إبراهيم نوار يكتب :نهاية التعليم كمحرك للارتقاء الاجتماعي

58

*بقلم إبراهيم نوار

من “السناتر” الخاصة إلى “مجموعات التقوية والدعم التعليمي” الرسمية يتحول النظام التعليمي من قاطرة للحراك الاجتماعي إلى بركة متعفنة للتمييز وإهدار الثروة البشرية المصرية. هذه الصورة التي نراها الآن في التعليم العام والتعليم الجامعي تتناقض تناقضا صارخا مع نظام التعليم والمعرفة منذ نشأته في مصر الفرعونية، ومع احتياجات التنمية في الوقت الحاضر. وقد لعب النظام التعليمي المفتوح دور المحرك الرئيسي في الارتقاء الاجتماعي خلال عصور الازدهار، فكان التعليم بحق الثروة التي لا يكون الحصول عليها بالتمييز، ولا ينطوي الارتقاء بواسطتها على تمييز.
وقد كان في مصر نظام مفتوح للتعليم، يبدأ من “الكُتّاب” ويستمر حتى الجامع الأزهر الشريف. وهو نظام أتسع وازدهر، أو ضاق وتدهور حسب ظروفها السياسية، فاتسع في أوقات السيادة والاستقلال، وضاق في أوقات الخضوع والاحتلال. وكان انتشار الجهل أخطر مصادر تخريب الشعور بالهوية، مما أدى للقبول بالذل والمهانة، واستمرار الاحتلال. وظل الأمر كذلك حتى تعرضت مصر لصدمة حضارية كبرى مع تدهور حكم المماليك ومجيء الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر.
بدأت النهضة المصرية بعد عصور الانحطاط المملوكي بانطلاقة كبرى في مجال المعرفة، اعتمدت على الانفتاح على الخارج، وهو الأمر الذي خلق ديناميات قوية في مجالين، الأول هو الوعي بمقومات الهوية التي تدفع للتجديد والتفاني في تحقيق الذات على المستويين الفردي والقومي. والثاني هو التغيير، وتجاوز القديم الراكد عن طريق تبني الجديد الراشد، الناتج عن التفاعل مع الخارج.
ومن الملاحظ أن الصدمة الحضارية التي تعرضت لها مصر مع الحملة الفرنسية لم تؤد إلى الانكفاء والتقوقع، أو الهروب إلى الماضي، وإنما فتحت طريقا واسعا إلى الانفتاح والتغيير. وكانت البعثات العلمية التي أرسلها محمد على لاكتساب المعرفة في الخارج بوابة مهمة ومحركا رئيسيا من محركات التطوير وإطلاق الحراك الاجتماعي، من خلال نظام تعليمي جديد يقوم على أسس الموهبة والكفاءة والمهارة وليس موجها لخدمة القادرين على دفع تكلفته. وكان بروز رموز النهضة والوطنية من بين المصريين من أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وطه حسين وأحمد عرابي وسعد زغلول وطلعت حرب ثمرة من ثمرات ذلك النظام فيما بعد.

بعد ذلك بنحو قرن من الزمان تم إقرار مجانية التعليم الإلزامي رسميا في دستور 1923، ثم مجانية التعليم الثانوي في عام 1951. أما التعليم العالي فإنه تلقى دفعة عظيمة بإنشاء جامعة القاهرة بالجهود الذاتية عام 1908. وجاءت هذه الدفعة مع التغيرات السريعة في النسيج الاجتماعي بعد ظهور طبقة كبار الملاك الزراعيين المصريين، ونمو بذور الرأسمالية المصرية، وتحقيق فائض يسمح من الناحية الاقتصادية بنضج السوق المحلي، ومن الناحية التعليمية بتوسيع أوعية الإنتقاء الاجتماعي والحراك الطبقي، في كافة مجالات الحياة من الطب والهندسة إلى المال والتجارة والصناعة، مما زاد الطلب على الأيدي العاملة المتعلمة والماهرة. ولا يمكن التأريخ لتطور الطب الحديث في مصر بدون ذكر مؤسسات تعليمية مثل مستشفى قصر العيني (1827) و مستشفى الدمرداش (1928)، أو بدون ذكر العلامة الطبيب علي باشا إبراهيم، الذي وُلِد لعامل زراعي، ما لبث أن هجر زوجته، فسهرت الأم على تربية ابنها من العدم، حتى صار طبيب مصر الأول. كذلك لا يمكن التأريخ لصناعة خدمات التمويل الوطنية بدون ذكر طلعت باشا حرب، الذي ولد لموظف في السكك الحديد، ثم أخذ هو على عاتقه إنشاء أول بنك للمصريين في بلادهم. ثم كانت رؤيته لدور البنك فاتحة لبناء منظومة اقتصادية وطنية في جميع المجالات من صناعة الغزل والنسيج والنقل الجوي إلى صناعة السينما.
وقد أكد تقرير البنك الدولي الأخير عن التنمية في العالم أن البلدان ذات الدخل المتوسط، لكي تستمر في النمو والمنافسة، تحتاج إلى أيد عاملة ماهرة، خصوصا من المهندسين والفنيين والمديرين، مما يتطلب ضرورة عدم التمييز في التعليم، وفتح النظام التعليمي للجميع على أساس الجدارة، وليس وفقاً لعوامل أخرى خارجة عن إرادة الأفراد، مثل الدخل، والجنس، والخلفية العائلية، والهوية العرقية والثقافية. هكذا يكون التقدم، وبغير ذلك تكون الرِدّة.

التعليقات متوقفه