الغاز كلمة السر .. وراء التواجد التركى فى إقليم البحر المتوسط :معركة طرابلس ومساراتها المعقدة ترتبط بمدي فعالية منظومة الردع المصرية

*تركيا تنقل المرتزقة تحت ستار الاتفاقية بين الحكومة التركية وحكومة السراج..*تعاون ودعم مصري للجيش الوطني الليبي في حربه ضد التنظيمات والجماعات المسلحة

617

*تقرير دينا محسن:

كشف مسئولون أتراك عن تفاصيل خاصة بما أسموه “الخطوة الأولية” للجيش التركى لتقديم الدعم العسكرى، تتضمن قوات مشتركة من الوحدات البرية والجوية والبحرية تتضمن سفناً حربية وغواصات وطائرات شحن، وطائرات بدون طيار وأخرى حربية، وقوات كوماندوز برية، لمسلحى حكومة الوفاق في طرابلس, بهدف التصدى لقوات الجيش الليبى الوطنى، التى تواصل تقدمها صوب قلب عاصمة طرابلس, وهو الأمر الذى يطرح مجموعة من التساؤلات أبرزها: ماهية الأسباب الخفية وراء إصرار الرئيس التركى “رجب طيب أردوغان” التدخل العسكرى فى ليبيا, تبعات هذا التدخّل فى الإقليم؟!

وقبل الإجابة عن تلك التساؤلات وغيرها, يمكننا بصورة عامة ملاحظة خريطة الطاقة ومراكز تداولها علي نطاق إقليم شرق المتوسط، والتى أبقت التحركات التركية تدور تحت سقف محاولات فرض وقائع مادية وقانونية تفتح لها الباب أمام مساومات يطمع في إملائها علي دول المتوسط, مثل مشاريع البني التحتية “الطاقوية” وربطها بين مصر وأوروبا, تكوين مناطق تجحز بين المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص واليونان، ومن جهة أخري بين مصر وقبرص واليونان مجتمعين, اقتراح تسوية مع اليونان تتضمن القبول بمد خط أنابيب غاز شرق المتوسط عبر تركيا، والحد من أي عمليات لتعزيز العلاقات مع مصر أو توسيع التعاون معها في مجالات الربط الكهربائي أو مد خطوط للغاز الطبيعي.

ومن ثم تم عقد الاتفاقية المزعومة بين تركيا ورئيس حكومة الوفاق ” فايز السراج”, لتحول بين مشاريع ترسيم الحدود بين مصر واليونان وأيّة خطط لنقل الطاقة في هذه المنطقة, ولاسيما بعد توقيع الحكومة المصرية والقبرصية اتفاقاً لإنشاء أنبوب لنقل الغاز من حقل أفروديت لمصر, ولا تبرر مذكرة التفاهم بشأن التعاون في مجال التدريب العسكري الموقعة بين تركيا وليبيا في عام 2012، والتي استشهد بها الرئيس التركي “أردوغان” كذريعة لإرسال قوات تركية إلى البلد الذي مزقته الحرب، إرسال ونشر مجموعة كبيرة من القوات فى إطار خطط التدريب, حيث تركز الاتفاقية بشكل خاص على إنشاء آليات للتعاون بين الطرفين في مجال التدريب العسكري كما تقترح المادة (1), ويبدو أن فكرة نشر وحدة كبيرة من القوات التركية في الأراضي الليبية بعيد المنال بالنظر إلى المادة (4) التي تسرد مجالات التعاون, وذلك أثار انتقادات كل من اليونان ومصر وقبرص والعديد من الدول العربية, حيث تدعم حكومة أنقرة فايز السراج، رئيس الحكومة غير المعترف به شعبياً ومحلياً، ضد الجيش الوطني الليبي المتمركز في ليبيا بقيادة الجنرال “خليفة حفتر”.

ويبدو أن سقف المساومات التركية قائم علي الاحتفاظ بآخر معاقل مشروعها التوسعي في المنطقة، وهي العاصمة الليبية طرابلس، التي وفقاً للشواهد والمؤشرات الأخيرة ستشهد معركة فاصلة، علي إثرها ستتداعي المساعي التركية وهامش مناوراتها فيما لو فقدت الميليشيات المسلحة المدعومة منها السيطرة علي مفاصل العاصمة، وهو ما يفسر التعاون والدعم المصري للجيش الوطني الليبي في حربه ضد التنظيمات والجماعات المسلحة, الخارجة عن سلطة القانون والتي تدار من قِبل عناصر مدرجة علي قوائم الإرهاب الدولي, والشاهد أن ما يريده أردوغان يمضي في أكثر من اتجاه، فهو عبر الاتفاق العسكري مع السراج يجد منفذاً لتسليح الإرهابيين بشكل رسمي، وينقل المعركة لوجستياً إلى الأراضي الليبية، من خلال وجود أقرب ما يكون لقاعدة تركية على الأراضي الليبية, أي أن معركة طرابلس ومساراتها المعقدة ترتبط بكل من، مدي فعالية منظومة الردع المصرية التي نجحت حتي الآن في حصر التحركات التركية في تكتيكات التطويق والالتفاف، دون المساس بالمياه الاقتصادية الخالصة المصرية، وكذلك سقف محاولات المساومة التركية لدول المتوسط.

قبرص واليونان

فى هذا السياق، نجد أن هناك تبايناً في التعاطي التركي مع كل من قبرص واليونان، فتكتيكات التحركات التركية الأخيرة تندرج ضمن سياقات العزلة الإقليمية التي تشهدها في نطاق دول الحوض، ولاسيما بعد ثبات الدولة السورية في معادلة القوة بين المحاور الإقليمية المتناحرة في الحرب الدائرة علي أراضيها، ورفضها مد خط أنابيب للغاز القطري اقترحته الدوحة ليمر من خلال سوريا، ويتجه لتركيا، ومنها يتدفق لجنوب أوروبا معززاً فرص تحول تركيا لمركز وعقدة الغاز الجديدة في المنطقة، لكن الرفض السوري لذلك المقترح كان أحد أسباب اندلاع الحرب في سوريا, حسبما صرّح الرئيس السوري “بشار الأسد” في لقاء مع صحيفة “إيل جورنالي” الإيطالية، في ديسمبر 2016 م, لتتلاشي بذلك طموحات تركيا في الاستحواذ علي موقع “مركز وعقدة الغاز” في المنطقة.

فيما يخص دولة اليونان, فهى الدولة الأكثر تضرراً من الاتفاقية الموقعة بين الجانب التركي ورئيس حكومة الوفاق، إذ تعد إلغاء الاعتراف بالمياه الاقتصادية الخالصة للجانب اليوناني في جزيرة كريت، واستندت تركيا لمبدأ الجرف القاري بدلاً من حدود المياه الإقليمية المعمول به في الأمم المتحدة والمنبثق عنه قانون البحار, فتركيا وحكومة الوفاق الليبية ستتقاسمان البحر المتوسط بينهما مناصفةً في تعد صارخ علي المواثيق القانونية والشرعية الدولية, ويبدو أن أنماط التحركات التركية في المنطقة اتسمت بالحدة وتجاهل سيادة الدول.

على الجانب الآخر نجد دولة قبرص التى يعانى القسم الشمالى منها من الاحتلال التركى منذ عام 1974, وتأسيسها هناك جمهورية لم تعترف بها أي دولة عداها، تمارس تركيا نشاطات بحرية عسكرية وتنقيب قبالة سواحل جمهورية قبرص، وقد اتخذت أشكال النشاطات التركية قبالة المياه الاقتصادية الخالصة لقبرص أنماطاً عدائية، كانت أبرزها في فبراير من العام 2018, حين منعت البحرية التركية سفينة حفر تابعة لشركة “إيني الإيطالية” كانت في طريقها لجنوب قبرص للتنقيب عن الغاز, هذا فضلاً عن ارسال سفن التنقيب التركية ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص.

إن النشاطات التركية تتخذ أشكال “الاختراقات” القصيرة والدورية للمجال اليوناني، عن طريق المقاتلات متعددة المهام أو الطائرات المسيرة والقطع البحرية الخفيفة والمتوسطة, كان آخرها تنفيذ سلاح الجو التركي اختباراً لمدي قدرة واستجابة نظيره اليوناني في سياق الاتفاق الأخير الموقع بين تركيا وحكومة الوفاق, والذي يتسبب في انتهاك جسيم وبالغ للحقوق اليونانية، حيث اخترقت الأجواء اليونانية 20 مقاتلة تركية, وعلي إثر الاستجابة اليونانية النوعية تحاشت المقاتلات التركية الدخول في مواجهة واشتباك جوي، وانسحبوا لقواعدهم بعد دقائق من شغل سماء بحر إيجة بأكبر مناوشة جوية بين الجانبين منذ تصعيد التوترات في المنطقة, يأتي هذا بعد يومين من إغلاق مقاتلة ميراج يونانية علي فرقاطة تركية من طراز MEKO، ويعد ذلك الإغلاق الأكثر قرباً بين قطع عسكرية تركية ويونانية، إذ قامت المقاتلة اليونانية بالإغلاق الراداري بصاروخ اكسوسيت المضاد للسفن من مسافة قريبة للغاية.

البحرية المصرية

جاءت التكتيكات التركية الأخيرة الممثلة في الاتفاق المزعوم بينها وبين رئيس حكومة الوفاق الليبية، هذا الاتفاق الذى يُنافي قانون البحار المنبثق من الأمم المتحدة، وأيضاً ينافي ما نشرته “مؤسسة الأبحاث البحرية التركية” وشملت الرؤية التركية السابقة لمنطقتها الاقتصادية الخالصة، التي رغم مخالفتها لقواعد تعيين المناطق الاقتصادية الخالصة لم تكن تمتد لتمثل حاجزاً بين مصر واليونان, ويؤكد ذلك أن مد حدود تلك المنطقة غرباً ليس له من هدف, إلا قطع أي تواصل يسمح بإنشاء مشاريع تربط البنية الأساسية بين مصر واليونان، خاصة في مجالي الكهرباء والغاز الطبيعي ولاسيما بعد توقيع حكومتي مصر وقبرص اتفاقاً بمد خط أنابيب للغاز الطبيعي من حقل أفروديت القبرصي للسواحل المصرية سبتمبر من العام الماضي, وتوقيع الحكومة المصرية في مايو 2019 م اتفاقا للربط الكهربائي مع كل من قبرص واليونان من خلال مد كابل كهربائي بحري بطاقة ألفي ميجاوات وبطول 1707 كيلومترات.

فى هذا السياق جاءت التحركات المصرية الأخيرة خلال الخمس سنوات الماضية, والتي نجحت في تقديم نفسها كمركز لتبادل الطاقة وعقدة الوصل للغاز المتدفق لجنوب أوروبا, من خلال امتلاكها لبني تحتية لصناعات الغاز غير موجودة في دول الحوض كمنشآت التسييل في إدكو ودمياط علي ساحل البحر المتوسط، ونجاحها في تحقيق ارتباط استراتيجي بين كل من قبرص واليونان وفرنسا وإيطاليا علي وجه الخصوص, ومن ثم أجرت البحرية المصرية صفقات تسليحية مع الجانب الألماني تم بمقتضاه الاتفاق علي توريد غواصات التايب الهجومية بواقع أربع قطع قابلة للزيادة, لتمتلك غواصات التايب قدرة هجومية نوعية كبيرة، وقدرات متعددة المهام تتنوع ما بين الاستطلاع والرصد وأعمال الاستخبار الالكتروني. لطالما كان قدرات مصر في الأعماق نقطة ضعف أمام خصومها في الإقليم، ما يجعل الإجراءات المصرية لتحديث قدراتها في الأعماق كاشفاً عن التصور المصري لأبعاد القوة البحرية الجديدة الناشئة.

يأتى ذلك تزامناً مع قيام القوات البحرية المصرية بتنفيذ عمليات برمائية وعدد من الرمايات في إحدى مناطق البحر المتوسط، في إطار تنفيذ الأنشطة التدريبية للقوات المسلحة، بشكل عكس وبصورة واضحة إمكانيات أجهزة القيادة العامة للقوات المسلحة في كافة المراحل, بدايةً من الإشراف والقيادة إلى السيطرة على هذا النوع من التدريبات المعقدة على كافة المستويات الاستراتيجية والتعبوية والتكتيكية والتي تتطلب التنسيق الجيد على كافة المستويات.

نقل الإرهابيين

تزامناً مع تلك التحركات والتحرشات التركية العسكرية بدول حوض المتوسط, أصدرت المخابرات الأمريكية فى تقريرٍ لها صدر الشهر الماضى “إن 90% من المقاتلين الأجانب انضموا إلى سوريا بمساعدة تركيا”, ووفقًا لنشرة المقاتل الإرهابي الأجنبي المؤرخة في أبريل 2016 م، “دخل ما يقرب من 90 % من جميع المقاتلين الإرهابيين الأجانب (FTF) إلى منطقة النزاع عبر تركيا”, ووصل المقاتلون للعراق وسوريا عام 2015م, الجزء ذو الصلة من وثيقة “إنتل” العسكرية الأمريكية السرية التي تنص على أن 90 % من جميع المقاتلين الأجانب يستخدمون تركيا لربط داعش, وبناء عليه أصبحت تركيا مركزاً إقليمياً لاحتواء الإرهابيين واحتضانهم وإعادة توزيعهم جغرافياً وفق تحديدها بؤر الصراع المنشودة والمرتقبة, ويزاد الأمر تعقيداً حينما صرّح أردوغان أنه سيستمر فيما بدأه بالفعل من نقل المرتزقة والإرهابيين من سوريا، بعد أن فشل فى تحقيق أطماحه فيها إلى ليبيا، أرض المعركة الجديدة, ذلك بعد موافقة البرلمان التركى على مقترحه وتصديقه عليه, تأتى عمليات نقل المرتزقة تحت ستار الاتفاقية المزمع عقدها بين الحكومة التركية وحكومة السراج, وهذا الأمر غير قانونى دولياً وفقاً لبنود “الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة” واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم.

وعليه حذّر الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” تركيا، من مغبة إرسالها قوات عسكرية إلى ليبيا دون أن يذكرها بالاسم, وأكدّ أن الحل السياسي والشامل هو المخرج من الأزمة المستمرة منذ سنوات, ودعا لوقف فوري لإطلاق النار في ليبيا.

أما عن مصر فقد أصدرت الخارجية المصرية بياناً شددت فيه مجدداً على موقفها الرافض للتدخل التركي في ليبيا, واعتبرته انتهاكاً للسيادة الليبية، بعد موافقة البرلمان التركي على مذكرة الرئيس التركي “أردوغان”، وذكر البيان أن الوزير “سامح شكري” أجرى اتصالات مع كل من سكرتير عام الأمم المتحدة ومستشار الأمن القومي الألماني والممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بخصوص الملف الليبي, وتم التأكيد خلال هذه الاتصالات على رفض التصعيد في ليبيا من قبل تركيا، وضرورة تفعيل كل الآليات الممكنة للحيلولة دون حدوث أي تدخل في ليبيا بما يخالف القانون الدولي، مؤكدا على أهمية العمل للحفاظ على فرص التوصل إلى حل سياسي من خلال عملية برلين.

وهناك العديد من الدول العربية والأجنبية أدانت قرار التدخل العسكري التركي في ليبيا، وفى اتصال هاتفي بين الرئيسين الروسي “فلاديمير بوتين” والفرنسي “إيمانويل ماكرون” تناولا الملف الليبي، أكدّا على دعمهما للتسوية السلمية للنزاع، معربين عن دعم موسكو وباريس للجهود السياسية الدبلوماسية الرامية إلى ذلك، وتلك المبذولة بوساطة الأمم المتحدة وألمانيا.

في هذا الصدد عقد البرلمان الليبي جلسته الطارئة والتي صوت فيها على قطع العلاقات مع تركيا وإغلاق السفارات بين البلدين، وإحالة البرلمان رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، ووزير خارجيته للنائب العام، ومنع صدور الاتفاق بين تركيا وحكومة الوفاق، كما رفض البرلمان المصادقة على الاتفاقية بين تركيا وحكومة الوفاق، وطالب رئيس لجنة الدفاع في البرلمان بتوجيه تهمة الخيانة العظمى لرئيس المجلس الرئاسي فايز السراج, فيما أعلن القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر، خلال كلمة وجهها للشعب الليبي أن المعركة أصبحت حرباً ضروساً في مواجهة مستعمر غاشم، وأضاف أنه حان وقت المواجهة وقبول التحدي ورص الصفوف ونبذ الخلافات, وأن ينتفض الشعب الليبى في وجه أردوغان الذي وصفه بـ”السلطان العثماني المعتوه”، والوقوف في وجه مخططاته التوسعية.

وأعلنت القوى الوطنية الليبية “النفير العام” ورفض قرار البرلمان التركي، واعتباره غزوا أجنبيا للأراضي الليبية, كما أعلن “المجلس التسييري لبلدية بني وليد” حالة النفير، ورفض قرار البرلمان التركي، واعتباره غزوا أجنبيا للأراضي الليبية واصفاً الاتفاقية التركية مع السراج باتفاقية العار, وأكد البيان إعلان بلدية “بني وليد” تسخير كافة الإمكانيات لدعم القوات المسلحة العربية الليبية، لتحرير ليبيا من المستعمر وأذنابه من مليشيات السلطة والمال, وأشار إلى تفعيل الوحدات العسكرية وأجهزة الأمن بالمنطقة، وتأهيل منتسبيها، وفتح مراكز التدريب للمتطوعين والمنتسبين الجدد، مشددا على إعلان موقفهم المنحاز للوطن الذي رتب عليهم تضحيات جسام تم تقديمها، ولازالت تُقدم عبر التاريخ. 

التعليقات متوقفه