قضية للمناقشة: حوار الأديان وتجديدها

135

 

في مبادرة مشكورة لإضافة دور ثقافي تنويري للمؤسسات الكبيرة نظم الزميل “عزت إبراهيم” رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي” عرضا لفيلم درامي- وثائقي بعنوان “السلطان والقديس” من تأليف واخراج “الكسندر كرونيمر” وإنتاج مؤسسة “يونيتي برودكشن” الأمريكية غير الربحية.

واختارصانع الفيلم مرحلة منسية من تاريخ غزوات الفرنجة للبلدان العربية في القرون الوسطي، وهي الغزوات التي وصفها الغزاة بالحروب الصليبية، ولكن العرب والمسلمين لم يستخدموا هذا الوصف بل قالوا انها حروب الفرنجة، بل إن قطاعا كبيرا من المسيحيين العرب شاركوا في صد هذه الهجمات علي بلدانهم، وهو ما لم يذكره الفيلم، كما أنه ضاع من الذاكرة القومية .

اختار صانع الفيلم أن يحكي لنا عن العلاقة الوثيقة والتفاعلية بين قسيس ايطالي هو “فرانسيس الاسيزي” والملك “الكامل” ملك مصر سنة 1219 حين جري حصار مدينة دمياط، وهو الحصار الذي انتهي بهزيمة الغزو فيما بعد.

كان القديس “الاسيزي” الذي قيل أن بابا “الفاتيكان” فرانسيس قد اختار اسمه بعد أن صعد إلي الكرسي البابوي، كان هذا القديس داعية سلام وتآخ بين الشعوب أيا ما كانت دياناتها أو معتقداتها، كذلك كان الملك “الكامل” الذي قاد جيشه لمقاومة الغزو ودعا للسلام والتعايش في نفس الوقت، ومارس القيم التي آمن بها، قد علمته أمه – التي لعبت دورا محوريا في تكوين ثقافته ورؤيته  للعالم – أن الإسلام دين سلام وأن التعصب للعقيدة ليس من قيم المسلمين الحقيقيين، وأنه لا إكراه في الدين كما يقول القرآن الكريم. وانعكست هذه الرؤية  للدين وللعالم علي السلوك “المصري- الإسلامي” مع الأسري والمهزومين وكأن الصداقة والمودة بين القديس والسلطان قد ألقت بظلالها علي العلاقة بين الشعوب.

قدم صانعو الفيلم عملهم باعتباره أول حوار للأديان في التاريخ وعيونهم علي حاضر الصراع بين الديانات، وهو صراع أطلقته القوي الاستعمارية وهي تستنزف ثروات البلدان النامية في القارات الثلاث، وتضع لهذا الاستنزاف غطاء دينيا، تماما كما فعل أسلافهم في حروب الفرنجة قبل ثمانية قرون. وظلت هناك صفحات منسية في هذا التاريخ.

يستحق هذا الفيلم أن يحظي بأوسع عرض حتي تدور حول موضوعه أوسع النقاشات، خاصة أن هناك مؤشرات ورسائل ايجابية يطلق بعضها بابا الفاتيكان بعد زيارته الناجحة لمصر، حين شارك قبل أيام في مراسم مباركة ايقونة مسار العائلة المقدسة إلي مصر، واعتماد هذا المسار ضمن رحلات الحج المسيحي. وعلينا أن نتذكر أن العائلة المقدسة جاءت إلي مصر كلاجئة من بطش هيرودس فاحتضنها المصريون. وتقدم هذه المباركة من البابا خدمة كبيرة للسياحة الدينية في مصر.

ولعلها أن تكون مناسبة لطرح موضوع تجديد الفكر الديني والخطاب الديني كمهمة ثقافية- سياسية أساسية للنهوض، ولوضع أهداف الموجات الثورية وفي القلب منها “دولة مدنية” موضع النقاش الجدي الذي يفضي إلي إعادة النظر في البني والأفكار والرؤي والممارسات في المؤسسات الدينية إسلامية ومسيحية، كشرط رئيس لانطلاق عملية التجديد ومواصلتها علي كل المستويات.

واستعير هنا عنوان كتاب “خالد محمد خالد” المفكر الإسلامي المستنير “من هنا نبدأ”، واظن أن البداية بالتعليم هي قلب المنظومة المتكاملة لعملية التجديد التي تتضمن كلا من الاعلام والثقافة بعامة وقاعدتها التعليم، ونتذكر مرة أخري أن “طه حسين” حين كتب “مستقبل الثقافة في مصر” عام 1937 كان التعليم هو موضوعه الرئيسي.

ويحتاج التعليم العام إلي رؤية تجديدية شاملة بدءًا باعادة النظر في دروس الدين التي طالما طالب علماء التربية بتوحيدها ليجري تدريس القيم العليا في الديانات كافة بدلا من الجداول المستقلة التي تفصل الطلاب المسيحيين عن الطلاب المسلمين، وهو ما يعمق الشرخ الذي أخذ يتسع في المجتمع المصري، وتراهن عليه القوي الاستعمارية المتربصة بالمنطقة مستهدفة تفسيمها علي أسس دينية وطائفية وعرقية، وإفساح المجال لإسرائيل التي تعمل علي اعتراف العالم بها كدولة يهودية، فضلا عن سعيها لتصبح هي القوة الوحيدة في المنطقة فتسيطر عليها سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

ولن يكون بوسعنا هزيمة هذا المشروع الاستعماري التوسعي الذي أخذ يتمدد مستفيدا من كل عناصر الضعف في مجتمعات المنطقة وبخاصة من الانقسامات الدينية فيها، وهي انقسامات تتغذي علي الفساد والاستبداد وتعمقها المشروعات الاستعمارية التي تعمل بدأب، وتنفذ مخططات قديمة نتعامل معها نحن أصحاب القضية بالقطعة ودون رؤية شاملة يفرض علينا الواقع الجديد أن نبلورها ونعممها.

ويطمئننا- ولو قليلا- أن الواقع ليس ساكنا كما أن قوي التغيير والاستنارة والعدل في منطقتنا وفي العالم كله تنهض رغم كل عوامل الإحباط والاستغلال والنكوص التي تتطلع لوقف مسيرة التاريخ الانساني في اتجاه التقدم.
فإذا كان فيلم “السلطان والقديس” محفزا لنا للدرس والنظر بعمق في جذور التطرف والعنف، وإذا كان أيضا قد ترك لنا مناطق لاتزال عمياء وغامضة في تاريخنا، فإننا مدعوون لوضع هذه القضية علي رأس جدول أعمالنا.

ولعل المؤسسات الأخري قومية وخاصة تحذو حذو الزميل “عزت إبراهيم” فتخصص مكانا ووقتا للنشاط الثقافي لعلنا نستنقذ النقاش العام من الصغائر، ونتعامل مع قضايانا الكبري بالجدية اللازمة.

التعليقات متوقفه