عن مياه النيل ورأس الحكمة .. يكتب الدكتور عبد الفتاح مطاوع رئيس قطاع مياه النيل الأسبق للأهالي

443

توصيل مياه النيل خارج حوض نهر النيل كان دائماً حلم جارات مصر من الدول في حوض البحرين، حيث أولهما حوض البحر الأبيض المتوسط و ثانيهما حوض البحر الأحمر.

الفكرة لها العديد من الجوانب، منها الفنى و السياسي و الاقتصادي و القانوني، وأيضا التفاوضي و العملي و الإعلامي و المناخي، و غيرها من الجوانب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال عرضها فى مقال واحد، و يمكن عرضها ببساطة فى بحث علمى، ولكني سأجتهد لعرضها في عدة مقالات.

ألف باء التنمية:
قبل الشروع فى تنفيذ اى مشروع تنموي زراعي أو صناعي أو عمراني يجب الإجابة بوضوح على سؤال مدى توفر المياه العذبة، و نوعيتها، فى مكان و زمان الاستخدام؟
الإجابة ليست بسيطة أو سهلة، و ذلك لكون الماء هو العامل المحدد للتنمية، وعلى الأخص بدول الندرة المائية و مصر تقع فى قلبها.

عالم دولى جديد يتشكل:
بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، دارت حرب جديدة تحت مسمى الحرب الباردة بين المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتي، و للأسف الشديد لازال جزء كبير من قضايا أجندات تلك الحرب مستمرًا حتى الآن، ومنها قضايا مياه الأنهار العذبة الدولية العابرة للحدود وهي كثيرة.
و خلال الخمسة أعوام الماضية وعلى وجه التحديد منذ عام ٢٠١٩ حتى الآن، مر العالم بأحداث عديدة منها وباء كوفيد ١٩ أو وباء كورونا، وتلاه الحرب الروسية الغربية على الأراضي الأوكرانية، والحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بالسودان، والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني بغزة، و هجمات الحوثيين على وسائل النقل البحرى العالمية بمضيق باب المندب والبحر الأحمر وبحر العرب، وما خفى كان أعظم.

على الجانب الآخر من العالم:
على الجانب الآخر من العالم توجد الحروب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وقضايا جزيرة تايوان، والصراع بين الكوريتين.
ما سبق وغيره يحمل فى طياته عالم دولي جديد يتشكل، فأين نحن من هذا العالم؟ و أين يقع نهر النيل ومياهه فى هذا العالم؟ و هل يمكن لمصر أن تقدم مبادرات إقليمية ودولية للأمن والسلم الإقليمي و العالمى؟

الماء و الغذاء و الطاقة:
بات واضحاً أن قضايا الماء والغذاء والطاقة أصبحت على صدر قائمة أجندات اهتمامات كل دول العالم، بعد أن تعطلت سلاسل الإمداد و تهديدات المضايق بالبحر الأحمر، وتايوان و قناة بنما نتيجة للتغيرات المناخية، وتأثر قناة السويس و إرتفاع تكاليف الشحن و التأمين، وارتفاع معدلات التضخم على الجميع بدون استثناء، و غضب المواطنين على سياسات الحكومات، ليس بالدول الهشة والضعيفة والنامية وفقط، ولكن على الدول الغنية أيضاً بأوروبا الغربية.

مياه مشروع رأس الحكمة:
يجب أن أعترف بأن معلوماتي عن مشروع رأس الحكمة كانت كغيري من الملايين، التى سمعت عن المشروع من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والصحف والمجلات، بالإضافة إلى رسائل من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث معظم المعلومات المتداولة كانت ما بين مؤيد وداعم للمشروع من جانب، وعلى الجانب الآخر كان الرافض والناقد للمشروع.
آنذاك جال بخاطرى تساؤل حول مصدر المياه العذبة التى ستغذى المشروع صاحب المليارات من الدولارات، ومئات الكيلومترات المربعة، وبكل تأكيد الملايين من قاطنيه بالمستقبل.
واعتقد أن المخططين والمصممين للمشروع سيعتمدون على مياه عذبة من محطات تحلية ضخمة من مياه البحر الأبيض المتوسط المالحة، والتي لا نعلم حتى الآن تكلفة البنية الاساسية لتلك المحطات و مصادر الطاقة الكهربية اللازمة للتشغيل و تكلفتها السنوية، بالإضافة إلى تكاليف التشغيل والصيانة.
بمعنى آخر ما هى جملة تكاليف بند المياه العذبة اللازمة للمشروع؟ و هل تم عمل دراسة أخرى لحساب تغذية المشروع من مياه النيل على سبيل المثال لا الحصر أو من مصادر أخرى كحصاد مياه الأمطار أو من مياه خزانات جوفية.

أين نحن:
نحن نشهد عالمًا جديدًا يتشكل، فأين نحن من هذا العالم و أين يقع نهر النيل ومياهه فى هذا العالم؟ و هل يمكن لمصر أن تقدم مبادرات إقليمية و دولية للأمن والسلم الاقليمى والعالمى؟
أعتقد أن موضوعنا سيحاول الاجابة على تلك الاسئلة.

ملحوظة مهمة:
عزيزى القارئ
بالفعل مياه النيل تصل إلى البحرين الأبيض والأحمر منذ آلاف السنين، و لكن ما حدث مؤخرًا فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين هو تهذيب للقنوات المائية الناقلة لمياه النيل، حيث ترعة الإسماعيلية بنهايتها توجد ترعة المياه الحلوة للسويس على خليج السويس بالبحر الأحمر، و ترعة المياه الحلوة لبورسعيد على البحر الأبيض المتوسط، هذا بخلاف ترعة المحمودية و نهايتها الاسكندرية و غيرها من القنوات الاخرى.
وكان إنشاء تلك القنوات لتغذية مشروعات كبرى مثل قناة السويس و ميناء الاسكندرية.
السؤال المطروح الآن يتعلق بمدى إمكانية توصيل مياه النيل إلى رأس الحكمة، طالما نحن نتحدث عن مشروع ضخم و حجوم المياه اليومية والسنوية المطلوبة و استدامتها.
قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك سؤال آخر و هو من أين سنأتي بمياه إضافية لتغذية مشروع رأس الحكمة وغيره من المشروعات المماثلة بالبحر الاحمر، و كذا بمياه إضافية لري ظمأنا و ظمأ جيراننا العطشى و هم كثر.
بكل تأكيد لدى المخططين و المصممين و المنفذين لمشروع رأس الحكمة تقدير دقيق لأحجام المياه المطلوبة، و لسعر المتر المكعب من مياه البحر المحلاة مقارنة بسعر المتر المكعب من المياه بالسويس و بورسعيد والاسكندرية.
هذا قدرى و هذا هو ما سأحاول الإجابة عليه.

انقلابات مصرية جغرافية:
وميزان مائي جديد:
يجب أن يكون واضحاً ونحن نتحدث عن موقع مصر الجغرافى بالنسبة للعالم وإفريقيا، أن التغيير كان واضحاً عند حفر قناة السويس فى القرن التاسع عشر، وعند خلق بحيرة ناصر أمام السد العالى في القرن العشرين، فقناة السويس أوصلت ما بين أطراف العالم الجديد بالعالم القديم، و بحيرة ناصر أحدثت تغييرًا هائل فى الخريطة المائية لحوض نهر النيل.
لكن توصيل مياه إضافية جديدة للبحرين و لرأس الحكمة على سبيل المثال لا الحصر ممكن جداً من خلال تنفيذ مشروع إنشاء سد عالى جديد ببحيرة ناصر، لتقليل البخر السنوى و تنفيذ مشروعات تخزين الطاقة، وربط شبكات كهرباء دول الشرق الاوسط وجنوب الصحراء.
أما مشروعات إضافة مياه جديدة لمصر ولجيرانها العطشى فهي ممكنة عن طريق تنفيذ مشروعات أعالي النيل و إدارة التخمة المائية بدول جنوب الصحراء، و المساهمة الفعالة فى حل مشاكل الماء و الغذاء.
حال تنفيذ تلك المشروعات يمكن القول أن خريطة الميزان المائي ستتغير للأحسن، شريطة وجود إرادة سياسية لدى دول المنطقة والمجتمع الدولى وتوفر رغبتهما لإحداث الأمن والاستقرار والسلام للجميع.
وسوف نتتناول مثل تلك المشروعات وإمكانياتها في مقالات قادمة بإذن الله.

*الدكتور عبد الفتاح مطاوع

التعليقات متوقفه