سيرة عطرة..محمد محمود غدية

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

117

قصة قصيرة

سيرة عطرة
محمد محمودغدية
ابتسامتها تسقي جفاف الروح ، سكرها زيادة ، يتحاشاها مرضي السكر، يستمد الصبح من وجهها الإشراق والضياء ، غمرت كل من حولها بالحنان ،
وغرست الزهور في أرض لا ينفع فيها الزرع، فأينعت وأزهرت، لها قدرة مدهشة علي امتصاص التعب والقلق ، تربت بحنو بالغ علي المشاعر ، يغالب دمعة حبيسة أصرت علي السقوط ، في غيابها زحفت الظلمة وتمددت واكتسحت الروح، يشعر بتعاسة لاحد لها، لن يعد يري في عينيها بحارا من اللؤلؤ ، وشموسا من الدفء، يتلفت حوله يلمس جفاف الأشياء بجانبه، هو اكبر الأبناء والأكثر التصاقا بحضنها ، كان حين يبلله المطر ، يلجأ إلي الاختفاء تحت معطفها، تربت عليه تهدهده بين إرتعاش الشفاه ، واصطكاك الاسنان، لايخلد الي النوم، الا اذا مدته بالدفء، ما الذي يجعل الحزن عاجزا عن الرحيل، لاشيء هنا سوي بضع آيات يحفظها عن ظهر قلب، تهدئ من روع الغياب ، عطرها الممزوج بالزعتر والمسك يخترق كل ما يلقاه ويصرعه ، مشوق للدفء من كفيها وللضياء من عينيها،كيف تقنع روح بالعودة بعد رحيلها؟
مارست الموت وحدها، دون أن تشرك أحدا معها، عام كامل وبضعة شهور وهي تتوجع وتتألم وتنتحب في صمت، قالت للأولاد: إنها وجدت عملا يتناسب مع خبرتها في الترجمة،لشغل الفراغ الذي تعيشه بعد رحيل زوجها، تستقبل الحياة بروح طيبة مرحة، تحرص كل الحرص ألا تدمع عيناها، حتي لايراها الأبناء في انكسارها، وهي التي منحتهم الأجنحة القوية المعينة علي التحليق، يموت منها جزء كل يوم، كل شيء من حولها باهت تحيط به هالة من ضباب مصغر منذ أن تسلل اليها ذلك المرض البغيض الذي لاشفاء منه. اخترعت العمل الذي لاوجود له، حتي لايسأل الأولاد أين تذهب كل صباح..؟
تتمدد علي سرير الوجع في المستشفي، تأخذ جرعة الكيميائي الذي يمنحها بعض حياة، سقط منها الشعر الذي أخفته خلف باروكة الشعر المستعار، والتي لاتعوض أبدا الفقد، لم تمتد يدها لنقود الأولاد التي تركها الزوج بعد رحيله، وصانت الأمانة، باعت الخاتم وأساور الذهب والعقد هدية عيد زواجها، واستبدلتهم بذهب صيني رخيص، حتي لايستشعر الأبناء غياب الذهب، تضع علي وجهها كمية من المساحيق ، لتخفي شحوب الوجه.. يخذلها الموت، ولايأتي سريعا كما توقعت، هي أشياء لايدركها المرء!!
تفرد أجنحتها، تأخذ الأبناء والأحفاد في حضنها، ترتاح لدفء مشاعرهم تكبح دموعها كيف لروح نابضة أن تمارس الموت؟لديها طاقة من الصبر والتجلد لايقدر عليها أحد
سنوات عمرها يسقطها المرض كأوراق خريف ذابل رائحة ضفائرها موغلة بذاكرة الأبناء، لم تقدر الجدران الصماء وصرير أبوابها الموصدة حجب تقاسيم وجهها مضيئة وباهرة نبيلة وأصيلة حتي وهي تموت.
تركت أرقام الهاتف ووصية أودعتها أمانات المستشفي، تعتذر فيها عما أصابها من مرض، واختراعها عمل لا وجود له، لتجد مبررا للذهاب كل يوم إلي المستشفي، ثروة والدهم مودعة بالكامل بأحد البنوك، ميراثا شرعيا عندما يجرح أصبع في اليد يصرخ المتألم قائلا: أخ!! وهي تعني النجدة بالأخ، الترابط والحب هو الأصلح في تقوية العلاقات..
فاتورة المستشفي سددت بالكامل من مدخراتها وذهبها، تعتذر لأنها لم تتمكن من إبقائها لهم،
كابدت الآلام وحدها، لم تجهد الأبناء في رحلة مرضها الذي أخفته طويلا عنهم. يرتشفون الهم كل يوم، وهم يغلقون الباب دونها، غابت الشمس وحجبتها غيوم ثقيلة. لايدرون باي اللغات يبكونها، وموتها بدد كل اللغات.

 

التعليقات متوقفه