بعد تصريحات كيسنجر .. هل بدأت عملية تقسيم أوكرانيا

سياسة العقوبات الغربية تتداعى أمام صمود روسيا..كثير من دول الاتحاد الأوروبى لا ترغب فى ضم أوكرانيا للاتحاد

242

د. نبيل رشوان
مع احتدام المعارك فى منطقة لوجانسك التى استولت عليها القوات الروسية تقريباً، يشكو الجيش الأوكرانى من بطء الدعم العسكري المقدم له وأعلن عن حاجته لمدفعية وطائرات، وأبدى استياءه من أن الأوروبيين أرسلوا إليه طائرات ميج ـ 25 مفككة لتجميعها على الأرض الأوكرانية.
وكما تنقل الأنباء عن مسئولين أوكران أن الفارق فى المعدات بين الجانبين 1 إلى 50، مما وضع القوات الأوكرانية فى محرقة حقيقية خاصة فى مقاطعتى لوجانسك، التى تسعى القوات الروسية لتحريرها بأي ثمن حالياً، ومن ثم التفرغ لتحرير مقاطعة دنيتسك والوصول إلى الحدود الإدارية للمقاطعتين. وهناك بعض المناطق الإضافية التى استولت عليها روسيا مثل خيرسون وماريوبل وغيرها من المقاطعات الصغيرة والتي تحتفظ بها روسيا كأوراق ضغط تفاوض وتفاوض فيما بعد.
تصدع أوروبي
ورغم أن المعارك أخذت طابع التمركز إلا أن الأهم من هذا هو المواقف الدولية وخاصة الأوروبية، وفيما يبدو أنه بداية تصدعات جدية فى المواقف الأوروبية، بدأ البعض فى أوكرانيا يتحدث عن حدوث ملل أوروبي من العقوبات التى اضطر الاتحاد الأوروبى لفرضها على روسيا خاصة فى ظل مرحلة ما بعد كورونا، وما أحدثه من تشوهات فى الاقتصاد الأوروبى.
تلعب أوكرانيا الآن بورقة إنسانية باعتبارها مصدر القمح والزيوت، وتتهم روسيا بعدم السماح لها بذلك لتأليب الرأي العام العالمي على روسيا، خاصة الدول الأفريقية التى تعتمد على القمح الأوكراني القريب جغرافياً بدرجة كبيرة.
منافسة على الزعامة
لكن الأهم هو بدء المنافسة المبكرة بين الدول الأوروبية على الزعامة فى الاتحاد الأوروبى التى انفردت بها كل من ألمانيا وفرنسا بعد خروج بريطانيا، خاصة فى حالة انضمام أوكرانيا فى المستقبل، والدولتان تنظران لأوكرانيا باعتبارها دولة منافسة لهما على زعامة الاتحاد الأوروبى بما تمتلكه من ثروات وقدرات علمية وتقنية، ولا يجب أن ننسى أن أوكرانيا كانت شريكًا أساسيًا للولايات المتحدة فى مشروع «سى ستارت» لإطلاق الصواريخ من منصات بحرية، كما أنها هى منتجة صواريخ إس إس 18 وإس إس 20، التى كان الغرب يطلق عليها «الشيطان» فى الحقبة السوفيتية، وغيرها الكثير من الإنجازات مثل أضخم طائرة شحن فى العالم ومكوك الفضاء السوفيتى «يوران»، لهذا تنظر كل من فرنسا وألمانيا لأوكرانيا باعتبارها منافسا قويا لهما على الزعامة فى الاتحاد الأوروبى، ولذلك نجد أن المستشار الألماني أول من صرح بأن أمام أوكرانيا الكثير من الوقت للانضمام للاتحاد الأوروبى، ونفس التصريح تقريباً أطلقه الرئيس الفرنسي، بل أن الملل من الأزمة بدأ يأتي من أقصى الشرق من اليابان حيث صرح رئيس الوزراء الأسبق، شينزو آبى بأن مواقف الرئيس الأوكرانى هى التى أدت إلى العملية العسكرية الروسية.
فى السابق وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى سعت ألمانيا لنسج شبكة علاقات قوية مع روسيا بهدف السيطرة على أوروبا اقتصادياً، ومن ثم أنشأت خط أنابيب الغاز «السيل الشمالى ـ 1» و«السيل الشمالى ـ 2»، وكان من الممكن أن تسير الأمور بالنسبة لألمانيا وروسيا على ما يرام وكانت ألمانيا يمكنها أن تحكم قبضتها على الاتحاد الأوروبى من خلال علاقاتها المتميزة مع روسيا، مع منح فرنسا بحكم قدراتها بعضاً من التحكم، لكن العملية العسكرية الروسية وضعت ألمانيا فى موقف حرج مع شركائها الأوروبيين، بالإضافة إلى كون فرنسا وبأحاديث رئيسها مع الرئيس بوتين المتكررة أثار حفيظة بعض رؤساء جمهوريات البلطيق أكثر دول الاتحاد الأوروبى تحمساً للعقوبات على روسيا، ورغم تأجيل إقرار الحزمة السادسة من العقوبات إلا أنهم ماضين فى تنفيذ العقوبات دون انتظار إقرار العقوبات الجماعية.
«عملاء روسيا»
وبدأت تظهر فى أوكرانيا وفى بعض دول الاتحاد الأوروبى عبارات مثل «عملاء روسيا» والمقصود هنا الدول التى تتعامل مع روسيا، ووصل الأمر للبحث عن اتهامات لبعض القادة بالحصول على رشى من أجل اتخاذ مواقف سياسية بعينها تصب فى مصلحة روسيا (فرنسا والمجر)، على صعيد آخر أعلنت قبرص اليونانية أو الرومية واليونان عن أنهما سيعارضان انضمام أوكرانيا السريع للاتحاد الأوروبى، بينما كان رئيس الوزراء البريطاني أكثر حسماً فيما يتعلق بموقف الاتحاد الأوروبى من أوكرانيا ونصح القيادة الأوكرانية بعمل تحالف مواز للاتحاد الأوروبى، جاء هذا فى تصريح لبوريس جونسون نشرته صحيفة «كوريرا دى لاسيرا» الإيطالية، ماذا يعنى جونسون لا أحد يدرى وربما هو هنا يشير إلى الحميمية التى ظهرت أثناء زيارة الرئيس البولندى أنجى دودا للعاصمة الأوكرانية كييف مؤخراً والإعلان عن فتح الحدود بين أوكرانيا وبولندا، بالإضافة بالطبع لدول البلطيق الشديدة التحمس للعقوبات على روسيا.
تصريحات كيسنجر
لكن دعونا نعود إلى موقف كبار الاتحاد الأوروبى، فعلى سبيل المثال هاجم السفير الأوكرانى فى العاصمة الألمانية تباطؤ ألمانيا فى إرسال معدات عسكرية لأوكرانيا، وقال إن المستشار الألمانى شخصياً ضالع فى مسألة تعطيل توريد السلاح لأوكرانيا، وبينما برر البعض البطء بعدم خبرة ألمانيا فى عمليات توريد السلاح فى الظروف المعقدة الحالية، فإن آخرين أكدوا أن هناك عجزا فى الجيش الألمانى نفسه وليس هناك شيء زائد لتصديره لأوكرانيا بينما اتهم البعض ألمانيا بالخوف من الصدام مع روسيا، وفى الوقت الذى لم تفعل فيه فرنسا سوى أنها قالت بأنها ستنضم إلى أى عقوبات يتخذها الاتحاد الأوروبى والرئيس الفرنسى، وهو أكثر الرؤساء الأوروبيين اتصالاً بالرئيس بوتين فى الوقت الحالى، ربما يرغب أو متفائل في الحصول على دور فى حل الأزمة الأوكرانية كما فعل سلفه نيكولا ساركوزى إبان أزمة جورجيا عام 2008. لكن الأزمة هذه المرة تخوضها روسيا بحسم، فالأمر يتعلق بأوكرانيا التى بدونها كما يقول خبراء الجيوسياسة على روسيا أن تنسى حتى مجرد عودتها كقوة عظمى على الساحة الدولية، وهو ما يسعى إليه الغرب فى واقع الأمر، وإن كان من الممكن أن يقدم تنازلات مؤقتة لروسيا، كما جاء ذلك على لسان بطريرك السياسة الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر البالغ من العمر 99 عاماً، والذى أطلق تصريحات على هامش منتدى دافوس أثارت سخط أوكرانيا وأغضبت حلفاءها فى الاتحاد الأوروبى، عندما دعا أوكرانيا للتنازل عن جزء من أراضيها لروسيا كبداية لإيجاد حل سياسى لتحقيق السلام.
مواقف متضاربة
على إثر ذلك وكأن صحف الغرب فى أوروبا كانت تنتظر تصريحات كيسنجر، تحدثت عن أن أوكرانيا يجب أن تفكر فى ما يمكن وصفه بالتوافق الصعب والتنازل عن جزء من أراضيها، ورئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو بيرلسكونى الذى أدان العملية العسكرية الروسية فى بدايتها بأشد العبارات، يطالب الآن أوكرانيا بتقديم تنازلات، ولا ننسى رئيس الوزراء الحالى ماريو دراجى ومبادرته للسلام.
الرئيس الأوكرانى فى إطار سخطه تذكر مؤتمر ميونيخ عام 1938 بين رؤساء حكومات كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والذى فيه توقيع اتفاقية تقضى بضم سوديت (تشيكوسلوفاكيا) لألمانيا، وهذه كانت بداية الحرب العالمية الثانية لأنه حسب قوله فتح شهية هتلر لما حدث بعد ذلك.
أما السكرتير الصحفى للرئيس بوتين فقد علق على فكرة كيسنجر بقوله إنها ليست تنازل عن أراضٍ من جانب أوكرانيا، وأضاف على كييف أن تعترف بالواقع على الأرض وتقدر الموقف بفهم”. موقف كيسنجر استدعى الرد ممن يسمونهم “حزب الحرب” فى الولايات المتحدة وعلى رأسهم جورج سورس، الذى قال إن بوتين يجب أن يهزم فى أوكرانيا، وإلا فإن حضارتنا ستنتهي بانتصاره”. وفى رد من أحد كبار المسئولين الأوكران وهو أليكسى أريستوفيتش، على مقترحات كيسنجر وبعض القادة الأوروبيين، لم أسمع سوى صفارة وخجل من الذى يدير الحوار وانتهت الصفارة بإشارة باليد منه، وهو ما يعنى أن الإدارة الأوكرانية مليئة بالصقور وأن موقف الرئيس الأوكرانى ليس بيده ولا حتى بيد الأوروبيين المستعدين لحلول وسط، ولكن بيد متطرفين داخل القيادة بالإضافة إلى المحور الأوروبى الجديد بولندا وجمهوريات البلطيق، بالإضافة لبريطانيا والولايات المتحدة. وتحدث كذلك كثيرون ـ فى منتدى دافوس ـ عن أن الغرب بدأ بالفعل عملية تقسيم لأوكرانيا، جزء لروسيا وهى التى ستختاره وفقاً للعمليات العسكرية الدائرة على الأرض، ونصف سيتحمله الغرب وهو غرب أوكرانيا الجزء الفقير من ناحية الموارد منها.
ألمانيا وروسيا
ونعود لموقف ألمانيا من خلال تصريحات المستشار أولاف شولتز التى بدت عنيفة تجاه روسيا فى منتدى دافوس، عندما قال: إن الغرب وأوكرانيا لن يقبلا سلام يفرض عليهم من الخارج بشروط غريبة”، وهو ما أثار غضب الرأى العام فى ألمانيا الذى عبر فى معظمه عن أن شولتز حتى الآن لم يستطع ربط كلماته بفعل على الأرض، ووصفت الصحافة الألمانية المستشار بالمرائى يقول شيئا ويفعل شيئا آخر على الأرض فى إشارة إلى عدم أو تعطيل إمداد أوكرانيا بالسلاح، بالإضافة إلى أنه لم يرد على تصريحات كيسنجر وتصوره للحل فى أوكرانيا من خلال تنازل الأخيرة عن جزء من أراضيها لروسيا من أجل السلام، وطالب البعض فى ألمانيا بإقالة المستشار شولتز.
على أى حال القضية ليست شولتز ولا ماكرون القضية أن العملية العسكرية الروسية فاجأت الجميع، وكل أوروبا لم تكن تتوقعها واكتفت بأن هددت روسيا بأشد العقوبات، وتصوروا أن روسيا ستخاف من العقوبات ولن تقدم على اجتياح أوكرانيا، لكن بوتين خدع الجميع وقام بعمليته العسكرية قبل أن تستعد أوروبا بمصادر طاقة بديلة (هذا ما عرقل الحزمة السادسة من العقوبات) وقبل أن يرتب الأوروبيون أوراقهم، التى سيلعبون بها لمواجهة الموقف الروسى. لكن الأهم من كل هذا هو أن أوروبا لا تدرى ماذا تفعل فى الوقت الراهن، فإذا تعاونت مع روسيا أو تغاضت عن عمليتها فى أوكرانيا، فإنها قد “تتغول” وتفتح شهيتها على مناطق أخرى فى أوروبا، وإذا قاومت ودعمت أوكرانيا وانتصرت الأخيرة بمساعدة الغرب من سيقاوم الدور الأوكرانى الذى سيكون حينها “البطل” فى أوروبا بعد انتصارها على الدب الروسى، وهو ما سيلغى أو يهمش بالتأكيد دور قاطرتى الاتحاد الأوروبى ألمانيا وفرنسا، خاصة أن أوكرانيا لديها إمكانيات وموارد لا تقل عن هاتين الدولتين بالإضافة للمساحة الكبيرة نسبياً. هكذا وضع الرئيس بوتين الأوروبيين فى عملية حسابية صعبة، هل نساعد أوكرانيا لتسحب البساط من تحت أقدامنا أم نتركها ونقع تحت التأثير الروسى بدرجة أكبر حتى من الاعتماد على موارد الطاقة فقط.
أمريكا وأوكرانيا
الولايات المتحدة متحمسة لأوكرانيا وتريدها تحقق نتائج إيجابية فى معركتها سواء عن طريق الدبلوماسية أو الحرب، فهى تدرك أن انتصار روسيا سيجعل أوروبا تدير ظهرها لواشنطن التى فشلت حتى الآن فى إيجاد مصادر طاقة بديلة لحلفائها الأوروبيين، كما أنها خرجت للتو من أفغانستان بهزيمة منكرة، وليست مستعدة للمزيد. بينما سيقدم الرئيس بوتين نفسه كمنتصر، وخاصة أن له حلفاء داخل الاتحاد الأوروبى نفسه مثل المجر وفرنسا وحتى إيطاليا، ومن الممكن استبدال الدور الأمريكى بآخر روسى، الموقف صعب والأوروبيون بدأوا يفكرون من منطلق المصلحة فى الغالب، وفى اعتقادى أن هذا ما كانت روسيا تسعى إليه منذ بداية عمليتها العسكرية، أما أوروبا فقد كانت حساباتها خاطئة، فهى أولاً لم تتوقع أن تصمد روسيا أمام العقوبات الأشد فى العالم حتى الآن، وثانيا لم يتوقعوا أن يطول أمد العمليات العسكرية لهذه الدرجة بسبب المقاومة الأوكرانية، ثالثاً لم يتوقعوا أن الجيش الأوكرانى الذى كان خالياً تقريباً من التسليح ويحتاج لكل أنواع الأسلحة حتى أن ألمانيا تخشى أن تبقى قواتها بلا سلاح إذا ما أعطت أوكرانيا ما تطلبه من سلاح، على أى حال ألمانيا تسعى للتعاون مع روسيا كحليف لها للسيطرة على أوروبا منذ فترة حكم ستالين مروراً بالمستشارين شميدت وكول وحتى ميركل وشرودور، وهل تنقسم أوروبا لمحورين أحدهما موال لواشنطن ولندن والآخر لروسيا .

التعليقات متوقفه