ابتسامة الغسل.. .قصة قصيرة ..محمود أحمد على

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

250

قصة قصيرة
ابتسامة الغسل..
بقلم / محمود أحمد على – فاقوس-شرقية

مهداة إلى صديقي الشاعر / جمال فتحى
مات وتد البيت..
مات أبي..
وبرغم أنه كان شديد القسوة علينا نحنُ أولاده، ولا يستطيع أحد منا رفض أوامره، أو حتى الاعتراض على ما يفعله..
مات أبي..
الذي كان شديد القسوة على أمي بشكل لا يطاق، حتى أنني وصفته بيني وبين نفسي بأنه سي سيد هذا العصر، وبرغم قسوته الشديدة جدًّا على أمي، إلا أنها كانت تطيعه في كل أوامره وكأنها الست “أمينة”، وفى كل مرة كانت ترد مبتسمة :
( حاضر.. حاضر يا حاج)
تقولها مبتسمة في وجهه وسرعان ما تنصرف..
وعندما تنفرد بنفسها تظل تبكي.. تبكي في حرقة شديدة..
مات أبي..
وماتت معه أوامره، وقسوته..
مات أبي..
ورأيت على وجوه إخوتي علامات السرور، عندئذ رحت أقول في سري:
– معهم حق.. ولمَ لا والحرية الغائبة قد عادت إليهم فجأة..
مات أبي..
فحزنت عليه أمي حزنًا شديدًا..
تعجبت من أمرها..
كيف لها أن تبكي بهذا الشكل، رغم كل ما لاقته من أبي..؟!
كنتُ أخرج أنا وإخوتي لتلقي الدروس، نمرح ونفعل ما نريد قبل عودتنا إلى سجن أبي، أما هي فكانت حبيسة جدران البيت.
غير مسموح لها أن تخرج إلى السوق..
غير مسموح لها أن تخرج لزيارة أحد من جيراننا..
غير مسموح لها أن….
غير مسموح لها أن….
غير مسموح لها أن….
حتى أهلها غير مسموح لها أن تذهب إليهم..
كل هذا بأمر من أبي، وهي بدورها لا تستطيع أن تعارض أوامره الصارمة..
ورغم كل هذا وأكثر منه إلا أنها ترد مبتسمة:
( حاضر.. حاضر يا حاج)
مات أبي..
فحمله الرجال من حجرة نومه، إلى خشبة الغسل التي وضعوها في صالة بيتنا الواسع..
أنا الوحيد الذي كان موجودًا ..
أنا الوحيد الذي رأى الحزن الشديد يجلس متربعًا على وجه أبي لماذا..؟! لا أدري..
أنا الوحيد الذي شاهد عن قرب تكشيرة وجهه، التي لم أرها من قبل، وكأنه نادم على فعل شيء ما..
مات أبي..
فامتدت الأيدي لخلع ملابسه..
هذه هي المرة الوحيد التي أرى فيها إنسان، وهو يغسل..
فجأة..
وجدت دموعي تنساب دون إرادتها..
سريعًا..
سريعًا ..
انتهى الرجال من غُسل أبي بل وتكفينه..
عجبًا ..
لماذا تركوا وجهه عاريًا..؟!
دفعني فضولي لأسألهم :
– انتو ليه سبتوا وش أبويا ظاهر..؟!
رد عليَّ أحدهم:
– عشان تشوفوه، وتبوسوه قبل ما يدفن..
– يعنى أنادي على كل إخواتي..؟!
– أيوه.. ونادي كمان على الست أمك..
وقفنا طابورًا يشبه طابور المدرسة..
صغار السن من إخوتي جعلتهم يتقدمون الصف أولاً.. ونحنُ نقف خلفهم..
دخل الواحد تلو الآخر..
راحوا يقبلونه في جبينه دون أن يذرف أحدهم دمعة واحدة.. دمعة واحدة على فراقه..
ورغم كل هذه القبلات، إلا أن أبي لم يزل حزنه الشديد يجلس متربعًا على وجهه، بل وتكشيرته الواضحة أمام الجميع..
جاء الدور عليَّ..
رحت أقبل جبينه وخديه..
وقفتُ أنتظر دخول أمي..
دخلت بردائها الأسود حالك السواد..
يسبقها حزن شديد..
تعجبتُ من أمرها..
قبلتْه في جبينه..
دموعها حبيسة عينيها راحت تنزل مسرعة..
انتظرت خروجها..
فهي آخر فرد من أفراد عائلاتنا..
وقفت تنظر في وجه أبى الذي ركبه الحزن والهم..
راحت تقول وهي تمسح دموعها:
– أن مسامحاك يا سيد الرجال.. مسامحاك على كل اللي عملته معايا، روح.. روح مع السلامة، الجنة قدامك..
فجأة..
وجدتُ الحزن والتكشيرة قد اختفيا تمامًا من وجه أبي، وحل محلهما ابتسامة جميلة أضاءت المكان.

التعليقات متوقفه