لقطات ..د. جودة عبدالخالق يكتب :لماذا تريد الحكومة التحول من “الدعم العيني إلى النقدي”؟ – 2

131

ونستمر مع هذه السلسلة من المقالات عن “الدعم بين العينى والنقدى”. والمناسبة هي إعلان الحكومة مؤخرا عزمها التحول من الأول إلى الثانى. وقد تأكد عزم الحكومة بطلبها رسميا من مجلس أمناء الحوار الوطنى دراسة الموضوع. ولكى نتفق على المسميات قبل الدخول في المناقشة، حددنا في المقال السابق المقصود بكل من نوعى الدعم وأوضحنا أن الدعم ضرورى حيثما وجد الفقر وبَيَّنا أن دعم الفقراء في مصر لا يشكل عبئا ثقيلا على الموازنة. وقد تقبل القراء كلامى هذا بقبول حسن، وأبدى كثير منهم تأييدهم لما قلت. وانتهز الفرصة لأشكر كل من بادر بالتفاعل مع ما كتبت؛ فهذا غاية المنى لكل كاتب يُقدِّر قراءه ويحترم حقهم في معرفة الحقيقية. ولكن قبل الاستطراد في متاهة التفصيلات الفنية، أطرح السؤال المحورى: لماذا تريد الحكومة التحول من الدعم العينى الى الدعم النقدى؟ طرح السؤال في بداية المناقشة مهم. فالحكومة في تقديرى المتواضع تُظهِر للشعب، هنا على الأقل، غيرَ ما تُبطِن.

فهى تقول لنا إن مبررها لهذا التغيير الجوهرى في السياسة الاقتصادية والاجتماعية هو تخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة وضمان وصول الدعم الى مستحقيه. ونحن نطلب من الحكومة أن تثبت للرأي العام أن الدعم، خصوصا دعم الفقراء، يشكل بالفعل عبئا تنوء به الموازنة العامة وأن هذا الدعم لا يذهب لمستحقيه في النهاية. هذه نقطة جوهرية؛ لأن السياسة في صحيح القاموس أساسها توضيح الأمور للرأي العام وإقناعه بضرورة وأهمية الإجراءات. وإصرار الحكومة على تغيير السياسة بعيدا عن الشعب والرأى العام أمر مريب حقا. فالشعب، وهو صاحب المصلحة الأول والأخير في مسألة الدعم، لم يطلب من الحكومة تحويل الدعم العينى الى نقدى. بل إن الناس متخوفون من اتجاه الحكومة لإلغاء الدعم العينى وتحويله على نقدى. وعلى سبيل المقارنة، فإن الشعب طلب فعلا من الحكومة مرارا وتكرارا مكافحة الغلاء وضبط الأسعار. ولكن الحكومة لم تفعل شيئا للجم الغلاء وضبط الأسعار ومكافحة الاحتكار، وتكتفى بالتصريحات. هناك شيء مريب في سلوك الحكومة وتصرفاتها.
في مجال الجريمة والعقاب يستهدى المحققون لكشف غموض الجريمة بقاعدة “إبحث عن الدافع والمصلحة”. وإذا طبقنا هذه القاعدة هنا، تتجه الأنظار مباشرة الى صندوق النقد الدولى. فالصندوق هو صاحب الدافع والمصلحة في الاعتداء على حقوق الغلابة في المحروسة. هذا ليس تخمينا، بل هو تحديدا ما جاء في تقرير الصندوق عن الاقتصاد المصرى رقم 24/98 الصادر في أبريل 2024. اللافت أن التقرير الذى يبلغ عدد صفحاته 104 أشار الى موضوع الدعم 30 مرة! يعنى الصندوق كما نقرأ في تقريره يقول بـ”الفم المليان” الدعم، ثم الدعم، ثم الدعم. وسأعود الى هذا التقرير فيما بعد، ولكن المهم أن نذكر هنا أن الحكومة قدمت الى الصندوق تعهدات قاطعة فيما يخص دعم الغذاء والطاقة (نص خطاب النوايا ومذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، الصفحات 68-102 من التقرير) لا يعلم عنها الشعب المصرى شيئا، رغم أنه هو “صاحب الرُّمَّة” كما يقول المثل، ورغم أن التقرير هو تفصيل للاتفاق بين مصر والصندوق بكل تفاهماته والتزاماته والذى أصبح جزءا من قوانين البلاد.
لقد أقسمت حكومتنا السنية رئيسا وأعضاء على احترام الدستور والقانون وعلى رعاية مصالح الشعب رعاية كاملة. لكنها تقف في موضوع الدعم في خندق واحد مع صندوق النقد الدولى وضد مصالح الشعب المصرى. كما أن الدستور الذى أقره الشعب المصرى بما يشبه الإجماع منذ عشر سنوات يتضمن عدة نصوص في مواده تتصل مباشرة بالموضوع. ويعتبر الخروج على مضمون هذه النصوص عملا مخالفا للدستور يستوجب المساءلة. أشير تحديدا الى مواد الدستور المرقمة 8 و 27 و 78 و 79 التي تنص على التزام الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وعلى حق المواطن في مسكن ملائم وآمن وصحى وغذاء صحى وكاف وماء نظيف. وحقوق المواطن هذه تعلو على التزامات الحكومة لصندوق النقد. وهى معرضة للتهديد المباشر إذا سارعت الحكومة في التحول من الدعم العينى الى الدعم النقدى دون توفير الشروط الضرورية للدعم.

سؤال الساعة:
من يدعم من؟ هل الحكومة هي التي تدعم الشعب، أم أن الشعب هو الذى يدعم الحكومة؟

التعليقات متوقفه