لقطات ..د. جودة عبدالخالق يكتب :لا للتحول إلى الدعم النقدى قبل توفير متطلباته -4

124

ونصل إلى الحلقة الرابعة والأخيرة في هذه السلسلة عن “الدعم بين العينى والنقدى”. في الحلقات السابقة عَرَّفنا المقصود بالدعم، وحددنا الفرق بين الدعم العينى والنقدى. وأشرنا الى أن الدعم عندنا ليس موجها فقط للفقراء ومتوسطى الحال الذى كثر حديث المسئولين عنه، بل هناك أيضا دعم الأغنياء المسكوت عنه. وأوضحنا بالدليل القاطع أن دعم الفقراء ليس هو سبب عجز الموازنة، وإنما هناك ثلاثة أسباب رئيسية للعجز المالى. الأول هو الفساد والإسراف والبذخ الحكومى، كما تسجله بالتفصيل تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات عن الحسابات الختامية للموازنة وكذلك مناقشات مجلس النواب سنة بعد سنة بعد سنة. لكن ولا حياة لمن تنادى. والثانى هو دعم الأغنياء بمختلف صوره من قروض ميسرة الى تخفيضات ضريبية وجمركية الى مشروعات تفيد الصفوة … إلخ. لكن السبب الثالث والأهم لعجز الموازنة هو التزامات خدمة الدين من فوائد وأقساط بإجمالى 3,44 تريليون جنيه من إجمالي المصروفات البالغ 3,87 تريليون جنيه طبقا لمشروع موازنة 2024/2025.

وقد صرح رئيس الوزراء مؤخرا بأنه إذا حدث توافق حول هذا الموضوع في الحوار الوطنى، يأمل في التحول من الدعم العيني الى الدعم النقدى على مراحل خلال العام المالي القادم. وحتى يكون الرأي العام على علم بحقائق الوضع، فإننى أؤكد من موقعى كعضو مجلس أمناء الحوار الوطنى أننا لم نبدأ بعد في دراسة الموضوع انتظارا للبيانات التى طلبناها من الحكومة في شهر يوليو الماضى. وأتمنى أن تسرع الحكومة فى إتاحة تلك البيانات حتى تنطلق مناقشات الحوار الوطنى على أرضية معلوماتية صلبة ونصل الى توافق حول ما يحقق الصالح العام. وبهذه المناسبة، أحذر من التسرع في التحول من الدعم العينى الى الدعم النقدى قبل مناقشة الموضوع من كل جوانبه. فلا يخفى على أحد أننا هنا إزاء موضوع له أسس اقتصادية فنية وأبعاد مؤسسية تنظيمية. كما أنه موضوع جماهيرى بامتياز. ولعلنا نتذكر الانتفاضة الشعبية فى 18-19 يناير 1977، عندما اندفعت الجماهير الغاضبة في كل مكان يعلنون رفضهم لإجراءات رفع الأسعار التى أعلنتها الحكومة حينئذ. وعلينا أن نتعلم الدرس حتى لا يحدث مالا يُحمد عقباه.
إذا كانت الحكومة جادة فعلا في تخفيض الإنفاق لتقليل العجز، فهناك مجال مُعتَبَر لذلك من خلال رفع كفاءة منظومة الدعم العينى. وقد طبقت ذلك حينما كنت وزيرا للتموين خلال 22 يناير- 8 أغسطس 2011. وسجلت هذه التجربة بكل صدق وبالمستندات والصور في كتابى الصادر 2020 بعنوان “من الميدان الى الديوان؛ تجربة وزير في زمن الثورة”. كما كان لى حَظُّ المشاركة في الدراسة الشاملة التي رعاها حزب التجمع منذ أربعين عاما ونشرها بعنوان “دعم الأغنياء ودعم الفقراء”. ولذلك أنصح الحكومة مخلصا بالاستفادة من هذا الجهد، وأن تُعِد للدعم النقدى جيدا. بالتحديد على الحكومة أن تستوفى شرطين قبل التحول من الدعم العينى الى الدعم النقدى. الشرط الأول هو تأمين قاعدة بيانات تسمح بتحديد المستحقين للدعم وآلية توصيل المقابل النقدى العادل لهؤلاء. والشرط الثانى هو تنظيم الأسواق ومكافحة الاحتكار فعلا لا قولا، بما يضمن ضبط الأسعار. فإن لم يتوفر هذان الشرطان، سيستفيد من الدعم النقدى الحكومة والتجار ويعانى باقى الخلق.
ختاما، نُذَكِّر بالجوانب الحقوقية لموضوع الدعم. فالعهد الدولى الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1966، يُقِر “بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى، وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية. وتتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ هذا الحق”، كما يعترف “بما لكل إنسان من حق أساسي في التحرر من الجوع”. (المادة 11). ومعلوم أن مصر صادقت على هذا العهد بالفعل. كما أن المادة 79 من دستور جمهورية مصر العربية الصادر عام 2014 تنص على أن ” لكل مواطن الحق في غذاء صحى وكاف …”. كما نُذَكِّر أيضا بأبجديات الصحة العامة التي تقول أن الغذاء الجيد شرط ضرورى لسلامة الجسم، وأن العقل السليم في الجسم السليم. إذن الحديث عن الدعم يتعلق بالغذاء، والغذاء يرتبط بالجسم، والجسم أساس العقل. والجسم والعقل مقومات أساسية لأى نشاط بشرى، في السلم و في الحرب، وفى الإبداع والاختراع.

التعليقات متوقفه