لقطات ..د. جودة عبدالخالق يكتب :إماطة الأذى عن الطريق

4

أعزائى القراء طابت أوقاتكم. اليوم قررت ألا أكتب عن الاقتصاد أو السياسة أو الشأن العام. إنما أردت أن أشاركم تجربة إنسانية مررت بها مؤخرًا حتى نستخلص بعض الدروس ونتعظ من تجارب بعضنا بعضا. فالعاقل من اتعظ بغيره، كما يقول المثل.

يوم الجمعة الماضى كنت وزوجتى الدكتورة كريمة كريم ذاهبان إلى نادى اليخت بالمعادى للاستمتاع بطقوس يوم الجمعة كلما سمحت الظروف. نصلى الجمعة، ونتعرض لفيض من أشعة الشمس، ونسرى العين بمنظر النيل الخالد. ثم نلتقى بعض الأصدقاء. وبعد أن دخلنا من بوابة النادى، فوجئت ببعض الأعضاء يتجهون نحوى مستبشرين ومرحبين، ويبادئوننى بالتحية. وما أن نظرت نحوهم لأبادلهم المودة والتحية حتى لاحظت أن توازنى قد اختل وأدركت أننى واقع على الأرض لا محالة. ألطف يا لطيف. وما بين طرفة عين وانتباهتها، وجدت نفسى ممددًا على الأرض، طريحًا. حدث ذلك في لمح البصر. بعد استيعاب هذا الموقف العصيب، أدركت أنى في غمرة انشغالى بالناس ارتكزت بالرجل اليمنى على أرض غير مستوية. وما أدراكم ما الأرض غير المستوية! فلما رفعت رجلى اليسرى لأخذ خطوة الى الأمام، كان ما كان.
بعد الكشف وفحص الأشعة، طلب منى الطبيب أن ألتزم الراحة التامة وأن أواظب على العلاج. وأكد أننى أحتاج إلى البقاء في المنزل لمدة أسبوع كامل، لنعطى الفرصة لإصابة القدم أن تلتئم. قلت له: إن هذا مستحيل، لأن الحوار الوطنى الذى جاهدت في سبيله كثيرًا وانتظرته طويلًا سوف يبدأ الأسبوع القادم. وأضفت أننى قد رتبت بالفعل لحضور أكبر عدد من الجلسات، وأننى لا أتصور أن أجلس في مقاعد المتفرجين أتابع الموضوع من منزلى. رَدَّ بلهجة قاطعة أن عليه النصيحة وأن لى القرار. ولكنه حذرنى من تفاقم الأمور بشكل خطير إذا تجاهلت نصيحته. قلت أمرى لله، تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن. واعتذرت مضطرًا عن المشاركة في جلسات الحوار الوطنى في أسبوعه الأول، مكتفيًا بالمتابعة من المنزل.
المهم في الموضوع أن هذه الواقعة ليست حادثة منعزلة. فقد علمت بعدها بوقوع حوادث مماثلة لعدد من الأصدقاء والمعارف والجيران. وكلهم من كبار السن من أمثالى. منهم من انحشرت قدمه في طرف سجادة مثنية فارتطم رأسه في الحائط. ومنهم من غفل عن إحدى درجات السلم فطار في الهواء قبل أن يستقر على الأرض. ومنهم من قام مسرعًا من نومه لقضاء حاجته فاختل توازنه وارتطم بباب الحمام… إلخ. تعددت الأسباب، والنتيجة واحدة: كسر هنا وشرخ هناك وارتجاج هنا واعوجاج هناك. ثم عربة الإسعاف، فالنقالة، فغرفة العمليات. وباقى السيناريو معروف. لذلك أقول لكل من هم في مثل مرحلتى العمرية: انتبهوا أيها السيدات والسادة. حفظكم الله وحفظ الجميع من كل مكروه.
وتقديرًا لخطورة الأذى في الطريق، يقول نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح “إماطة الأذى عن الطريق صدقة”. فرفع الأذى هو من شُعب الايمان، ومن ميسرات دخول الجنة، ومن أسباب غفران الذنوب. وأذكر أن أمى رحمها الله كانت دائمًا تنصحنا: “لا تغادر أى مكان، إلا بعد أن تجعله أفضل مما وجدتَه عليه”. الطريف أننى عندما جلست لصلاة الجمعة في مسجد النادى متحاملًا في مواجهة الألم الشديد مما أصابنى، تمنيت لو أن خطيب الجمعة تناول هذه القضية الخطيرة. ولكن خاب ظنى. فبدلًا من أن يستعيذ الخطيب بالله من وضع الأذى في الطريق ويبين فضل إماطته للفرد وللمجتمع، إذ به يغوص بالمصلين في عوالم غريبة منقطعة الصلة عن واقعنا الذى نعيشه، وكثيرًا ما تجافى المنطق والفطرة السليمة. حينئذ تذكرت كلامًا قرأته من زمن طويل للشيخ محمد الغزالى (رحمه الله) عمن كان يسميهم “فقهاء الحيض والنفاس”.

التعليقات متوقفه