ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :هكذا تدار السياسة الأمريكية

64

مع دخول المنافسة بين “كمالا هاريس” وبين “دونالد ترامب “على الفوز بالرئاسة الأمريكية، بدأت التوقعات تفتح أبوابها على مصراعيها، وانتقلت إلى المفاضلة بأيهما أفيد لمنطقتنا:الديمقراطيون أم الجمهوريون ؟ وفى قلب هذا الصخب الدعائى والإعلامى بثت خلال الأيام القليلة الماضية، إحدى الفضائيات المختصة بالأفلام الأجنبية الفيلم الأمريكى “نائب”الذى يروى قصة حياة ” ديك تشينى ” نائب الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن فى الفترة من 2001-2009، وصعوده السياسى المتسم بالغموض .لم يكن بوش الابن يحظى بأي شعبية لا داخل الحزب الجمهورى ولاخارجه .ولم يكن يملك من المواهب والقدرات ما يؤهله لقيادة الولايات المتحدة .ومع ذلك تم انتخابه لدورتين متتاليتين . ولنفس الأسباب أصبح نائبه ديك شينى، هو القائد الفعلى لإدارته ولصوغ قرارتها السياسية .

الفيلم تم عرضه عام 2018، أى بعد مرور خمسة عشر عاما على غزو العراق واحتلاله ، وبعد أن تكشفت النتائج الكارثية التى ترتبت على تلك السياسات . يصف الفيلم ديك شينى بأنه سكير ومدمن كحوليات، ورعديد ووغد وفاشل دراسياً، ومتسلق وانتهازي غامض، وشره للسلطة . ومع ذلك فقد تمكن من الانتقال من الحضيض ، إلى العمل كرئيس موظفي البيت الأبيض، ووزير الدفاع، حتى تقلد موقعه كنائب رئيس الولايات المتحدة بوش الابن . وكان بوش قد نجح في انتخابات مشكوك في نزاهتها، وانطوى تاريخه الشخصي على فترات علاج غير قصيرة من إدمان الكحوليات، في فترة حرجة من تاريخ منطقتنا والعالم، امتدت ثمانية أعوام .
شهدت بدايات حكمه، الهجمات الإرهابية على برجي التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر، وما سمي بالحرب على الإرهاب التي بدأت بتدمير أفغانستان بهدف لم يتحقق هو إسقاط طالبان وهزيمة تنظيم القاعدة، وغزو العراق واحتلاله، ونهب ثرواته ، بزعم احتوائه على أسلحة دمار شامل، ثبت فيما بعد كذبه وتلفيقه. لم يتم القضاء على الإرهاب، بل تمدد وخرج تنظيم داعش من رحم القاعدة وانتشرت خلايا التنظيمين النائمة في أنحاء دول العالم شرقه وغربه.فضلاً عن الأزمة المالية في 2008 التي بدأت في الولايات المتحدة، وامتدت لبقية دول العالم.
يعرض الفليم لوقائع حقيقية تبدو كالمشاهد التسجيلية لحياة ديك تشيني. وفى هذا السياق يفضح بسخرية مريرة وتهكم لاذع، سياسات المحافظين الجدد، التي روجت لخرافة فرض الديمقراطية بالقوة المسلحة. وبينما تزعم الدفاع عن المصالح الأمريكية، فقد كانت تعلي من أرباح الشركات التي تستثمر في مجالات الطاقة والسلاح، وبينها شركة هاليبورن، التي سبق أن اعترفت بتزوير مستندات بملايين الدولارات بزعم إعادة إعمار العراق،.وكان «ديك تشيني» و«دونالد رامسفيلد» الذي أصبح فيما بعد وزيراً للدفاع، عضوين في مجلس إدارتها.ولأجل هذا فقط، دفع «تشيني» المعنيين في إدارة بوش لتزوير الحقائق حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل واتهامه بالتعاون مع تنظيم القاعدة في أحداث سبتمبر.
استغل «تشيني» بقدرته التآمرية العالية، ضعف شخصية بوش الابن وجهله، وعلاقاته هو وأسرته بالتكتل المصرفي «كاريل» المتخصص في الاستثمار في مجال الصناعات العسكرية، ونجح فى دفعه لإصدار قرار غزو العراق، الذي انتهى بتدميره، ونهب ثرواته النفطية والتراثية، وتغذية دور النفوذ الإيراني في شئونه الداخلية، وتهيئته كبيئة حاضنة لتنظيم داعش.
أهمية هذا الفيلم، أبعد من تسجيل رحلة الصعود غير المبرر لقيادة أمريكية محدودة الإمكانيات، وفاسدة تتحكم فى مصائر العالم .أنه يزيح الغبار عن تشويه فظ متعمد للوقائع، ولا يدين فقط التاريخ القريب، الذي تولى فيه مجموعة من الجهلاء وأصحاب المصالح الخاصة من شذاذ الآفاق حكم دولة كبرى، والتحكم في مصيرها، ومصائر الآخرين. بل لعله يلفت الانتباه كذلك إلى الحاضر الذي يشبهه.ألم يحشد الرئيس الديمقراطى بايدن العالم لمساندة إسرائيل، لسحق غزة وأهلها، ألم تتدفق أحدث الأسلحة الأمريكية ومليارات الدولارات على نتينياهو لقتل الأطفال والنساء والشيوخ ،ألم يستخدم الفيتو لمنع وقف الحرب أكثر من مرة ،ألم يقل كأستعمارى قح :لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها ؟أما دعوة نائبته هاريس لوقف الحرب الآن، فهى ورقة فى لعبة الانتخابات الأمريكية لنيل أصوات العرب والمسلمين.
يصور الفيلم مشهدا يهدد فيه تشيني وزير الدفاع كولن باول بتغيير شهادته، لتبرير غزو العراق. هو ما يذكرنا بمشهد ترامب، وهو يجلس وخلفه نتنياهو محاطاً بالعصابة الصهيونية في إدارته، ليوقع قراراً لا يملكه، بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة وإعلانه القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
لكن الفضائح لم تكن تقتصر فقط على ما يجري في البيت الأبيض، من قبل قادة يتلاعبون بمصير شعوبهم وشعوب العالم، بتشريع البلطجة قانوناً في العلاقات الدولية، بل هي امتدت كذلك إلى هوليوود. فقد فاز الفيلم بثمانية ترشيحات لجوائز الأوسكار، بينها أفضل فيلم وأفضل سيناريو وأفضل مخرج وأفضل ممثل وأفضل مونتاج، لتكون المفاجأة هي نيله لجائزة أفضل مكياج وتصفيف شعر، لتحفظ تلك الجائزة المضحكة، في سجلات المساخر السياسية لجوائز الأوسكار!
وبصرف النظر عما إذا كان الرئيس الأمريكى المقبل سيكون ديمقراطيا أو جمهوريا فالمؤكد أن أحوالنا فى المنطقة العربية سوف تزداد سوءا فى الحالتين ، ما لم يدرك النظام العربى أن استقراره مرهون بعوامل قوة أوضاعه الداخلية ، وقبول ورضا شعوبه عن اختيارته السياسية والاجتماعية، وفيلم “نائب” يكرر لنا تلك الحقيقة!.

التعليقات متوقفه