وزير المالية الأسبق د.احمد جلال في حوار لـ”الأهالى”:برنامج الإصلاح غير مكتمل والسياسة هي التي تحكم الاشياء

*اذا كانت الدولة جادة في التعامل مع العدالة الاجتماعية فلا يكفي برامج الحماية..*آفة بلدنا " عايز استثمار جديد" لماذا لا أستغل المتاح؟

1٬732

حوار : نسمة تليمة

(.. البرنامج الذي يطبق الآن ليس إلا برنامجا لتثبيت الاقتصاد الكلى، وليس برنامجا لإعادة هيكلة الاقتصاد، أو لإحداث نقلة نوعية في منظومة العدالة الاجتماعية. حتى لو طبق برنامج صندوق النقد الدولي بنجاح غير مسبوق، فمصر في حاجة إلى برنامجين إصلاحيين آخرين: أولهما لتحقيق طفرة في معدلات النمو لسنوات طويلة، كما فعلت الهند والصين. هذه الطفرة لا تأتى من تراكم عناصر الإنتاج (من رأسمال وعمل) وتبنى مشروعات قومية فقط، بل بتحسين الإنتاجية في قطاعات الاقتصاد المختلفة، وهذا يتطلب تغييرا جوهريا في هيكل الحوافز (بالمعنى الواسع) الذي يعمل في إطاره المستثمرون والمستهلكون. البرنامج الثاني محوره تكافؤ الفرص أمام كل المصريين، وخير وسيلة لذلك إعادة النظر في منظومة الضرائب والإنفاق العام، ومبادرات جادة في مجالي التعليم والصحة وفرص الحصول على العمل.هكذا كتب في مقال له عنوانه ” إصلاح برنامج الإصلاح” وزير المالية الأسبق خلال حكومة د. حازم الببلاوي، والتي كانت اول حكومة انتقالية بعد 30 يونيو، د. أحمد جلال لديه الكثير من الرؤي والتعليقات على الحالة الاقتصادية الراهنة في مصر، وهو اقتصادي بارز، شغل عدة مناصب في البنك الدولي، آخرها مستشار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعمل مديرا للمركز المصري للدراسات الاقتصادية (2000-2006)، ومديرا لمنتدى البحوث الاقتصادية 2007-2017. كان لنا معه حوارا تفصيليا مهما لما أثاره من نقاط قد لا ينتبه البعض لها في وقت لا يشعر فيه المواطن المصري بتحسن في ظروفه مقابل الأرقام الجافة التي تعلنها الحكومة يوميا..) .. إلى نص الحوار..

  • 90 % من المناقشات حول السياسات المالية تدور حول تساؤل مهم وهو هل السياسة المالية للدول انكماشية أم توسعية.. كيف تري السياسة المالية الحالية في مصر؟

هذا سؤال مهم، لأن السياسة المالية يجب أن تعمل على تنشيط الاقتصاد عندما يعمل بأقل من طاقته، وكبح الموجات التضخمية باتباع سياسات انكماشية عندما يعمل الاقتصاد بأعلى من طاقته على إنتاج سلع وخدمات. لكن هذا أحد أهداف السياسة المالية، ويبقي على الأقل هدفين آخرين: أولهما تحقيق التوازن المالي (تخفيض العجز والدين العام)، والمساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية. وقد حاولت تحقيق التوازن بين هذه الأهداف الثلاثة عندما توليت المسئولية في 2013، أولا بتغيير شعار الوزارة بحيث يعكس هذه الأهداف الثلاثة، وثانيا بالعمل على تحقيق هذه الأهداف، وثالثا بالإقلاع عن صندوق النقد الدولي لأن سياساته الانكماشية لم تكن ملائمة في فترة كان الاقتصاد يعمل دون طاقته. في مراحل لاحقة، تفاقم عجز الموازنة، وارتفع الدين العام، ولجأت الحكومة إلى اتباع سياسة مالية انكماشية، وهذه هي السمة الغالبة على السياسة المالية في مصر في السنوات الأخيرة.

  • وكيف حاولت وقتها تحقيق تلك الأفكار؟
  • عدلي منصور

أولا، اتبعنا سياسات مالية توسعية لأن الاقتصاد كان “نايم” وكان من الضروري دفعه للأمام، وتخفيف حدة البطالة، والاستفادة من الطاقات العاطلة. بالتحديد، قمنا بعمل حزمتين تحفيزيتين. موارد الحزمة الاولي جاءت من وديعة بقيمة 9 مليار دولار كانت لدي البنك المركزي منذ حرب الخليج ولم تستخدم، واحتجت وقتها موافقة رئيس الجمهورية ووافق بالفعل المستشار عادلي منصور. نصف هذه الحزمة ذهب للتوسع في البنية الأساسية، ونصفها الآخر ذهب لتخفيض الدين العام. الحزمة التانية كانت في حدود 12 مليار دولار، وجاءت مواردها كمنحة من الخليج، خاصة الامارات والسعودية. وقد تم تصميم الحزمتين التحفيزيتين بشكل يساعد علي تنشيط الاقتصاد الآن والدفع بالنمو إلي معدلات أعلي في المستقبل، وذلك بتركيز معظم الانفاق علي استثمارات في البنية الأساسية مثل الطرق والكباري. بالنسبة لمسألة العدالة الاجتماعية، تم إنشاء وحدة جديدة في الوزارة تحت عنوان وحدة العدالة الاقتصادية، وتم تعيين الدكتورة شيرين الشواربي لرئاستها. هذه الوحدة كان هدفها تحفيز القطاع غير الرسمي على الاستفادة من مزايا الانضمام للقطاع الرسمي، وتحسين برامج الاستهداف لحماية الفقراء. إضافة لذلك، كانت هناك مبادرات من قبيل الوجبات الغذائية في المدارس، وتعويض أصحاب المعاشات بشكل عادل عن مديونيات وزارة المالية.

  • وماذا عن الرشادة الاقتصادية، وهو تعبير رددته كثيرا خلال تولي سيادتكم للوزارة؟

مشكلة الاقتصاد بشكل عام أن الموارد محدودة والطلبات عليها غير محدودة. تعظيم الفائدة من تلك الموارد إما يحدث بالصدفة، أو أن يكون لديك نوع من الرشادة والعقلانية في تخصيصها الاستفادة بها. باختصار، الرشادة الاقتصادية هي طريقة في التفكير للتعامل مع ندرة الموارد بشكل عام، وعدم القدام علي مشروع إلا اذا كانت تكلفته أعلى من فوائده، او أن يكون عائده الاجتماعي أعلي من عائده الخاص، وأن هذه الفائدة لصالح جموع المصريين وليس جماعة معينة.

  • هناك مقولة حول صندوق النقد الدولي ان الحكومات هي التي تذهب اليه، ألا تري أن مصر من الممكن أن تصنع تنمية دون اللجوء الى الصندوق.. وما تعليقك على وجوده مؤخرا في معظم الاتفاقيات؟
  • صندوق النقد الدولى

هذا صحيح بشكل عام، لأن الواحد يذهب إلي الدكتور عندما يشعر بمرض ما. وبالطبع لو كان من الممكن للمريض أن يعالج مرضه بنفسه، فهذا أفضل. لكن من المهم ألا ننسي أن الذهاب لطبيب باطنة لأن عندي مشكلة في المعدة لا يعني أن كل الأعضاء الأخرى سليمة. ولهذا دعوت إلى إصلاح برنامج الإصلاح، لأن هناك مشاكل أخري لا يتعامل الصندوق معها.علي أي حال، في حالة الاقتصاد المصري، كان لدينا خلل في شكل عجز الموازنة وميزان المدفوعات، وخاصة سعر الصرف، وذهبنا إلى صندوق النقد الدولي، وقبلنا روشتته الانكماشية المعروفة. ولعلمك، انا غيرت رأيي بعدين في قصة الصندوق. في فترة سابقة كنت ضد الذهاب إلى الصندوق، ولاحقا كنت مع الذهاب للصندوق لأني رأيت البرنامج الذي قدمته الحكومة للبرلمان في ذلك الوقت ولم أجد أنه يعالج بشكل جيد مسألة عجز الموازنة أو اختلالات السياسة النقدية. هذا لا يعني كما قلت أن هذا البرنامج سوف يحل كل المشكلات، لدينا عوائق كبيرة لتحقيقي النمو الاقتصادي بشكل مستدام، وبرامج الحماية الاجتماعية لا تحل محل برامج العدالة الاجتماعية.

  • لماذا برامج الحماية الاجتماعية غير كافية؟

العدالة الاجتماعية لها مفاهيم كثيرة، وأكثرها قبولا مفهوم تكافؤ الفرص للجميع، بمعني توفير الظروف الملائمة كي يبدأ الجميع السباق من نفس الخط. وأهم وسائل تحقيق تكافؤ الفرص يأتي من توفير تعليم جيد، وخدمة صحة جيدة، وبينة تحتية من طرق وكباري ومياه نظيفة وصرف صحي. أما الحماية الاجتماعية فهي بالضبط ما تعنيه، أي أنها محاولة لتخفيف العبء على مصاب لا يستطيع التعامل مع اصابته. وأقرب مثال علي ذلك برامج تكافل وكرامة الذي طبقته وزارة التضامن الاجتماعي.

  • كتبت عن ” إصلاح برنامج الاصلاح” .. إلى ماذا كنت تنبه؟

الفكرة ان ما فعلته الدولة من إجراءات أخيرة قد يعالج التوازنات الكلية، لكن حتى يكون الإصلاح كاملا وشاملا لابد من برامج إصلاحية أخري للدفع بالنمو والتشغيل إلى الأمام، وتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية. وإذا كان برنامج صندوق النقد الدولي يتعامل مع التوازنات الكلية مثل عجز الموازنة والتضخم وسعر الصرف، فهذا الإصلاح يمثل برنامجا ير مكتمل، لا أستطيع تسميته برنامج اصلاح شامل، رغم وجود تحسن في بعض المؤشرات مثل اتزان سعر الجنيه أمام الدولار، واختفاء السوق السوداء، وارتفاع معدل النمو.

  • لكن المواطن المصري لا يشعر بهذا التحسن ولا يناسب طموحاته؟

المواطن يشعر بالتحسن عندما يمكنه الحصول على عمل مجزي، وخدمات بجودة معقولة، وعندما لا يأكل التضخم أجره، ويطمئن إلى استمرارية عمله، وأنه لا يدفع أسعارا مبالغ فيها للحصول على الكهرباء والخدمات الأخرى.وحتى اكون موضوعيا، هناك محاولات في هذا الاتجاه وبعض النتائج الإيجابية، ومنها انخفاض معدل البطالة. كما أن هناك مبادرات لإصلاح قطاع التعليم، ومبادرة التأمين الصحي الشامل. لكن أن أعيد واكرر الانجازات على المستوي الكلي وانسي طبيعة العمل والخدمات وجودتها والتعليم والصحة خطأ. الكوب نصفه ممتلئ ونصفه الأخر فاضي، بمعن أن هناك بعض الإنجازات لكن هناك أمور أخري لم تأخذ حظها من العناية.

  • أعلم ان لديك تعليق على أداء وزارتي التربية والتعليم والصحة؟

ما يحدث في التعليم الأساسي يعتبر في تقديري من أفضل الأشياء التي تقوم بهال الحكومة. هذه بداية جادة، لكن علينا ان نتذكر أن إصلاح التعليم لا يحدث بين يوم وليلة، وانما يأخذ جيلا تعليميا بأكمله، أي 12 سنة على الاقل، لنري ثماره. كون أننا لم نجن الثمار حتي الآن لا يعني أن الطريقة التي يفكر بها وزير التعليم الاساسي ليست صحيحة، فالمعركة متشعبة وتقوم علي مناهج تعتمد على الفهم وليس الحفظ، والتركيز على حل للمشكلة وليس حفظ النص، والتأكيد علي أن التعلم مسألة مستمرة، ولا يجب أن يتم تحديد مصير الطالب بناء علي الدرجات التي يحصل عليها في مأزق الثانوية العامة. النقاش المجتمعي لهذه التجربة جانبه الصواب بالتركيز على موضوع التابليت وترك باقي جوانب الإصلاح الأخرى. أتذكر هنا أنني كتبت كتابا عن التعليم عنوانه ” الطريق الذي لم يسلك “، وأعتقد أن ما يقوم به وزير التعليم يتفق بشكل كبير مع ما جاء في هذا الكتاب. قد ينقص المشروع بعض الأشياء لكن هذه أول مرة يكون لدينا تصور متسق مع نفسه ومع التفكير العالمي لإصلاح التعليم.الصحة يحدث فيها “حاجة هايلة “، وهي مشروع التأمين الصحي الشامل، ولكن لا اعتقد ان الوزارة تعطي هذا الموضوع الأهمية المستحقة. للأسف معظم الكلام على المبادرات الحميدة الفردية “اللى جايه من فوق”، إلا أن هذه المبادرات ليست هي التي سوف تصلح المنظومة الصحية. الاصلاح يعني ان يكون لكل المرضي نفس الخيارات، وأن تكون الخدمة المقدمة لهم جيدة، وهذا ما يمكن أن يحققه مشروع التأمين الصحي الشامل. المسألة ليست فلوس فقط، ولنا في المنظومة الكندية خير مثال.

  • ما هو الدور المفترض للدولة القيام به في اقتصاد السوق؟

كتبت مقال عن تلك الفكرة عنوانه ” المزاحمة أنواع”، وفي اعتقادي أن الدولة لا تقوم بما يجب ان تقوم به أحيانا، وتقوم بما لا يجب ان تقوم به أحيانا أخري، وفي كل الاحوال مستوى الاداء منخفض. وبشكل عام، الدولة منوط بها صناعة السياسات والقواعد التي يمشي علينها الناس، الوظيفة التانية تقديم الخدمات التي يتقاعس عن تقديمها القطاع الخاص، والوظيفة الثالثة هي مراقبة الأسواق وتنظيمها لتحقيق التوازن بين مصلحة المنتج والمستهلك.علي مستوي السياسات، لما الدولة يكون لديها عجز مبالغ فيه تستلف من الخارج ومن البنوك المحلية، وهذا له أثرين سالبين: الاول استيعاب الاموال ومزاحمة القطاع الخاص والعائلي، والثني رفع سعر الفائدة على الجميع لان الدولة لديها طلب كبير على الائتمان. علي مستوي تقديم الخدمات، حدث تحسن في السنوات الأخيرة في الكهرباء والطرق، إلا أن أجهزة الدولة القائمة على رقابة الأسواق فلا تقوم بدور فاعل لتحديد أسعار البيع بحيث تحمي المستهلك من الحالات الاحتكارية بطبيعتها. في كل دول العالم، الكهرباء والاتصالات والمياه أنشطة احتكارية بطبيعتها، حيث أنه من غير المعقول ولا في صالح المجتمع أن تمد كل شركة خطوط كهرباء، واتصالات ومواسير مياه في أرجاء نفس المدينة. وعليه المصلحة العامة تقتضي أن يكون مقدمي هذه الخدمات احتكاريين، ولا يجبب أن يتعدد المنتجون. وسواء قامت الدولة بتقديم هذه الخدمات أو أسندتها للقطاع الخاص، فالمطلوب أن يكون هناك جهازا رقابيا مستقلا لتحقيق التوازن بين مصلحة المستهلك والمنتج. في مصر، تقدم الدولة هذه الخدمات، ولديها أجهزة رقابية، لكن هذه الأجهزة غير مستقلة، ويرأسها الوزير المختص. أن تقدم الدولة الخدمة وتراقبها في نفس الوقت ” ماينفعش الكلام ده”.

  • وكيف تري زيادة أسعار الكهرباء؟

السؤال هل الاسعار التي أدفعها حقيقية أم مبالغ فيها؟  لا يمكننا معرفة ذلك للأسف، لان جهاز المراقبة غير قائم بدوره كما يجب. علي سبيل المثال، إذا كان السعر الحالي يعكس التكلفة الحقيقية، وأن هذه التكلفة ناتجة عن تشغيل عمال أكثر مما يحتاجه العمل، أو أن مرتبات ومزايا المديرين أعلي من فرصتهم البديلة في الأسواق، أو أن الكهرباء الفاقدة أعلي من المعدلات العالمية، لماذا يتحمل المستهلك هذه التكاليف؟ هناك تكلفة فعلية وتكلفة معيارية، وليس علي المستهلك أن يدفع للهيئة المقدمة للخدمة ما يعوضها عن عدم كفاءتها. وإذا كان ذلك صحيحا، فالجهاز الرقابي للدولة لا يقوم بوظيفته الرقابية والتنظيمية.

  • هل من المفترض أن الحكومات المتعاقبة تقوم بتغيير برامجها الاقتصادية حسب تواليها؟

السؤال صعب، فبرامج الدول المتقدمة تأتي من أحزاب سياسية، والأحزاب لديها توجهات لخدمة مصالح بعينها. حزب المحافظين في بريطانيا وحزب الجمهوريين في امريكا يعملون لحساب الأغنياء، وفي المقابل حزب العمال في بريطانيا وحزب الديمقراطيون في أمريكا يعملان لصالح الطبقة المتوسطة والعمال. وبالطبع، يصمم كل حزب برنامجه لتحقيق مصالح الجماعات التي يساندها. وإذا فازوا بالأغلبية في الانتخابات، يقوموا بتنفيذ البرامج التي وعدوا بها الناخبين. وهذا معناه أن البرامج تتغير بناء على إرادة شعبية، إلا إذا قرر الناخبون عدم الرغبة في التغيير. العنصر الآخر الذي يؤثر في تغيير البرامج الاقتصادية هي أن تتغير الظروف في أرض الواقع، وهذا يدعو إلى تغيير البرامج حتى مع استمرار نفس الحزب في الحكم. البرنامج الإصلاحي في وقت الركود لا يجوز تبنيه في الأحوال العادية، سواء كان ذلك بسبب ظروف محلية أو عالمية. بالنسبة لمصر، نظامنا السياسي لم ينضج بعد، وهذا موضوع يستحق برنامجا إصلاحيا في حد ذاته.

  • هل لهذا صرحت في السابق انه ليس هناك مستقبل للاقتصاد المصري دون نظام سياسي فعال؟

*نعم. الإصلاح الاقتصادي يمكن أن يحقق بعض النجاحات في الأجل القصير، لكن ضمان استمرار عملية الإصلاح تتطلب نظاما سياسيا تتنافس في الأحزاب على الحكم بطرح برامج بديلة أمام الناخبين، وبرلمانا يمثل المصالح المختلفة، وتطبيقا للقانون على الجميع. وبالمناسبة، الاقتصاديون “ناس غلابه” لأنهم يضعون روشتة، ولكن من يختار من بين هذه السياسات ويضع الأولويات؟ السياسيون يقررون، بعد غربلة ما يطرحه الاقتصاديون من بدائل. ولك أن تتخيلي هل يستطيع المجتمع أن يحقق مصالح الأغلبية من الناس دون نظام سياسي يسمح بتمثيلهم جميعا، عمال ورأسماليين وطلبة وفلاحين وباقي الفئات.

  • “المستثمر سيظل قلقا إذا كانت الحكومة غير واضحة” هذا تصريح سابق لك وقت توليك وزارة المالية في 2013. بما تفسر إحجام المستثمر الأجنبي عن الاستثمار في مصر مقابل وجود المستثمر الخليجي بقوة؟

المستثمر يضع أمواله في مشروع اليوم، لكن حصاد العائد يمتد علي مدى ال 20 سنة القادمة، ولهذا من المفهوم ألا يضع أمواله في مشاريع مستقبلة وهو غير مطمئن علي ما سوف يحدث. لكن هذا أحد عناصر الاستثمار، وهناك عناصر جذب أخري. وفي واقعنا الحالي، ورغم ما تم من تعديلات علي قانون الاستثمار، إلا أن معظم ما جاء من استثمار أجنبي كان في قطاعي البترول والغاز لأنه باتفاقيات خاصة مع الحكومة تجعلهم مطمئنين. غير ذلك، من المعروف أن مناخ الاستثمار في مصر ليس جاذبا بدرجة كافية. صحيح أننا نجحنا في مجال البينية الأساسية، ولم تعد الكهرباء تنقطع، وليس لدينا مشاكل السوق السوداء في العملة، لكن الروتين الحكومي، والتراخيص، والمعاملة الضريبية، وبطء فض المنازعات، إضافة الى المزاحمة من جانب الحكومة تتعوق جاذبية مصر للاستثمار. أضف لذلك أن منطقتنا غير مستقرة.

  • وماذا عن وجود المستثمر الخليجي؟

معظم التدفقات الاستثمارية في السنوات الأخيرة، عدا ما جاء في قطاع الطاقة، عبارة عن ” hot money”، أو الأموال الساخنة، في شكل استثمارات في أذون خزانة. المشكلة أن هذا النوع من التدفقات المالية “لو مش عاجبه حاجة بيبيع ويمشي”.

  • في حوار سابق مع دكتور جودة عبد الخالق نبه من خطورة الاستثمار المبالغ فيه في قطاع العقارات.. كيف تري ذلك؟

بالفعل الاستثمار في قطاع العقارات أعلي منه في قطاعات أخرى، مثل الصناعة والزراعة، وحتى التكنولوجيا. هذا غير متسق مع التنمية المستدامة، وهو نتيجة السياسات التي لا تحفز بالضرورة على الاتجاه لهذه القطاعات الأخرى. المستثمر والمنتج والمستهلك والعامل تستجيبون لمنظومة الحوافز التي تصنعها الدولة، والناس تتجه للعقارات لأنها تراها أكثر ربحية، لكن لو غيرت الدولة المنظومة الناس ستضع فلوسها في الصناعة والقطاعات المثيلة.

  • هل تري الدولة مسؤولة؟

يجب أن تتدخل الدولة في الحالات التي تفشل فيها الأسواق والقطاع الخاص في تحقيق الصالح العام، ويتوقف الأمر على نوعية السلع. تدخل الدولة حاكم في مجال السلع الاحتكارية مثل الكهرباء والمياه والغاز، لكن الدولة “غير شاطرة” في انتاج السلع الاستهلاكية.

أتذكر أن أحد شركات القطاع العام التي تنتج ملابس جاهزة وخسرانه، العمال يريدون نصيبهم في الأرباح والإدارة فاشلة، ولديهم بنطلونات شارلستون ب 500 مليون جنيه في المخازن. المسئول لا يريد التخلص منها، وبالطبع لا يستطيع بيعها لأن موضتها انتهت. لصالح من ان يستمر هذا الهراء؟ وإذا كان الإصلاح سوف يؤثر علي بعض الأفراد، أليس من الأفضل للمجتمع أن يوقف نزيف الخسائر، وأن يعوض بشكل مجزي من يضار؟ بعيدا عن الأيدولوجيات، هذا ما أراه.

  • ماذا عن ظروف سوق العمل في مصر؟
  • المسألة تتوقف على 3 أنواع من سوق العمل. القطاع غير الرسمي، الذي يعمل تحت اسوأ الظروف. العاملون في هذا القطاع يمثلون حوالي 40% من قوة العمل في مصر، دون عقود، أو معاشات، او خدمة صحية، وتطول ساعات عملهم، وقد يفقدوا الوظيفة فجأة، ويحدث خلل جوهري في حياتهم.  من المهم أن تعمل الحكومة على ادماج هذا القطاع في القطاع الرسمي، وكان هذا أحد أهداف وحدة العدالة الاقتصادية التي أنشأتها في وزارة المالية. الفكرة كانت أن نطلع بمشروع لتحفيزهم على الانضمام للقطاع الرسمي طواعية، وليس فقط عن طريق الإعفاء الضريبي. من يعمل في هذا القطاع شخص ذكى عارف مصلحته، ولابد أن تكون المسألة مربحة له حتي يتخذ مثل هذا القرار.العاملون في الحكومة، وعددهم يدور حول ال 6 مليون، وهذا رقم كبيرة جدا، يمثل ما يقرب من ربع القوي العاملة في مصر. هذا القطاع ينعم بكثير من المزايا، خاصة بالنسبة للسيدات، إلا أن الأجور الحقيقية لم تواكب الزيادة في التضخم. تضخم الجهاز الإداري جاءت نتيجة سياسات ضمان وظيفة لكل خريج في فترة سابقة، وهناك الآن محاولات للإصلاح الإداري والميكنة نرجو لها النجاح.أما العاملين في القطاع الخص الرسمي، فعددهم أقل مما يجب، وبدافع الربح، هناك إحجام في بعض الأحوال عن تشغيل النساء. في هذه الحالات، الدولة يمكن أن تلعب دورا إيجابيا، مثل توفير بيوت لرعاية أطفال، وتوفير مواصلات آمنة. النقطة الهامة الأخرى بالنسبة للعاملين في هذا القطاع أننا نحتاج الى قانون عمل جديد يحقق التوازن بين مصلحة صاحب العمل ومصلحة العامل. أعتقد انه هناك مسودة قانون لكن لا أعرف اين هي الآن.
  • وماذا عن وزارة العمل؟

ما اندهش له أحيانا أن وزارة العمل تضع إعلانات في الجرائد ان لديها 500 فرصة عمل، “هي دي شغلة الوزارة؟ ماحدش بيعمل كده”. دور الوزارة يجب أن ينصب علي تحسين سياسيات العمل، إذا كان لابد لنا من وزارة لهذا الشأن.

  • في ظل ارتفاع نسبة الفقر في مصر ألا يمكننا الاستعانة بدراسات العلماء الثلاثة الأجانب الحاصلين على نوبل في الاقتصاد خاصة وان بحثهم عن نفس الفكرة؟

اعرف واحد منهم كويس، بنارجي الهندي الأصل، واعتقد انهم حصلوا على الجائزة من أجل الطريقة العلمية التي فكروا بها في مكافحة الفقر. أما عن مسألة مكافحة الفقر بشكل عام، فهذا موضوع شغل الاقتصاديون من فترة طويلة، وهناك بدائل وسياسات كثيرة.

  • هل ارتفاع الدين الخارجي الذي وصل الى 110 مليار دولار يمثل خطورة خلال الأيام القادمة؟

وصلنا لمرحلة قلق وليس خطورة، وهناك اختلاف بينهما. القلق يعني أننا مازلنا في طور امكانية الحل والعلاج، ولا زلنا قادرون على سداد المستحقات عن الدين الخارجي. الأخبار الجيدة أيضا أن نسبة الدين الخارجي للدخل القومي بدأت تقل في الفترة الأخيرة.

  • متي تصل مصر الى استقرار اقتصادي؟

حين نصلح برنامج الاصلاح، ونستغل الطاقة العاطلة علي الأقل بنفس الحماس الذي نسعي فيه لجذ استثمار جديد.

التعليقات متوقفه