“ناظر الهوى” لـ”عَادِل الغَنَّام”

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

174

قصة قصيرة

ناظر الهوى
عَادِل الغَنَّام

1
نزل شاب قروي من القطار في محطته الأخيرة بمدينة الإسكندرية،ظهر عليهالارتباك،دار يسأل العاملين في المحطة عن شخص محدد يحمل له صورة قديمة. أشار له البعض نحو أحد العمال القدامى في المحطة، وأكدوا له أنه الوحيد القادر على مساعدته. توجه إليه الشاب يسأله:
– من فضلك،هل أنت العم “بشارة”؟
– نعم يا بني، تفضل.
– هل من الممكن أن تدلني على “ممدوح فضل الشريف”؟
– وهل يعمل معنا في “السكك الحديدية”؟
– لا، لكنه مقيم هنا في المحطة! هو فلاح طويل القامة، أسمر الوجه وأذناه كبيرتان قليلًا.
– هل تقصد “ناظر الهوى”؟
هز الشاب رأسه في حيرة.
– هو نفسه منْ تسأل عنه، ستجده هناك، يجلس بجوار مكتب ناظر المحطة.
كاد العامل أن ينصرف إلا أنه عاد للشابوسأله:
– هل تصدق يا بني،أنت أول شخص يسأل عنه منذ عشرين سنة!
2
جلس الحاج فضل الشريف،وهو رجل من أعيان قرية “زمران” بمحافظة البحيرة،يقصده الفلاحونلفض المنازعاتالتي تقع بينهم، يراقب البنت أنوار وهي تلقيبشتلات الأرز في الحقل، قبل أن يقوم من مجلسه غاضبًا،ويكيل لها السباب:
– لا يوجد صف واحد مضبوط يا بنت الـ…، حرام عليكِ الأجرة التي تحصلين عليها.
– أقسم بالله إني مظلومة يا حاج، اسأل ابنك ممدوح… هو السبب.
نظر خلفه فإذابممدوح يمرق بعيدًا.عاد للبنت أنوار،لم يجدها هي الأخرى،اختفت في آخر الحقل!
3
أشعل ممدوح “الراكية”، وهي شعلة نار وقودها الحطب.ثم دعا صديقه علوان،وجلسا يتسامران وهما يحتسيان أكواب الشاي. وسط حديثهما الودي، توجه علوان بالسؤال لممدوح:
– لكنلابد وأن توضح لي أمرين يا ممدوح؛ أولهما: هو كيف تأتي بهذه الجرأةللعب مع البنات العاملات في الحقل؟بالنسبة لي، إذاحدث واقتربت من واحدة منهن، يرتجف جسمي كله،فأسرعمبتعدًا. والسؤال الثاني: كيف ستتصرف إذا فضحتك واحده منهن في يوم أو حملتطفل منك؟سيقتلك أبوك بلا شك،أنت تعرف مكانته في البلد،ولن تتمكن من الهرب منه!
4
.. من يوم أن هرب ممدوح من القرية،ولم يفلح في شيء. فكر في العودة مرات عديدة وفي كل محاولة يتوقف عند سلم القطار ويتراجع. جرب العمل في محطة السكك الحديدية؛ أيام في المقهى الصغير، وأيام أخرى مع الشيالين.بعض الأوقات كان يغطي غياب أحدالعمال النظاميين في المحطة، مقابل غذاء أو عشاء، ثم ينام في غرفة خشبيةبناها بنفسه خلف مخزن القطارات القديم. كل من في المحطة يناديه بناظر الهوى! ففي أثناء حركته الدؤوبة في المحطة يستطيع أن يعرف أهل العشق والهوى! يقترب منهم، يحدثهم بلطف،يرتابون فيه إلا أنهم سرعان ما يرتاحون إليه، وتهدأ نظراتهم الحائرة وأعينهم الباحثة عن المجهول. هم صبية وصبايا هاربون من حب أو راحلون إليه. يقص لهم حكايته، وعجزه عن الرجوع لأهله، يقضي معهم اليوم كله، يصحبهم في جولة على شاطئ البحر، وربما ذهبوا لتناول وجبة فول أو كبدة إسكندراني،حتى يقنعهم بضرورة الرجوع، ولا يتركهم إلا على سلم القطار، يلوحون له على وعد بلقاء آخر، لكن لا أحد يعود!
5
“سماح” كانت الوحيدة التي فشل في إقناعها بالرجوع لأهلها. هل رغب فينفسه أن تبقى؟
6
صحب ممدوحسماح،للمبيت فيغرفتهالخشبية.أصرتْ على البقاء في الإسكندريةلتبحث عن عمل، ولتجرب حياة جديدة. سألته الفتاة في ضعف:
– وماذا عنك؟ أين ستنام؟
– المحطة واسعة يا ابنتي.
(أمسكتْ الفتاة بيده)
– أرجوك… ألقِ عليّ نظرة في الليل، لا تتركني وحدي!
7
جلس ممدوح في المحطة وهوفي حالة اكتئاب شديدة، يتحدث مع” بشارة”،صديق له من عمال السكك الحديدية. قال له بشارة متعجبًا:
– أمرك عجيب يا ممدوح! أهذا سبب حزنك؟ فلتهرب الفتاة أو تذهب في داهية. هل صدقت أنها ابنتك فعلًا؟
– أنت لا تفهم… لقد تزوجت بها!
– زواج رسمي أم عرفي؟
– عرفي.
– بسيطة.. كما تزوجتها.. طلقها!
– لقد صارت حبلى!
– اذن سترجع لك… في يوم من الأيام سترجع!
8
في ملهى ليلي،تنازع ممدوح غاضبًا مع بعض الحرسالواقفين عند غرف الفنانين.رفض الحرس أن يسمحوا له بالانتظار في غرفة مطربة الفرقة ريثما تنتهي من فقرتها. صاح فيهم ممدوح:
– اتركوني أدخل يا أنذال،أنا أبو أشرف، إن سماح التي تستأجركم هي زوجتي!
وسط محاولاته الفاشلة لدخول الغرفة، سمع التصفيق والهتاف لـسماح التي دخلت الرواق مهرولة. دلفتْ لغرفتها، نظر ممدوح نحو الحراس في تحدٍّ، أشارتْ إليهم سماح،أذنوا له بالدخول،ففعل وأسرعبغلق الباب خلفه.
– هل كبرتِ على زوجك يا سماح؟
ردت عليه في حنق:
– ألم تطلقني يا ممدوح؟! ماذا تريد مني الآن؟ عليك أن تنساني وتواصل حياتك.
قال لها ممدوح:
– أريد أن أرى ولدي أشرف. مرَّ أزيد من عامين ولم تقع عليه عيني، وأنتِ تدورين من بلد إلى بلد.
جلستْسماح في هدوء. قالت له بحذر:
– ممدوح، هناك أمر لا بد لك من معرفته؛أشرف ولدي ليس بابنك!
أخذته المفاجأة قليلًا. سألها وقد سرت في جسده رجفة:
– وما حدث بيننا؟!
ردتْ عليه سماح:
-أنا حُبلى من قبل أن أراك في المحطة.
9
أخيرًا،عثر الشاب القروي على الرجل المسن الذي يبحث عنه. وجدهجالسًا على كرسي بلاستيكي بجوار مكتب ناظر المحطة،يرتدي بزة زرقاء كالتي يرتديها العاملون في السكك الحديدية، يقبض بيد على قصاصة من صحيفة يومية قديمة،ويمسك في اليد الأخرى سيجارة غير مشتعلة. نزل الشاب على ركبتيه، حَدَّثَ الرجلفي ود:
– قم معي يا أبي. كانت أمنيتي أن ألتقي بك منذ زمن بعيد.
تأمل الشاب في شغف وجه الرجل النحيل الذي صنع به الزمن شقوقًاعميقة، وأنفه المدبب الذي يرى مثله حين ينظر لنفسه يوميًّا في المرآه. واصل حديثه بصوت خافت:
– ألا تعرفني؟ أنا ابنك حسن. ابنك من أنوار. هل تذكر أنوار؟
بدأ ممدوح يعود لوعيه. نظر ناحية الصوت الذي يتسلل إلى أعماقه. تمعن في ملامحصاحبه. يذكره بشاب في مثل عمره،هرب خوفًا من القتل بعدماغرربصبية قصيرة في حقل الأرز منذأكثر من عشرين عامًا. ترك ممدوح الشابلينتزع القصاصة من يده، كان فيها صورته مع امرأة غارقة في دمائها وخبر يقول “الحكم بالسجن خمسة عشر عامًا على عاطل حاول قتل مطلقته الراقصة”. أمسك الشاب بيد الرجل المسن، سحبه من فوق الكرسي في رفق، احتواه داخل المعطف الطويل الذي يرتديه،توجها ناحية القطار “القشاش”- قطار القرى والمدن الصغيرة- عند رصيف المحطة الأخير، وصعدا سلم القطار. كانا يتراءيان من بعيد كجسدٍ واحدٍ يحمل رأسين، يُقبِل كل منهما الآخر.
*********************

التعليقات متوقفه