بعد الإعلان عن اتفاق جديد بين الرئيس والكونجرس… هل تنتهي مشكلة سقف الديون الأمريكية؟

2

كتب: مارك مجدي

 

على امتداد العقد الماضي، صرح الكونغرس بصرف تريليونات الدولارات للخزانة الأمريكية، مما تسبب في تراكم  ديون الولايات المتحدة إلى ما يقرب من ثلاثة أضعاف منذ عام 2009. خلال تلك الفترة، قُيدت قدرة وزارة الخزانة على اقتراض الأموال لتسديد مدفوعات على هذا الدين  من خلال الحد الذي فرضه الكونجرس على الاقتراض، وهو الذي  يُعرف باسم سقف الديون.

وأصبحت الجهود الرامية إلى رفع الحد الأقصى أو إلغائه موضوع نقاش ساخن بين صناع السياسات ؛ واستخدم بعض المشرعين الذين ينتقدون الدين الحكومي المفاوضات بشأن تغيير الحد لمحاولة فرض تخفيضات في الإنفاق. وقد أدت سياسة حافة الهاوية المتبعة في الكونغرس بشأن هذه القضية بشكل متزايد إلى حدوث اضطرابات اقتصادية وسياسية، مما هدد بإيقاف الإنفاق الحكومي تمامًا وتوقف العمل الحكومي،  وخلف ذلك خيم شبح  التخلف عن سداد الديون الذي هدد بأزمة اقتصادية كبرى.

لكن قبل فوات الآوان،  توصل البيت الأبيض والمفاوضون الجمهوريون في الكونجرس إلى اتفاق مبدئي في وقت متأخر من يوم السبت لرفع سقف الديون الأميركية، وتجنّب التخلف عن السداد الذي يهدد بزلزلة الاقتصاد العالمي.

كيف تولدت الأزمة وما هو الاتفاق المؤقت الذي توصل إليه الرئيس مع الكونجرس؟

ما هو سقف الدين؟

أنشأ الكونجرس في عام 1917، حدًا الدين، أو السقف كما يطلق عليه الآن، وهو يحدد الحد الأقصى لمبلغ الديون الفيدرالية المستحقة التي يمكن أن تتحملها حكومة الولايات المتحدة. في يناير 2023، بلغ إجمالي الدين القومي وسقف الدين 31.4 تريليون دولار. وبينما تدير الحكومة الأمريكية عجزًا يبلغ متوسطه حوالي 1 تريليون دولار سنويًا منذ عام 2001، مما يعني أنها تنفق أموالا أكثر بكثير مما تتلقاه من الضرائب والإيرادات الأخرى. لتعويض الفارق، يتعين علي الحكومة الاقتراض لمواصلة تمويل المدفوعات التي يعطي الكونجرس تصريحًا بصرفها . لا تؤدي إجراءات الكونغرس لرفع سقف الديون إلى زيادة الالتزامات المالية للبلاد، حيث يتم تشريع قرارات إنفاق الأموال بشكل منفصل.  وتغيير في سقف الديون يتطلب موافقة الأغلبية من قبل مجلسي الكونغرس.

يصبح إجراء تصريح رفع سقف الديون أو تعليقه ضروريًا عندما تحتاج الحكومة إلى اقتراض الأموال لسداد ديونها. خلال الفترة الأكبر من القرن الماضي، كان رفع السقف إجراءًا روتينيًا للكونغرس السلطة الأكبر في تقديره. عندما لم تعد وزارة الخزانة قادرة على دفع فواتير الحكومة، تصرف الكونجرس بسرعة عبر قرارات الإجماع لزيادة الحد الأقصى لما يمكن أن تقترضه الحكومة. منذ عام 1960، زاد الكونجرس السقف ثمانية وسبعين مرة، كان آخرها في عام 2021. تم تنفيذ تسعة وأربعين من هذه الزيادات في عهد الرؤساء الجمهوريين، وتسعة وعشرون كانت تحت حكم الرؤساء الديمقراطيين.

يمكن للكونغرس  أن يقرر تعليق سقف الدين، أو السماح مؤقتا للخزانة بإلغاء حد الدين، بدلًا من رفعه بمبلغ محدد. في حين أن هذه الخطوة نادرة الحدوث خلال فترة التسعين عامًا الأولى من وجود السقف، فقد علق الكونجرس حد الديون سبع مرات منذ عام 2013.

بدأ فصل جديد من الجدل حول سقف الديون في عام 2011، عندما أدى الخلاف حول مستويات الإنفاق الحكومي بين الرئيس باراك أوباما والجمهوريين في الكونجرس إلى طريق مسدود. توصل الكونجرس في النهاية إلى اتفاق لرفع السقف قبل يومين فقط من التاريخ الذي قدرت فيه وزارة الخزانة أن أموالها ستنفذ. ومع ذلك، تسببت سياسة حافة الهاوية في الأسبوع الأكثر تقلبًا للأسهم الأمريكية منذ الأزمة المالية لعام 2008 ، إلى خفض وكالة التصنيف الائتماني “ستاندرد آند بورز جلوبال” الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة للمرة الأولى والوحيدة على الإطلاق. وقد قدر مكتب المحاسبة الحكومي، الذي يعمل بمثابة المدقق الفيدرالي، أن التأخير في التوصل إلى اتفاق زاد من تكاليف الاقتراض بمقدار 1.3 مليار دولار في ذلك العام وحده، نظرًا لارتفاع قيمة الأموال المقترضة نتيجة للتأخير. في مايو 2023، وضعت وكالة التصنيف “فيتش” ديون الولايات المتحدة تحت المراقبة السلبية، وهي خطوة تسبق عادة خفض التصنيف.

ومع تعمق الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي، ظلت الأصوات المؤيدة لرفع سقف الديون تثير الجدل، حيث يطالب النواب المعنيين بالميزانية في الكونجرس بخفض الإنفاق مقابل دعمهم لقرارات رفع سقف الدين. عندما كان من المقرر أن يتوقف سقف الديون عن الزيادة في عام 2013، أجبر الجدل حول مستوى السقف الحكومة على الإغلاق(وهي حالة تغلق فيها الحكومة الأمريكية منشأتها وتتوقف فيها عن أداء الخدمات ويغيب الموظفون عن أعمالهم لحين إقرار الميزانية الجديدة) ، وفي عام 2021، ظهرت المشكلة على الساحة مرةً أخرى. بينما يتداول صانعو السياسات قضية سقف الديون في عام 2023، يتفاوض الرئيس بايدن وكبار الجمهوريين في مجلس النواب على زيادة السقف مقابل تخفيضات في الإنفاق الحكومي الفيدرالي.

إذا أعطيت ابنك بطاقة ائتمان وظل ينفق حتى الحد الأقصى، لن تستمر في تزويده بالأموال، لكنك ستجلس معه ليققل من إنفاقه…لقد حان الوقت للحكومة الاتحادية أن تفعل الشيء نفسه”.  كتب زعيم الأغلبية في مجلس النواب كيفن مكارثي على تويتر.

ما هي  العواقب إذا انتهكت الولايات المتحدة سقف الدين?

تسبب الجدل حول سقف الديون في إعلان اقتصاديون مثل “روجر فيرجسون”  بأن الاحتمال الذي لم يكن من الممكن تصوره في السابق لتخلف الولايات المتحدة عن السداد—أي إعلان واشنطن أنها لم تعد قادرة على سداد ديونها أصبح واردًا. يقول بعض الخبراء إن ذلك من شأنه أن يبشر بالفوضى بالنسبة للولايات المتحدة والاقتصادات العالمية. وحتى في حالة التخلف عن السداد، فإن الوصول إلى سقف الديون من شأنه أن يعيق قدرة الحكومة على تمويل عملياتها، بما في ذلك الانفاق الدفاع الوطني أو استحقاقات التمويل مثل الرعاية الطبية أو الضمان الاجتماعي.

وشملت التداعيات المحتملة للوصول إلى الحد الأقصى خفض التصنيف الائتماني من قبل وكالات التصنيف الائتماني، وزيادة تكاليف الاقتراض للشركات والأفراد على حدٍ سواء، وانخفاض ثقة المستهلك الذي يمكن أن يصدم السوق المالية للولايات المتحدة ويدفع اقتصادها—والعالم—إلى الركود الفوري.

قال وزير الخزانة السابق “جاكوب لو” في أبريل 2023: “أعتقد أنه من الوارد جدًا أن نقول إنه إذا تخلفنا عن السداد، فهذا يجعل احتمالات الركود شبه مؤكدة”.

وقدر خبراء الاقتصاد في منظمة “جولدمان ساكس” أن تجاوز سقف الديون سيوقف على الفور حوالي عُشر النشاط الاقتصادي الأمريكي. ووفقًا للمؤسة البحثية، فإن تجاوز السقف الذي يؤدي إلى التخلف عن السداد يمكن أن يسبب فقدان ثلاثة ملايين وظيفة، بالإضافة لزيادة تكلفة متوسط الرهن العقاري لمدة ثلاثين عامًا، ورفع أسعار الفائدة  ليزيد الدين القومي بمقدار 850 مليار.  علاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى تحويل أموال دافعي الضرائب في المستقبل بعيدًا عن الاستثمارات الفيدرالية، التي يذهبون للاستثمار فيها طواعيةً طوال العقود الماضية،  التي تشتد الحاجة إليها في مجالات مثل البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.

يتم الاحتفاظ بأكثر من نصف احتياطيات العملات الأجنبية في العالم بالدولار الأمريكي، لذلك قد يؤدي الانخفاض المفاجئ في قيمة العملة إلى اضطرابات كبرى  في سوق سندات الخزانة مع انخفاض قيمة هذه الاحتياطيات. في الوقت الذي تكافح فيه البلدان ذات الناتج القومي المنخفض، المثقلة بالديون، من أجل سداد مدفوعات الفائدة على ديونها السيادية، يمكن أن يؤدي ضعف الدولار إلى جعل الديون المقومة بعملات أخرى أكثر تكلفة نسبيًا ويهدد بدفع بعض الاقتصادات الناشئة إلى مشكلات في تقويم سنداتها واحتياطيتها. فنجد أن 58% من احتياطات دول العالم بالدولار، و20% من اليورو، و6% من الين الياباني، و5% من الجنية الإسترليني، و3% بالرنمينبي الصيني حسب صندوق النقد الدولي.

وقد يفيد عدم استقرار الدولار أيضًا المنافس الرئيسي للولايات المتحدة وهي الصين. فعلى الرغم من أن بكين سعت منذ فترة طويلة لوضع الرنمينبي كاحتياطي عالمي، فإن العملة تمثل 3 % فقط من الاحتياطيات الأجنبية المخصصة في العالم.

كتب “ماركوس نولاند” ، نائب الرئيس التنفيذي ومدير الدراسات في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي:” بالنسبة للكونغرس المهووس بمكانة أمريكا في مواجهة الصين، فإن فكرة أنها ستلتزم بهدف خاص وتمنح الصين مثل هذه الفرصة تبدو غير مفهومة”.

 

معالم الاتفاق الجديد، هل ينهي هذا الاتفاق المشكلة؟

منح الاتفاق وزارة الخزانة فعلياً سلطة اقتراض غير مقيدة حتى يناير 2025 قبل أن تحتاج موافقة الكونغرس على أي زيادة أخرى. وهو ما يعتبر فوزًابالنسبة  للديمقراطيين وخاصة بايدن، الذي لن يضطر إلى مواجهة معركة أخرى للحد من الديون قبل السعي لإعادة انتخابه العام المقبل.

اتفق المفاوضون على إبقاء الإنفاق غير الدفاعي ثابتًا تقريبًا العام المقبل وزيادته بنسبة 1% فقط في عام 2025. تضع الصفقة قيوداً على ما يُعرف بالإنفاق التقديري، وهي الأموال التي يخصصها الكونغرس كل عام لتمويل الوكالات والبرامج الفيدرالية. لا تنطبق القيود على البرامج الإلزامية مثل الرعاية الصحية والأمن الاجتماعي.

سيرتفع الإنفاق الدفاعي العام المقبل بنسبة 3.3%، كما طلب بايدن في ميزانيته المقترحة. وهذا أقل من معدل التضخم، لذا؛ فهو لا يلبي تطلعات صقور الدفاع الجمهوريين في الحشد العسكري. لكنَّها تختلف عن صفقة سقف الدين عام 2011، حيث تم تطبيق حدود الإنفاق بشكل عادل على الإنفاق الدفاعي وغير الدفاعي.

تعني الصفقة أنَّ العديد من البرامج الفيدرالية ستواجه تخفيضات في الميزانية العام المقبل، إذ لن تكون هناك زيادة لحساب التضخم، حيث يتمتع الكونغرس بسلطة الموافقة على المزيد من الإنفاق في حالة وقوع حدث غير متوقَّع، مثل الحرب أو الوباء.

تدعو الصفقة إلى توسيع تدريجي لكوبونات الطعام وفق متطلبات العمل لتشمل المستفيدين الأكبر سناً، والمعروف رسمياً باسم “برنامج المساعدة الغذائية التكميلية”. حيث تتضمن الصفقة رفع حد السن الأقصى لتطبيق متطلبات العمل للحصول على المساعدة الغذائية، حتى سن 54 عاماً، بدلاً من سن 49، كما في القانون الحالي.

يقول البيت الأبيض إنَّه حقق انتصاراً من خلال الحصول على استثناءات لقدامى المحاربين والفئات الضعيفة. وتزعم الإدارة أيضاً أنَّ هناك خياراً من شأنه أن ينهي متطلبات العمل الأكثر صرامة في عام 2030 دون إجراء إضافي من قبل الكونغرس.

لكنَّ معايير العمل الأكثر صرامة تعتبر فوزًا للجمهوريين، الذين ضغطوا من أجل قواعد عمل إضافية للبالغين الذين يسعون للحصول على مساعدة لمكافحة الفقر. ويقولون إنَّ هذا سيوفر المال عن طريق تقليل عدد الأشخاص الذين يتلقون مزايا من تلك البرامج.

كما تم إلغاء خطة تسريع الموافقات على مشاريع الطاقة إلى حد كبير من الاتفاقية، وهو فوز للتقدميين الذين عارضوا التغييرات الرئيسية لقانون البيئة الأساسي، وفقاً لمساعد من الحزب الديمقراطي قد اطلع على الأمر.

شركات الوقود الأحفوري وأنصارها من الجمهوريين حصلوا على تعديلات طفيفة لتبسيط المراجعات البيئية فقط، مثل تعيين وكالة رائدة وجيدة لرعاية مراجعة تأثير واحدة. مع ذلك؛ ما تزال بعض إشكاليات التصاريح قيد التفاوض بينما تتم كتابة نص الاتفاقية التشريعي، وفقاً لشخص ثانٍ مطلع على المحادثات.

يبدو أن ما بدا كصراع سياسي له بعد اقتصادي غير قابل للحل، قد تم التوسط فيه بين أجندات الطرفين (الجمهوريون والديمقراطيون)، ولكن تظل مشكلة تفاقم حجم الديون على موارد الحكومة الأمريكية مسألة قائمة، ستُفتح حتمًا في عام 2025. حينها يكون قد جرى في النهر مياه كثيرة، تكون الصين قد حققت فيها الكثير من المشروعات التي تزيد من ريادتها، ويكون للدولار فيها مكانة عالمية أقل، وفي حين تطرح المسألة اليوم بين رئيس ديمقراطي وأغلبية برلمانية من الجمهورين، من المؤكد أن هذا التوازن سيختلف حتمًا في 2025.

 

التعليقات متوقفه