مسلسل الحشاشين (أمثولة صوفية عن زعيم حركة شيعية)

251

كتب محمد كرم

إذا أردنا تلخيص مسلسل الحشاشين في بضع كلمات؛ فلن نجد أدق من عبارة الأديب الصوفي الكبير محمد بن عبد الجبار النّفري في كتابه “المواقف والمخاطبات”، إذ قال على لسان الله: “وقال لي خذ حاجتك التي تجمعك عليَّ وإلا رددتك إليها وفرقتك عني”. هكذا رأى الكاتبُ عبد الرحيم كمال سيرةَ زعيم حركة الحشاشين “حسن الصبَّاح” ومسيرته.

وإذا كانت النفس هي أكبر عقبة في الطريق الصوفي إلى الحق، وعلى السالكين محاربتها وتجاوزها؛ فحسن الصباح قد سلك الطريق بعقله مسترشداً بمعارف عصره، متغلباً على جسده وشهواته، لكنه لم يسلك الطريق بروحه – وهي ليست غير الله في التصوف – ولم يتغلب على نفسه وشهوتها للعظمة والسلطة والعبقرية؛ فصعد إلى السماء لكن على سلم تراصت الجثث التي قتلها على جانبيه – كما رأى في أحد أحلامه – وأخذ حاجته التي جمعته مع الله؛ لكن إلى حين، حتى سطعت الحقيقة أمامه في النهاية؛ فرأى عظمة نفسه تتلاشى كما يتلاشى الظل عند سطوع الشمس، ولم يتحمل عقله أنوار الحقيقة.

وقد تناول الكاتب عبد الرحيم كمال سيرة حسن الصبَّاح كما تناول العديد من الأدباء الصوفيين سير الكثير من الشخصيات في التراث الإسلامي، والديني بشكل عام، غير مستهدفين التوثيق والإخبار، بقدر ما استهدفوا التمثيل والاعتبار؛ فخرج تناولهم لتلك الشخصيات في صورة أمثولات خيالية أكثر منها واقعية. وكذلك خرجت قصة حسن الصباح في مسلسل الحشاشين، دون التزام صارم بالوثائق التاريخية الموجودة، في هيئة أمثولة صوفية خيالية عن سالك عرقلت نفسُه وصولَه إلى الحقيقة التي يستهدفها المريد الصوفي. لذا استلزم وجود شخصية نقيضه لحسن الصبَّاح في المسلسل، بغض النظر عن ضرورتها الدرامية، وهي شخصية أبي حامد الغزالي، الذي ظهر في الأحداث بوصفه مريداً للحق تغلب على نفسه، ومن هنا صار متغلباً على ما لم يتغلب عليه الصبَّاح.

عادةً ما تكون الأمثولة مثالية، ليست شخصياتها سوى أمثلة للتعبير عن عبرةٍ ما؛ لذلك لا يتحركون استناداً إلى سياق درامي بقدر ما يحركهم الكاتب مستنداً إلى نسقٍ حِكَمي، ولا تحكم أفعالهم دوافع خارجية تحتكم إلى بنية اجتماعية محيطة لكن تتحكم في أعمالهم نوازع داخلية تحتكم إلى بنية أخلاقية عميقة. فعندما أراد الكاتب أن يكشف عما وراء مسيرة حسن الصبَّاح المليئة بالجثث والدماء أتى بواقعة خيالية رمزية حدثت له في الطفولة؛ إذ سقط في بئر بعدما طارده أقرانه الذين يشعرون بالغيرة من نبوغه، وأنقذه شبح امرأة يمثّل قوة خارقة مظلمة بعدما خيَّرته بين النور والظلمة ودفعته لاختيار الظلمة. فكأنَّ مسيرة حسن الصبَّاح، التي لم يؤمن فيها إلا بنفسه، كانت تسديداً لدينه لتلك القوة المظلمة التي أنقذت نفسه من الموت. فالشر هنا ليس ظاهرة اجتماعية يمكن تفسيرها بالعقل، بل هو ظاهرة فردية فسَّرها الكاتب برموز خيالية استناداً إلى الأخلاق الصوفية.

استخدم الكاتب عبد الرحيم كمال في مسلسل الحشاشين تيمة الأصدقاء الذين تجمعهم منذ الصغر أحلام كبيرة لتغيير العالم، وقد استخدمها مسبقاً في مسلسل القاهرة – كابول. لكن تلك التيمة يحكمها منطق الأمثولة الذي لا يتميز بالترابط الدرامي والعقلاني بين الأحداث والشخصيات؛ فالعلاقة بين الأصدقاء الثلاثة: حسن الصباح وعمر الخيام ونظام الملك – ليست هي الحبكة الرئيسة التي ترتكز عليها الدراما بقدر ما هي تيمة لإجلاء العبرة من تلك الأمثولة الصوفية، وقد عبَّر عنها عمر الخيام عندما قال إنه عبدٌ لخوفه، ونظام المُلك عبدٌ للسلطة، والصبَّاح عبدٌ لنفسه. فالعلاقة بين الأصدقاء الثلاثة لا تستند إلى خط درامي بقدر ما تستند إلى مواقعهم على الطريق الصوفي؛ فنظام المُلك خارج هذا الطريق إذ إنه اختار السلطة وهو طريق أفقي في الحياة الدنيا، أما الصبَّاح والخيَّام فهما على الطريق الرأسي الصاعد إلى حياة عليا؛ لكن كل منهما توقف في مرحلة منه دون الوصول لنهايته. وقد أوضح الأديب الصوفي الكبير “فريد الدين العطار” مراحل الطريق الصوفي السبعة:

1-وادي الطلب.

2-وادي العشق.

3-وادي المعرفة.

4-وادي الاستغناء.

5-وادي التوحيد.

6-وادي الحيرة.

7-وادي الفناء.

وقد ظلَّ عمر الخيّام عالقاً طوال حلقات المسلسل في وادي الحيرة الذي وصف العطَّار حال السالك فيه بأنه يقول “إنني – في الحقيقة – لا أعرف كُنهي، كما أنني لا أعرف نفسي، إنني عاشق ولكن لا أعرف من أعشق. ولست مسلماً ولا كافراً فماذا أكون؟”. أما حسن الصبَّاح فقد ظل عالقاً في وادي المعرفة الذي وصفه العطَّار بأنه “لا بد له من إنسان كامل” لكنَّ الصبَّاح ظل عالقاً فيه دون أن يتجاوز نفسه، ومن هنا كانت العقبة، وكان العقاب.

قدَّم الكاتب عبد الرحيم كمال شخصية حسن الصباح بوصفه إنساناً يحوز قدرات معرفية هائلة يقدر من خلالها على التأثير في الأتباع وضمهم إلى فريقه، فانضمام الأتباع له لم يكن نابعاً من مأساتهم الاجتماعية باعتبارهم أفراداً يعانون ظلماً بقدر ما كان نابعاً من انبهارهم بكرامات حسن الصبَّاح، تلك الكرامات التي كشف الكاتب أسبابها العقلانية التي ترجع إلى استخدامه لما تحصَّل عليه من معارف عصره. لكنَّ الكاتب هنا قد تأرجح بين تقديم حسن الصباح باعتباره زعيماً يتلاعب بالمعرفة والعقيدة لأهدافه الشخصية وبين تقديمه بوصفه مؤمناً حقاً بما أسسه من عقيدة وما توصل إليه من معارف؛ فحيناً يبدو مؤمناً بعقيدته وحيناً لا يبدو أحد يؤمن بعقيدته إلا الأتباع، أما هو فلا يؤمن إلا بنفسه، وقد كشفت حيلة تابعه “برزك أوميد” في الحلقة التاسعة والعشرين، بعدما قتل ابنه “الهادي” وأبلغه أنه صعد إلى السماء – أنّ الصبَّاح لا يؤمن بأساس عقيدته الشيعية النزارية التي تقول إن “الإمام نزار” لم يُقتَل وصعد إلى السماء، وحسن الصبَّاح هو همزة الوصل بينه وبين الأتباع حتى يعود إلى الأرض. ورغم أنها حيلة من الذكاء في غاية؛ فالإيديولوجيا المسيطرة – سواء على الجماعات الانفصالية أو الدول – لا تُقدَّم بوصفها أكاذيب يصيغها الزعماء والكهنة للعامة، فتجعلهم يطيعونهم وهم يعتقدون أنهم يطيعون الله؛ لكن الزعماء أنفسهم يؤمنون بالإيديولوجيا بقدر إيمان أتباعهم بها.

لم يخضع الكاتب عبد الرحيم كمال إلى الرؤية المحافظة التي ترى حسن الصباح شيطاناً ونظام الملك ملاكاً، فالرؤية التي كتب المسلسل على أساسها تؤيد الدولة والجيوش النظامية في مواجهة الميليشيات والجماعات الانفصالية لكنها لا تنحاز إلى ملوك الدولة ووزرائها بالضرورة. كما أنه استند في كتابة المسلسل إلى رؤية مصرية صوفية تحترم المذاهب كافة؛ فلم يشوّه المذهب الشيعي لينصر مذهبه السني. ورغم أن أهمية المسلسل تكمن في إجلاء خطورة تأسيس جماعة على أسس عقائدية تنفصل عن الدولة؛ فعلينا أن نتساءل: هل يجب علينا الآن أن نواجه أفكار تلك الجماعات في الأعمال الفنية استناداً إلى الخيال الصوفي أم انطلاقاً

من التفكير العلمي؟

التعليقات متوقفه