكن ماير على هامش ملتقى روزنبورغ الدولي للسياسات المائية ببرشلونة إسبانيا عام ٢٠٠٨.
و بمعنى آخر فإن حجم مياه الميجا لاجئين يتعدى مجموع حجوم المياه السطحية بالأردن وفلسطين وليبيا وإسرائيل والكويت والإمارات العربية وزد على ذلك رأس الحكمة.
الغريب في موضوعنا أن معظم اللاجئين والوافدين بمصر، و بالتأكيد معظمهم من السودان شماله و جنوبه، هي مناطق التخمة المائية.

مثال للتكلفة الزراعية:

ومن أجل التبسيط والتقريب؛ لو أفترضنا أن المساحة المحصولية في المواسم المختلفة تقارب ١٥ مليون فدان، سنجد أن احتياجات واستهلاك الميجا لاجئين حوالي ١٠٪؜ منها أو ما يعادل إنتاج ١,٥ مليون فدان من خضروات وفاكهة وبقوليات وألبان ولحوم وأسماك وغيرها، والتي بان تأثيرها على إرتفاع أسعار العديد من السلع المنتجة و المباعة بالأسواق المحلية من عدسها وبقلها وبصلها وثومها وتينها وزيتونها ورمانها.

القوى القاهرة (Force Majeure):

دونما الدخول في تفاصيل أخرى كالطاقة و المواصلات والاتصالات والرعاية الصحية والتعليم وغيرها، لن أتجاوز إذا ما قلت أن التكلفة تعادل ١٠٪؜ من الميزانية السنوية لمصر بما فيها من دخل قومى و ديون وفوائد الديون الداخلية و الخارجية، والأرقام تقول أن ديون مصر الخارجية في الربع الأخير من عام ٢٠٢٣ كان ١٦٨ مليار دولار أمريكي، و وصل الى ١٥٣،٨٦ مليار في ديسمبر ٢٠٢٣ بأكبر تراجع في التاريخ، ويعادل هذا الرقم ٤٠،٣٪؜ من الناتج المحلي الإجمالي ٣٤٧،٥٩٤ لعام ٢٠٢٤.
أما ميزانية مصر في عام ٢٠٢٤-٢٠٢٥ قدرت ب ١٣٥.٣٩٥ مليار دولار أمريكي.
و لذا فان الديون الخارجية و فوائدها، ناهيك عن حجم الديون الداخلية، تعتبر بمثابة معوق لأى خطط تنموية أو ضغوط ناتجة عن القوى القاهرة لمتطلبات اللاجئين و الوافدين المفترض أنهم يفضلون عبور البحر الأبيض المتوسط و مخاطره، حتى مع عيشتهم الآمنة بمصر و لحين أن تنفك الغمة، و قناعتي أنها لن تنفك قريباً، و هذا هو حال مشاكل معظم دول الشرق الاوسط..

لماذا إثارة هذا الموضوع الآن؟

بصفتي مراقب لما أراه وأسمعه وأشتمه وأحسه وأتذوقه من الأخبار والآراء المختلفة، ببعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ووسائل الاتصال الاجتماعي الإلكترونية، سنجد أن موضوع الميجا لاجئين أصبح ظاهرة واضحة في شوارع و أحياء عديدة بالمدن المصرية، ومحطات المترو والمطاعم والمستشفيات والمصايف والعمالة بالمحلات وغيرها، كأنما المشاهد فى مدينة نيويورك أو باريس أو لندن.

خطوات عودة اللاجئين:

في معظم الصراعات والحروب التي ينتج عنها نزوح وهجرة ولجوء، وفي حالة حل أسباب الصراع نجد خطوتين رئيسيتين: الأولى مؤتمر للمانحين وإعادة الإعمار.
على سبيل المثال لا الحصر لنا أن نتخيل كم من الوقت و الأموال مطلوبان لإعادة إعمار السودان شماله وجنوبه؟
بكل تأكيد نحن نتحدث عن عشرات إن لم يكن مئات المليارات من الدولارات، وحتى إن توفرت تلك الأموال وهذا الوقت المطلوب لإعادة الإعمار، فهذا العدد من اللاجئين و النازحين وطالبي الهجرة لن يعود الى دياره ما لم يكن لديه ضمانات بأمنه وسلامته وتوفر بيئة للعيش أفضل من البيئة التي يعيشها فى دول المهجر، وهذا صعب المنال.

المبادرة المصرية لعودة الميجا لاجئين لديارهم:

من دول هشة و ضعيفة و مهمشة
إلى دول مؤثرة في العالم:

أيها المجتمع الدولي المحترم …
لدى قناعةً قوية بأن المجتمع الدولي بما فيه نحن مسئولون عما يحدث بمنطقتنا الشرق أوسطية، و الكل مسئول أيضاً عن البحث لحلول المشاكل العديدة التى تواجهها منطقتنا المتعبة والمرهقة من الحروب والصراعات بمختلف أنواعها وأشكالها.
وحسب تعريف دول الصراعات والحروب الأهلية بأنها هشة و ضعيفة و مهمشة، فقد بان لنا و بما لا يدع مجالاً للشك مدى تأثير تلك الدول على الاستقرار والأمن الدوليين، وأحد الأمثلة الواضحة في هذا الشأن ما يحدث في البحر الأحمر، و أثر ذلك على قناة السويس وحركة التجارة الدولية.
و على الجانب الآخر ظهرت مشاكل الهجرة الغير شرعية من دول الجنوب إلى دول الشمال، وكانت المظاهرات ومظاهر العنف في العواصم الغربية بلندن وباريس وغيرها وصعود اليمين المتطرف بتلك الدول، وتأثيره سلباً على سياساتها مع المهاجرين أو الأغراب.
و رسالتنا للمجتمع الدولي أن شعوبنا راغبة في استقرار مجتمعاتها، وهي بكل تأكيد راغبة و متلهفة للعون الخارجى لإصلاح ما أفسده الدهر بنا.

نريد حلاً لديون مصر و مبادرة مياه:

ها هى مصر، وها هم المصريون بكل رحابة صدر استقبلوا و استضافوا كل من طلب العون من كل لاجئ، إلى الحد الذي تم تعريفهم من القيادة السياسية بالتعبير الراقي والانساني بضيوف مصر.
و على الرغم من وجود بعض المتحفظين على عدد الميجا لاجئين، والوافدين، إلا أن الأمور لا زالت تحت السيطرة.
وما يؤرق المجتمع المصري الآن هو مجموع ديونها الخارجية و فوائد تلك الديون و أثر ذلك من ضغوط على الجنيه المصري، وزيادة الطلب على العملات الأجنبية وارتفاع معدلات التضخم.
وبكل تأكيد و حال حدوث خلل ولو زادت الضغوط، قد يتسبب ذلك فى حالة من عدم الاستقرار، والتي ستؤثر على الكل سواء صاحب المحل أو الضيف و كذا قد تقضي على الأخضر واليابس.
سداد ديون مصر وبكل وضوح سيدعم الدولة المصرية و سيزيل ليس عبئًا ماليًا واقتصاديًّا وإنما نفسيًا و مزاجيًا أيضا.
وتتبقى نقطة أخرى وهي تحت عنوان “مبادرة مستقبل المياه بالشرق الأوسط وجنوب الصحراء – “أمن مائي و غذائي و طاقة لشرق أوسط سالم و مستقر”، هذه المبادرة ستكون أحد خطوات عودة ضيوف مصر لديارهم وفي صحبتهم الملايين من المصريين و كل الراغبين في عيشة الاستقرار، وسوف نتناول تلك المبادرة فى مقال آخر.

الحريات الأربعة بين مصر والسودان:

لمن لا يعلم، فى يناير ٢٠٠٤ اتفقت القيادة السياسية بمصر و نظيرتها بالسودان على حريات أربعة للمواطنين من البلدين، وهى حرية التنقل و الإقامة و العمل و التملك.
ومن الواضح أن الكثير من الأشقاء السودانيين استفادوا من هذا الاتفاق، إما بتطبيقه على مدى العشرين عاماً السابقة أو مؤخراً، تحت ضغط النيران ما بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بداية بالخرطوم و مرورا بالجزيرة و سنار ودارفور وغيرها من المناطق.
على الجانب الآخر استفاد نفر قليل من المصريين من هذا الاتفاق، و كم كانت سعادتي غامرة عندما كنت أقابل بعض الشباب من مصر يعملون بالمطاعم بالعاصمة الخرطوم، و أعتقد أن معظمهم عاد لمصر بعد بداية الصراع والاقتتال، و أعتقد أن كثيرين منهم يرغب فى العودة شريطة توفر الأمن والاستقرار.

أمانى نرجو تحقيقها:

إن القاصي و الداني يعرف الكثير عن ثروات السودان، والتي إن تم إدارتها بعقلانية ستكون السودان هى الملاذ الآمن لكل أفريقي مهاجر من دول جنوب الصحراء، و لكل راغب من دول جنوب البحر الأبيض المتوسط.
وفى إطار تحويل المشكلة الحالية لفرصة، فإن الفرصة متاحة أكثر من أى وقت مضى لتحقيق حلم أن يصبح السودان سلة غذاء العالم المنسية

و بناءً عليه:

إن حديث الملايين و الميجا و المليارات
موضوع المقال، حافل بالعديد من الأرقام المتشابكة، التي ما لم يتم مواجهتها بصراحة وشجاعة، فإن كل رقم منها يشكل قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي وقت، و منها ملايين الأفدنة والأمن الغذائي لهم و لغيرهم، و ميجا لاجئ كان سيسلك الكثير منهم طريق الهجرة لدول شمال المتوسط، و مليارات المياه المستهلكة من اللاجئين، و الضائعة في بلادهم التى هجروها، و مليارات الدولارات من ديون و فوائد تلك الديون تتحملها مصر، و تكاليف إعادة إعمار و فوق كل شيء تكاليف البنية الأساسية بهدف استقطاب فواقد المياه بالجنوب، و مشروعات زراعية لاستيعاب المهاجرين و اشقائهم من الدول المضيفة لهم بغرض الاستقرار.
إننا أمام مشروع إقليمي للغذاء و الماء و الطاقة بغرض صناعة الاستقرار و الأمن بالشرق الأوسط.
فمن يتقدم بمبادرات سياسية واقتصادية واستراتيجية لتحقيق هذا المشروع الإقليمي الكبير للغذاء والماء والطاقة؟

*الدكتور عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق

التعليقات متوقفه