هيكل والأهالى وأنا

52

ترددت طويلا فى الكتابة عن الراحل الكبير “محمد حسنين هيكل” أمام سيل الكتابات التى نشرت فى الصحف المصرية والعربية والعالمية، وكثير منها كتابات جادة محترمة أضاءت جوانب مهمة من تاريخ ودور وقيمة هيكل الصحفى والسياسى والشريك فى إدارة الحكم فى مصر خلال حكم الرئيس جمال عبدالناصر، والمعارض خلال حكم السادات، والمراقب والناقد خلال حكم مبارك، وصولا إلى تأييد الرئيس عبدالفتاح السيسى ونقد أخطاء المرحلة.

ولكن سرعان ما نحيت هذا التردد جانبا، فالعلاقة بينى وبين الأستاذ هيكل، كانت علاقة من نوع خاص، علاقة ذات طابع “جدلي” إذا جاز التعبير بدأت بالاختلاف والنقد وتميزت بالأخذ والعطاء المتبادل والندية رغم فارق السن والتاريخ والدور.

كانت البداية عقب هزيمة 5 يونيو 1967، فقد ثار خلاف فى المجتمع حول كيفية مواجهة هذه الهزيمة وتحرير الأرض المحتلة والسياسات الداخلية والإقليمية والدولية المطلوبة لتجاوز الهزيمة، وكتب “هيكل” سلسلة مهمة من المقالات اختلف معها عدد من الساسة والكتاب ينتمون فى الغالب لليسار من أهمهم د. محمد أنيس ود. إبراهيم سعدالدين وعبدالهادى ناصف، وخلال هذا الجدل كتبت فى صحيفة الجمهورية التى كنت أعمل بها مقالا ردا على ما كتبه “هيكل” فى الأهرام، وفى نفس الوقت قمت بإلقاء سلسلة من المحاضرات حول “الاستعمار الجديد وهزيمة 1967” على أعضاء “الاتحاد الاشتراكى العربي” فى الدقى وبعض أقسام الاتحاد فى القاهرة، وبعد تحقيق “عبدالمحسن أبوالنور” الأمين العام للاتحاد الاشتراكى معى حول تحليلى للأسباب السياسية للهزيمة، صدر قرار من اللجنة التنفيذية العليا برئاسة “جمال عبدالناصر” بفصلى من عضوية الاتحاد الاشتراكى والتنظيم الطليعي، ووقفى عن العمل والكتابة بصحيفة الجمهورية وقيل فى حينها إن قرار الفصل صدر بإيعاز من “هيكل” ردا على ما نشرته تعليقا على مقالاته، وأننى قابلت هيكل فى مكتبه عن طريق “لطفى الخولي” واعتذرت له وطالبته بالتدخل لإلغاء القرارات المتخذة ضدي، ولم يكن أى من القولين صحيحا.

فلم يكن للأستاذ محمد حسنين هيكل أى علاقة من قريب أو بعيد بقرار الفصل والمنع من العمل، ولم أسع إلى لقائه والاعتذار له، ولم ألتق به إلا عام 1974 صدفة أمام مصعد جريدة الأهرام حيث قدمتنى له الزميلة أمنية شفيق، وسألنى ضاحكا عن رأيى فى مقالاته الأخيرة فى الأهرام والتى كانت آخر ما كتب كرئيس مجلس إدارة وتحرير الأهرام وأدت إلى الإطاحة به بقرار من الرئيس السادات، وبالطبع عبرت عن تقديرى وإعجابى بهذه المقالات المهمة للأستاذ هيكل.

وتمضى الأيام ويصدر حزب التجمع صحيفته “الأهالي” فى أول فبراير 1978 وتنشر “الأهالي” فى عددها الحادى عشر بتاريخ 12 إبريل 1978 حديثا أجراه مع هيكل الزميلان محمد عودة ومحمد سيد أحمد، وكاد هذا العدد يتعرض للمصادرة وجرى حجزه فى المطبعة “دار التعاون” على يد مباحث أمن الدولة انتظارا لصدور قرار نيابة أمن الدولة العليا بالتحفظ على العدد ومصادرته، ولكن تسريب الخبر إلى وكالة الأنباء الفرنسية وإذاعته على العالم أوقف المصادرة ونشر الحديث على عددين متتاليين.

كان الحديث مستفزا للحكم وللسادات شخصيا، والأهم أنه كسر الحصار الذى كان مفروضا على “محمد حسنين هيكل” منذ عام 1974، وقد ظل هيكل ممتنا لـ “الأهالي” وللقائمين عليها لهذا الدور فى فك الحصار الذى حاول السادات فرضه عليه.

وفى مايو 1978 صدر قرار بمنع “محمد حسنين هيكل وأحمد حمروش ومحمد سيد أحمد وصلاح عيسى وأحمد فؤاد نجم” من مغادرة البلاد وإحالتهم للتحقيق أمام المدعى العام الاشتراكي، وتلاه قرار مماثل فى 28 يونيو بمنع حسين فهمى وفريدة النقاش من السفر وإحالتهما للتحقيق، واستمرت التحقيقات فى سرية تامة لعدة أسابيع والرأى العام حائر بين حملات الهجوم فى مصر عليهم وما يسمعه من الإذاعات العربية والغربية وما يصل إليه من صحف أجنبية، وانفردت “الأهالي” بعد معاودتها الصدور – بعد توقيفها لعدة أسابيع – بنشر التحقيقات كاملة، بأن محمد حسنين هيكل يحقق معه حول آرائه فى سياسات الدول الكبرى وإسرائيل، وحول مقال له فى الأهرام بتاريخ 12 مارس 1971 تحت عنوان “تحية للرجال” ومقال حول “زيارة السادات لإسرائيل” وآخر حول “اتفاقية فصل القوات فى سيناء” وحديثه لـ “الأهالي” و”مقالاته عن الناصرية”.

وبدءا من سبتمبر 1981 نشأت علاقة حقيقية وعميقة بينى وبين “هيكل” فبعد منتصف ليلة 2 سبتمبر وحتى الساعات الأولى من فجره سبتمبر 1981 تم اعتقال 1536 مصريا ومصرية من قادة الأحزاب والقوى السياسية والجماعات الإسلامية والمسيحية ومجالس النقابات المهنية والعمالية وشخصيات عامة ومواطنين عاديين، من بينهم 23 من أعضاء وقيادات حزب التجمع و9 من حزب الوفد و7 من قيادات الإخوان المسلمين و6 من أعضاء مجلس نقابة المحامين و3 من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين وعديد من الشخصيات العامة المستقلة مثل فتحى رضوان ومحمد فائق ومحمد حسنين هيكل وعصمت سيف الدولة ود. محمود القاضى وعبدالسلام الزيات.. إلخ.

بعد أيام تم نقل السياسيين بين السجون المختلفة إلى “ملحق مزرعة طره”، ليدور بينهم حوار خصب ويتم تجاوز خلافات مضى عليها زمن طويلة، لقد وحد السادات دون وعى منه كل ألوان الطيف السياسى وقرب بينهم، وفى 6 أكتوبر اغتيل السادات ودخلت مصر مرحلة جديدة تحت حكم الرئيس الجديد “محمد حسنى مبارك”، وجرت تحقيقات المدعى العام الاشتراكى فى مناخ مختلف، وفى أحد الأيام تأخرت عودة الزملاء الذين ذهبوا للتحقيق إلى ما بعد المغرب، وهو أمر لم يحدث من قبل، وعند عودتهم قالوا لنا إن التحقيق استمر مع الأستاذ هيكل لأكثر من 7 ساعات وأنهم ظلوا فى انتظاره ليعود الجميع معا، بدا لى الأمر غير مقنع، وصعدت إلى الأستاذ هيكل وفاجأته بسؤال جال بخاطرى فجأة.. “إيه اللى جرى فى لقاءك بالرئيس مبارك” ورد على هيكل باندهاش “إيه اللى عرفك” وطلب منى عدم إبلاغ أى من المعتقلين بالأمر مؤكدا أنه سيتم الإفراج عن الجميع على دفعات وسيلتقى مبارك بهم، الغريب أن هيكل لم يذكر ولا مرة واحدة فى كتاباته أو أحاديثه أى شيء عن هذا اللقاء بينه وبين مبارك.

وبعد الإفراج عنا وبدء الصدور الثانى لـ “الأهالي” فى 19 مايو 1982، اقترحت على مجلس التحرير أن تكون “الأهالي” منبر الأستاذ هيكل للرأى العام المصرى للمرة الثانية، وأن أجرى معه حديثا شاملا، ووافق مجلس التحرير، وقبل “هيكل” مشكورا إجراء الحديث، وعلى مدى ثلاثة أيام دار حوار ممتع مع الأستاذ هيكل، كنت أذهب صباحا إلى مكتبه وأفتح جهاز التسجيل وأطرح الأسئلة ويدور الحوار، وبعد أن انتهى الحوار بدأت فى تفريغ الأشرطة وإعادة الصياغة، ونشرت الحلقة الأولى ثم الثانية وأثناء تفريغى للحلقة الثالثة والأخيرة فوجئت بأن النصف الأخير من الحلقة لم يتم تسجيله لخطأ فى الضغط على “الزر” ووقعت فى حيص بيص.

هل يقبل هيكل إعادة تسجيل هذا الجزء من الحديث، وإذا قبل فمتى يتم ذلك وأنا مسافر إلى بغداد بعد أقل من 48 ساعة.

وتكرم هيكل على بالموافقة على إعادة التسجيل، واتفقنا على أن يقوم بهذه المهمة الزميل محمد سيد أحمد نظرا لسفري، وهذا ما حدث.

واستمر التعاون بيننا وبين محمد حسنين هيكل.

انتهى هيكل، من كتابة “خريف الغضب” ونشره فى الخارج، وتقرر نشر فصوله فى صحيفتى الوطن والشرق الأوسط.. ونجحنا فى الحصول على مقدمة الكتاب والفصل الأول من هيكل نفسه، وتم نشرهما فى عدد الأربعاء 13 أبريل 1983، وتلقت “الأهالي” تهديدا من وزير الداخلية “اللواء حسن أبوباشا” بمصادرة “الأهالي” إذا استمرت فى النشر، ثم صدر قرار بمصادرة الكتاب ومنع دخول الصحف العربية التى تنشر فصول الكتاب، وتعرضت “الأهالي” لحملة صحفية لنشرها المقدمة والفصل الأول، كان فرسانها موسى صبرى ود. عبدالمنعم النمر ومحمود عبدالمنعم مراد وعبدالرحمن الشرقاوى وثروت أباظة.

وقررنا التحايل على قرار عدم النشر، اتفقنا مع الأستاذ هيكل على إجراء صلاح عيسى “مدير تحرير الأهالي” حوارا معه حول الحملة ضده وضد الكتاب يتم خلاله نشر أهم ما ورد فى خريف الغضب وتم نشر الحوار فى 27 أبريل بمانشيت أحمر يقول “محمد حسنين هيكل يواجه زوابع التحريض على خريف الغضب” وكتب مقالا افتتاحيا تحت عنوان “خريف الغضب والوصاية على الشعب” وانتقل الموضوع من الصحف إلى المجلس الأعلى للصحافة، الذى قرر رئيسه وهيئة مكتبه إدراج موضوع كتاب “خريف الغضب” فى جدول أعمال المجلس قبل انعقاده بدقائق بناء على طلب من د. عبدالمنعم النمر وسمير رجب وعبدالرحمن الشرقاوي، وتحول المجلس إلى ما يشبه محكمة التفتيش لمحاكمة هيكل، واعترضت وحيدا على إدراج الموضوع ثم تصديت وحيدا للرد على الحملة الكارثية ضد هيكل، وهالنى أن بعض تلاميذ الأستاذ هيكل وحوارييه شاركوا فى الحملة ضدى وقاطعنى رئيس المجلس د. صبحى عبدالحكم ثمان مرات خلال مرافعتى الطويلة والتى تناولت فيها تدنى أسلوب الحوار، وحرية الصحافة، وحق النقد.

ووقع المجلس فى “خطأ” غير مقصود بنشره مضبطة الجلسة كاملة فى الصحف، ليعرف القاصى والدانى مواقف الجميع، وبعضهم كان قد اتصل بهيكل بعد الجلسة ليخبره كذبا بتصديه للحملة ضده.

ودخل حسنى مبارك، على الخط وهاجم الصحافة الحزبية فى خطاب أول مايو.

وواصلت “الأهالي” دورها فنشرت فى عدد 4 مايو حوارا مع هيكل أكد فيه أن “الكتاب لا يروى قصة غضبى بل يروى أسباب غضب الشعب كله”.

ثم نشرنا فى عدد 11 مايو أجزاء من كتاب هيكل تحت عنوان “هيكل ينسب للسادات وقائع خطيرة، تطالب مبارك بالتحقيق فيها”.

وفى العدد التالى أجرى صلاح عيسى حوارا مع هيكل حول كامب ديفيد وأخطاء السادات فى القيادة السياسية للحزب.

وكتب “حافظ إسماعيل” ردا على “هيكل”، وأتحنا الفرصة لهيكل للرد على صفحات “الأهالي” فى حوار أجراه مع صلاح عيسي.

ولم تنته هذه العلاقة الخاصة والمميزة والجدلية بين هيكل و”الأهالي” وبينى وأظن أن هذه اللمحات كافية لتؤكد طبيعة هذه العلاقة، وتلقى الضوء على جوانب مهمة فى شخصية هذا الكاتب والصحفى والسياسى الذى قل أن يجود الزمان بمثله.

 

التعليقات متوقفه