اليسارى المحترم والمفكر المبدع والصحفى المتميز

70

فقد عالم الفكر والصحافة نجمًا لامعًا حمل مشعل التنوير على مدى عقود من الزمن.
من هنا الشعور المؤلم بالصدمة إزاء رحيل كاتب مبدع وصحفى متميز ومؤرخ بحجم صلاح عيسى.
عرفته فى مطلع السبعينيات فى فترة كان يخرج فيها من السجن لكي يدخله مرة أخرى والضحكة لا تفارقه، ويسخر من المهازل التي كانت تجري على أيدي أجهزة أمن أنور السادات.
لم يكن يهدأ دقيقة واحدة، فهو فى حركة مستمرة ونشاط لا يتوقف سواء فى قسم الأبحاث بجريدة الجمهورية، أو فى تجمعات الشباب والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
وخلال ذلك كله.. كان يرصد ويحلل كل صفحة من تاريخ مصر وكفاحها الوطني سواء ضد الاستعمار أو من أجل الدستور والحرية والديموقراطية.
وفى نفس الوقت لا يغيب عن ذهنه دور المفكرين والرواد الذين شقوا أصعب الطرق دفاعاً عن مبدأ المواطنة والتعددية والدولة المدنية.
إن قلبه يخفق مع كل قلم وكل صوت وكل إبداع من شأنه إعلاء قيم الحق والخير والجمال والعدل.
لم تكن الوطنية المصرية بالنسبة له مجرد شعارات، وإنما ممارسة يومية ومعاناة لاكتشاف صفحات مجهولة أو مهملة من التاريخ تستحق إعادة تركيز الأضواء عليها واستخلاص الدروس من وقائعها ومساراتها.
وكنت ألاحظ شوقه الدائم للتعرف على التفاصيل والخلفيات وحتى الدوافع النفسية وراء الأحداث ولذلك كان يقدم لنا صفحات مثيرة للاهتمام ومشاهد حية جذابة وساحرة.
وأتذكر كيف جعل من واقعة استشهاد « عبدالحكم الجراحي»، الطالب بكلية الآداب جامعة فؤاد ( القاهرة الآن ) فوق كوبري عباس خلال مواجهة مع رجال الأمن، قبل 23 يوليو 1952 فصلا درامياً رائعاً يخلد إحدى المعارك الوطنية التي بقيت فى سجلات الحركة الشعبية ومازالت الحركة الطلابية المصرية تستعيدها تحت شعار:
« رفعت العلم.. يا عبدالحكم «
وفى «حكايات من دفتر الوطن».. الكثير من اللقطات والوقائع التي تعبر عن عشق صلاح عيسى للمواقف والبطولات الوطنية والشعبية، بل إن كاتبنا يعشق كل ذرة من تراب هذا الوطن، ويفصح عن ذلك كل سطر من سطوره.
والمناضل اليساري عند صلاح عيسى وكما يبرهن على ذلك بمواقفه وسلوكه ذروة فى الوطنية، ومن هذه الأصالة الوطنية والجذور الشعبية تنبع فكرة العدالة الاجتماعية.
وكان هذا الدافع الوطني وراء حماسه للدفاع عن الثورة العرابية، ودراسة شخصية جلاد دنشواي، والبحث عن الحقيقة التي تختفى وراء جرائم القتل فى سيرة «ريا وسكينة».. وعشرات الدراسات عن أبطال الحركة الوطنية ومادة الدفاع عن الدستور طوال السنوات العاصفة من القرن العشرين.
كان صلاح عيسى مثابراً فى البحث عن الوثائق، ولما كان يعرف أدوار الشخصيات التي كان لها تأثيرها الإيجابي فى مسيرة الوطن.. وجدته يطلب من الكاتب الكبير الراحل « أحمد عباس صالح « أن يكتب مذكراته، وقد حصل عليها بالفعل ونشرها على حلقات فى صحيفة « القاهرة».
كذلك كان يعرف الشخصية التي كان لها تأثيرها السلبي فى مسيرة الوطن. ولذلك نشر أهم وثيقة تفضح فكر « أحمد بديع « عندما أصبح مرشداً للإخوان، وهو من كشف تبعية بديع لمنهج وأفكار «سيد قطب».. الداعية لتكفير المجتمعات.
ماذا أقول ؟
لقد كان صلاح عيسى أحد المشرفين على تحرير صحيفة «الأهالي» وكان ينشر بابا ناجحاً تحت عنوان «الإهبارية» وترك بصمة لا تمحى فى صفحاتها.. لقيت أصداء واسعة فى الصحافة المصرية.
وكان قياديا فى حزب التجمع.
وحتى آخر لحظات حياته كان يفخر بعضويته بحزب التجمع ويساهم فى كتابة مقالات فى «الأهالي» حتى اليوم الأخير.
ورغم المغريات الكبيرة.. لم يساوم على أفكاره أو يتخلى عنها.. بل إن خصومه فى الفكر والسياسة كانوا يحترمونه.
وأتذكر كيف كان «محسن محمد» رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الجمهورية وهو خصم سياسي وفكري لصلاح عيسى يشيد به فى أحاديثه معي ويتحدث عنه بكل تقدير لقدراته ومواهبه.
ألم أقل لكم أن رحيل صلاح عيسى يشكل خسارة فادحة لعالم الفكر والصحافة؟.
والمأساة أننا لا نستطيع تعويض من نفقده أو نعثر على من يواصل أداء رسالته،
ولذلك سنظل نفتقده إلى أجل غير مسمى.

التعليقات متوقفه