د. رفعت السعيد يكتب : مصر والمرأة في مواجهة التأسلم «9»

33

ونحاول أن نستمتع برحيق حديقة قاسم أمين الرائعة.. «تحرير المرأة» ومعنا الطبعة الأولي (1899 – مكتبة الترقي – تأليف قاسم أمين – المستشار بمحكمة استئناف مصر الأهلية) وفي مقدمة الكتاب يقول «كل مسألة من المسائل التي أجملتها في هذه الأسطر يصح أن تكون موضوعا للكتاب علي حدي.. وغاية ما أريد أن استلفت الذهن إلي موضوع قل عدد المفكرين فيه» ثم «ويري المطلع علي ما أكتبه أني لست ممن يطمع في تحقيق آماله في وقت قريب لأن تحويل النفوس إلي وجهة الكمال في شئونها مما لا يسهل تحقيقه وإنما يظهر أثر العاملين فيه ببطء شديد في أثناء حركته الخفية، فكل تغيير يحدث في أمة من الأمم وتبدو ثمرته في أحوالها فهو ليس بالأمر البسيط وإنما هو مركب من ضروب من التغيير كثيرة تحدث بالتدريج في نفس كل واحد شيئا فشيئا ثم تسري من الأفراد إلي مجموع الأمة فيظهر التغيير في حال ذلك المجموع نشأة أخري للأمة»

وبهذه الرؤية الفلسفية الصائبة تماما يقتحم قاسم أمين موضوع تحرير المرأة، ثم نأتي إلي التمهيد وفيه يقول قاسم أمين «أني أدعو كل محب للحقيقة أن يبحث معي في حالة النساء المصريات، وأنا علي يقين من أنه يصل وحده إلي النتيجة التي وصلت إليها وهي ضرورة الإصلاح فيها.. هذه الحقيقة شغلت فكري مدة طويلة كنت خلالها أقلبها وأتقنها وأحللها حتي إذا تجردت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت علي مكان عظيم من موضع الفكر مني وصارت تشغلني وتذكرني بالحاجة إليها فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلي فضاء الدعوة والذكر»

ومن البداية يدرك قاسم أمين صعوبة الأمر ويدرك أنه سوف يلقي هجوما عاصفا فيقول في التمهيد «ومن أحكم الأشياء التي يدور عليها تقدم النوع الإنساني ويؤكد حسن مستقبله هذه القوة الغريبة التي تدفع الإنسان إلي نشر كل فكرة تساعد علي تقدم أبناء جنسه ولو تيقن حصول الضرر لشخصه من نشرها» (عبدالمنعم محمد سعيد – تراث قاسم أمين – نص كتاب تحرير المرأة ص221)..

ويقول «إن تاريخ الأمم مملوء بالمناقشات والجدل والحروب التي قامت في سبيل استعلاء فكر علي فكر ومذهب علي مذهب وكانت الغلبة تارة للحق وأخري للباطل» ثم «ولم يركن إلي حب السكينة إلا أقوام علي شاكلتنا فقد أهملنا خدمة عقولنا حتي أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، ومال بنا الكسل إلي معاداة كل فكر صالح مما يعده أهل وقتنا حديثا غير مألوف سواء كان من السنن الصالحة الأولي أو قضت به المصالح في هذه الأزمنة»

ويمضي قاسم أمين وكأنه يتحدث عن أيامنا الحالية فيقول «وكثيرا ما يكتفي الكسول وضعيف القوة في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة علي حق ظاهر يريد أن يدفعه فيقول هذه بدعة في الإسلام» ويمضي قائلا «سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول نعم أتيت ببدعة ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد وطرق المعاملة التي يحمد طلب الكمال فيها، لماذا يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغير ولا تتبدل وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلي الأبد؟ ولماذا يستمر علي هذا الاعتقاد مع أنه هو وعاداته جزء من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل في كل آن؟وهل يستطيع المسلم علي مخالفة سنة الله في خلقه إذ جعل التغيير شرطاً للحياة والتقدم والجمود والوقوف مقترنين بالموت والتأخر؟

أليست العادات عبارة عن اتفاق الأمة علي سلوك طريق معين في معيشتهم ومعاملاتهم حسبما يناسب الزمان والمكان؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يتصور أن العوائد لا تتغير بعد أن يعلم أنها ثمرة من ثمرات عقل الإنسان وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمان؟ المسلمون منتشرون في أطراف الأرض فهل هم أنفسهم متحدون في العادات وطرق المعاش؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يدَّعي أن ما يستحسنه عقل السوداني يستحسنه عقل التركي أو الصيني أو الهندي، أو من عوائد البدوي تتوافق مع عادات أهل الحضر، أو يزعم أن عوائد أمة من الأمم مهما كانت بقيت جميعها علي ما كانت عليه من عهد نشأتها بدون تغيير؟»

ثم يقول «والحقيقة أن العوائد والآداب تتغير دائما تغيرا غير محسوس تحت سلطان الإقليم والوراثة والمخالطات والاختراعات العلمية والمذاهب الأدبية والعقائد الدينية والأنظمة السياسية وغير ذلك!! ثم هو يؤكد «أن كل حركة من حركات العقل نحو التقدم يتبعها حتما أثر يناسبها في العادات والآداب وعلي ذلك يلزم أن يكون بين عوائد السوداني والتركي مثلا من الاختلاف بقدر ما يوجد بين مرتبتهما في العقل، وهو الأمر في المشهور الذي لا ريبة فيه وعلي هذه النسبة يكون الفرق بين المصري والأوروباوي» ونمضي مع قاسم أمين إذ يؤكد «فقد تتغلب العادات علي الدين نفسه فتفسده وتمسخه بحيث ينكره كل من عرفه» (ص224).

.. ويعود قاسم أمين فيقول «وهذا هو الأصل فيما نشهده ويؤيده الاختبار التاريخي من التلازم بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة وتوحشها، وبين ارتقاء المرأة وتقدم الأمة ومدنيتها» (ص225).

ثم هو يتحدث أن انعكاس سيادة الاستبداد في أنظمة الحكم في المجتمعات الإسلامية علي استبداد الرجل بالمرأة ويقول «فالأمة المظلومة لا يصلح جوها ولا تنفع أرضها لنمو الفضيلة ولا ينمو فيها إلا نبات الرذيلة» (ص227).

وهكذا وكلما مضيت في مطالعة هذا التمهيد تكاد أن تسهو عن أن قاسم كان يحدثنا منذ أكثر من مائة عامة وتكاد أن تعتقد أن الكتابة بتمام أحرفها تكاد أن تتحدث عن أحوالنا اليوم.

ويبقي أن نشير إلي أن بعض طبعات «تحرير المرأة» قد خلت من هذا التمهيد ربما للاختصار وربما تلافيا لمرارة المقارنة، وذلك برغم أن هذا التمهيد يمثل قدرة فلسفية عميقة لفكرة تحرير المرأة ولصاحبها قاسم أمين.

ونمضي لنطالع متن الكتاب..

التعليقات متوقفه