لقطات ..د.جودة عبدالخالق يكتب :ملحمة أكتوبر بين الأجداد والأحفاد

8

كانت الساعة تدق الثامنة من صباح يوم السبت بالتوقيت المحلى (الثانية بعد الظهر بتوقيت مصر). وكنت ومجموعة من زملائنا الطلبة المصريين نتجمع أمام منزلنا استعدادًا للانطلاق إلى مخيم في غابات كندا الشمالية لقضاء عطلة نهاية الأسبوع. تصادف أن نسيت زوجتى شيئًا، فعادت إلى شقتنا لتأتى به. وطال انتظارنا لها، إلى أن رأيناها تقف في النافذة وهى تصيح بأعلى صوتها: “تعالوا … اطلعوا … الحرب قامت … الحرب قامت”! تدافعنا جميعًا إلى بيتنا غير مصدقين، فوجدنا كريمة تقف أمام التليفزيون وعلى شاشته شاهدنا ما لم نكن نتخيله: الدبابات والعربات المدرعة المصرية تنطلق في ثبات وسلاسة إلى سيناء عبر كوبرى معدنى عائم، وتخترق الساتر الترابى إلى الضفة الشرقية لقناة السويس. جندي مصري يرفع علم مصر على نقطة في خط بارليف. جنود مصريون في حشود من القوارب المطاطية يعبرون القناة. وآخرون يوجهون خراطيم المياه إلى الساتر الترابى لفتح ثغرة أخرى لعبور المزيد من القوات.

كان المشهد يفوق الخيال. في شرق كندا ومن على بعد آلاف الأميال، رأينا مراسل التليفزيون واقفًا عند أحد الكبارى على قناة السويس وهو يقول: “أنا هنا أتحدث إليكم عند واحد من عدة كبارٍ أقامها سلاح المهندسين المصرى عبر قناة السويس. وأمامى أرى المركبات والدبابات المصرىة المتجهة شرقا تعبر في انتظام إلى سيناء. إن المرور عبر الكوبرى يشبه المرور في فيفث أفينيو (أهم شارع في حى مانهاتن في مدينة نيويورك) من حيث سلاسته وانتظامه. علينا أن نستقى أخبار المعارك من الجانب المصرى لأنه أكثر مصداقية من الجانب الإسرائيلى”. إزاء هذا المشهد المثير تصايحنا في نوبة هستيريا، وتعانق بعضنا، وبكى بعضنا، وضحك آخرون. ولكن كان منا من يضحك ويبكى في آن واحد؛ إنه الفرح لرؤية جيشنا الباسل يتقدم ممزوجًا بالخوف من الخطر على خط بارليف الذى قيل إنه لا يُقهر. لكن بعد قليل استعدنا ثباتنا الانفعالى، وبدأنا نفكر ونخطط لننفذ.
تواصلنا مع باقى الطلبة المصريين والعرب. وشكلنا لجانا للنشاط. لجنة لحصر رجال الأعمال والمواطنين المتعاطفين معنا ومخاطبتهم لجمع تبرعات لدعم المجهود الحربى. ولجنة للإعلام لمخاطبة الرأي العام لتوضيح أننا نحارب لاستعادة أرضنا المحتلة، وبالتالي فحربنا عادلة. ولجنة لعمل الترتيبات اللازمة للقيام بمسيرة في شوارع المدينة للتعريف بقضيتنا وعدالة حربنا. ولجنة للتواصل والمتابعة مع السفارة المصرية والمكتب الثقافي المصرى في العاصمة الأمريكية واشنطن. النتيجة: جمعنا مبالغ مالية معتبرة من المجتمع المحلى والجالية العربية، وتبرعنا نحن الطلبة بمرتب شهر من المنحة الدراسية. وحولنا كل ذلك إلى مصر عن طريق بعثتنا الدبلوماسية في واشنطن. قمنا بمسيرة مهيبة عبر شوارع المدينة رافعين علمنا ومرددين نشيد “بلادى … بلادى … بلادى”. (الطريف أن إحدى زميلاتنا واسمها مايسة كانت حاملًا في الشهر التاسع وعلى وشك الولادة لكنها أصرت على الاشتراك في المسيرة). وشاركت أنا في عدة برامج إعلامية لتوضيح موقفنا للكنديين. وفي الجامعة، قالوا لنا مشكورين “سنعطيكم إجازة، لأننا نتفهم موقفكم ونقدر ما تقومون به من جهد لمساندة بلادكم”.
وبمناسبة اليوبيل الذهبى لملحمة أكتوبر، رتبت منذ أيام زيارة الى “بانوراما أكتوبر” لبعض أطفال أسرتنا (أحفاد الراحل العميد أحمد خليل، من مؤسسى سلاح الدفاع الجوى، ومن أبطال حرب أكتوبر). الغرض منها غرس روح الوطنية والانتماء في النشء. وعندما عجزت عن مرافقتهم بسبب المرض، تكرم اللواء أيمن عبدالمقصود المشرف على البانوراما بتسهيل مهمتهم، فله منى ومنهم جزيل الشكر. وطلبت من الكبار منهم (11 سنة) أن يكتبوا تقريرًا بما شاهدوه ويسجلوا انطباعاتهم، فكانت كتاباتهم مدهشة ومنعشة. إليكم أعزائى القراء بعض ما سجلوه. فريدة قالت: “وقد أعجبتنى شجاعة الجندى المصرى وبراعة التخطيط من قياداته. وقد علمت من أبى وأمى أن جدى أحمد كان من أبطال هذه الحرب المجيدة. وقد شعرت بالفخر”. وكتب أحمد “وشاهدت الرئيس أنور السادات .. يعطى أوامره للقادة باقتحام خط بارليف .. وعبرنا القناة في 6 ساعات ودمرنا خط بارليف. ورفعنا علمنا فوق أرضنا الحبيبة. والتقطنا صورًا جميلة مع أسلحة العدو المعروضة بفناء البانوراما”.

التعليقات متوقفه