ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :مصر المتفتحة فى رسائل الشيخ دراز

21

ما كل هذا الجمال ؟ سكينة غير معتادة ورغبة عارمة فى الهدوء والتأمل، وفيض من إنشراح يبهج الروح وامتنان للحظة التى قادتنى إلى تلك الحالة الروحية من الصفاء والشفافية. كل تلك المشاعر أحاطتنى مجتمعة عقب مشاهدتى للمرة الثانية للفيلم الوثائقى الخلاب “رسائل الشيخ دراز” للمخرجة “ماجى مورجان” فى سينما زاوية . باتت “زاوية” التى تديرها المخرجة والمنتجة “مريان خورى “منصة سينمائية تعليمية وتثقيفية وترفيهية لأفلام السينما المستقلة من مختلف بلاد العالم، التى تشق طريقها ببسالة وسط طوفان السينما التجارية الأمريكية الموجهة، التى تنفق بسخاء على انتاجها، وعينها على أرباح شباك التذاكر، ولو بأفلام لمحو الذاكرة وتغييب الوعى . بينما يتحمل السينمائيون المستقلون عناء عظيم الشأن فى الحصول على تمويل غير مشروط، لكى يتمكنوا أن يقولوا بحرية ما يرغبون فى قوله، بعيدا عن منظومة الاحتكارات الكبرى التى تيسطر على تلك الصناعة، وتفرض نجومها وأفكارها .

فيلم “رسائل الشيخ دراز” استغرق إعداده نحو عشر سنوات من العمل المتقطع الذى لا يخلو من مشقة وعناء، وجدية واجتهاد، ومثابرة دؤوبة من أسرة فريدة محبة ناجحة، تنتمى للفئة العليا من الطبقة المتوسطة من الأبناء والأحفاد، عكفت على حفظ المذكرات والوثائق والرسائل التى تبادلها الشيخ مع أبنائه وأحفاده وترتيبها وتنسيقها وتبويبها بعناية فائقة، لكى تقود الصدفة المخرجة الموهوبة “ماجى مرجان “لتطلع عليها فى زيارة لحفيدته المنتجة الفنانة نهى الخولى، فتدرك بحسها الفنى ووعيها الثقافى مدى الثراء الذى تنطوى عليه الرسائل والتاريخ الذى تحمله ويستحق أن يروى .
وخلال قراءة سينمائية واعية تحفل بالرؤى الجمالية لتلك الأوراق، وشهادات الأبناء والأحفاد وتفسيرات الكتاب والباحثين والأكاديميين ممن تأثروا بفهمه المستنير للتراث الدينى، وللتدين الذى لايتناقض مع دفع أبنائه للتمثيل وتعلم الموسيقى ومحبة الفنون، وزيارة لأماكن النشأة والعيش والدراسة فى دسوق والقاهرة وباريس، والشارع الذى يحمل اسمه، تجلو السيرة المبهجة العطرة لليشخ محمد عبدالله دراز، ولمصر المتسامحة ذات التدين الوسطى الذى يقدس التفكير الحر والمتلف، ويعشق مباهج الحياة، فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، والتى لم تعد كذلك .
وخلال نحو ساعة ونصف وعبر صوت مؤثر للفنان صدقى صخر فى قراءة ملهمة لرسائل الشيخ لأولاده و حكى من ابنيه سامى ومحسن وأحفاده وزوجة ابنه عن الأثر الذى خلفه الأب والجد على مسارات حياتهم، تتشكل صورة نابضة بالحياة وحافلة بالرقى لواحد من علماء الأزهر هو الدكتور محمد عبدالله دراز(1894-1958) .
تحلى الشيخ دراز بشجاعة فكرية فى أبحاثه وكتبه، مقدما للغرب صورة مشرقة للإسلام .كما امتلك من الشجاعة الأدبية ما دفعه أن يعتذر عن تولى منصب شيخ الجامع الأزهر، حين تجاهل ثوار يوليو مطلبه بتحديد ضمانات لأداء مهام منصبه بشكل مستقل . وربما كان اعتذاره سببا وراء تجاهل الثوار لمنتجه الفكرى فى التراث الإسلامى .
شيخ أزهرى وسيم الطلعة خفيف الظل، وباسم الوجه، بلا ذقن ولا شنب، كماعهدنا صورا جهمة لمشايخ زماننا، وبجانب ذلك يتمتع بسعة الأفق والصدر . طالب من الأزهر من قرية دياى بدسوق فى كفر الشيخ، وابن لأحد علماء الأزهر، وزوج لابنة عمدة، وأب لعشرة أبناء، يسافر إلى بعثة رسمية من الأزهر، لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة السربون فى باريس، فى الثلث الأول من القرن العشرين، فيمكث بها اثنتى عشرة سنة . ووسط نيران الحرب العالمية الثانية، يمتلك الشجاعة لاستدعاء الزوجة والأبناء للعيش معه، ويحضر للمنزل بيانو لكى تتعلم بناته مهارة العزف، فيخرج من بينهم السفراء والأطباء والمتفوقون فى مجالات عملهم فى المؤسسات الدولية وميدان الفنون .
يبهر الشيخ الأزهرى بعلمه وثقافته الدينية العميقة وشخصيته اللطيفة وقدرته الواضحة على الحكى وفكره الدينى النير والمتسامح، المحيط الأكاديمى الفرنسى، مجددا ما فعله قبله “طه حسين”. يناقش باقتدار وجدارة رسالته لنيل الدكتوراه عن “دستور الأخلاق فى القرآن” فى سياق مقارن مع غيره من الأديان، بعد أن علم نفسه اللغة الفرنسية، واتقنها كتابة وحديثا، وصار يدافع عن الإرث الحضارى الفرنسى فى الحرية والعدالة والمساواة، فبات بشخصه ودراساته جسرا بين حضارتين .
نجحت المخرجة وشريكتها فى كتابة النص تغريد العصفورى وفريق عملها الذى ضم أمجد شفيق وتامر عبدالله فى المونتاج وعماد نبيل فى التصوير وخالد الكمار فى الموسيقى وصدقى صقر فى الأداء الصوتى، نجحوا جميعا فى اختزال 64 عاما هى عمر الشيخ دراز، وسبعين ساعة من المواد الأرشيفية، فى ساعة ونصف، لم تقتصر على إبراز الطابع العاطفى للأبناء والأحفاد، حول العالم الجليل، بل تخطت ذلك إلى الكشف عن المثل العليا التى زرعها للتعلم منها، والرؤية العميقة فى تفسير النصوص الدينية، التى جعلت شابا تكفيريا يعدل عن تطرفه بعد تعرفه على أفكار الشيخ دراز، ويقول “وجدت فيها ضالتى وأطمئن قلبى” .
وضع الفيلم رسائل الشيخ فى سياق تاريخى، وحولها إلى معرفة نابضة بالحياة . وجاء عنوانه : رسائل الشيخ دراز ترجمة واعية وخلاقة لمضمونه، إنها رسائل الشيخ إلى أبناء وطنه بمصر التى كانت منفتحة ومتسامحة وجسرا بين الحضارات والثقافات

التعليقات متوقفه