المثقف الموسوعي إبراهيم فتحي.. وداعًا

1٬448

المثقف الموسوعي إبراهيم فتحي.. وداعًا

جابر عصفور: لا أستطيع أن أنسي أطروحاته النقدية

أحمد الخميسي: كان لديه وهج عقلي في كل كتاباته السياسية والأدبية والنقدية

زين العابدين فؤاد: كان أستاذًا دون أن يمارس سلطات أستاذيته علي تلاميذه

شعبان يوسف: حلمه كان إنشاء كيان سياسى وفكرى يعبّر بشكل قوى عن حركة شباب المبدعين

سهير المصادفة: كل إنجازاته نسميها أعمدة المكتبة

شاكر عبد الحميد: هو أول من عرفني علي الناقد الروسي “مخائيل باختين”

 

تحقيق أمل خليفة

المبدعون لا يرحلون فتظل اعمالهم علامات مضيئة تؤانسنا و انهار عذبة ننهل منها أفكارا زلالا، أعمالهم الباقية إشارات قوية تؤكد استمرار تواجدهم بيننا، هذه المقدمة ليست كلمات نواسي بها أنفسنا عندما نودع إحدى منارتنا الثقافية العظيمة، بل هي حقيقة تأكدنا منها عندما رحل عنا الناقد والمفكر والمترجم “الموسوعة الثقافية” الأستاذ إبراهيم فتحي، الذي هو بمثابة صرح عملاق مُضىء الأبعاد  في النقد الأدبي  وتطويره.

قال دكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، أن الناقد إبراهيم فتحي كان واحداً من أفضل النقاد الذين ظهروا في الستينيات، وكان أحسنهم  علي الأطلاق فيما يتصل بنقد الرواية، وأنا شخصياً آراه علامة نقدية بارزة في الستينيات ويكاد يكون هو الناقد البارز جداً الذي أستطاع أن يقدم كتابات رائعة ومتميزة نقدياً حول أدب الستينيات وحتي أدب نجيب محفوظ، ولقد قمت بمناقشة كتابه عن نجيب محفوظ، وكان رأي إنه من أحسن الكتب التي كتبت عن نجيب محفوظ وعن أعماله الأبداعية.

وأضاف عصفور قائلاً: فيما يتصل بمعجم المصطلحات الأدبية هو بالتأكيد خطوة جيدة ومفيدة، ولكن ليس بالجهد الفردي، لأن المصطلح النقدي يتغير تقريبا كل شهر في العالم، لذلك لابد من متابعة دقيقة من فرق من الباحثين، ولهذا نجد في العالم كله أن المعاجم الأصطلاحية يكتبها العشرات وليس فرد واحد ومع ذلك كجهد فردي أنا أري إنه جهد لا بأس به.

ومع ذلك ليست هذه أهم النقاط في أعمال إبراهيم فتحي بل كتاباته كناقد يحلل النصوص، فهو أفضل ناقد فهم كتابات نجيب محفوظ وخصوصاً ابعاده الرمزية، فأنا لا أستطيع أن أنسي كتاباته عن رواية الطريق وأتذكر إن أحسن تحليل نقدي قرأته عن رواية الطريق كان لإبراهيم فتحي، وهذا مثال من الأمثلة، ايضاً يحسب له أحتضانه للأدباء الشباب، لذلك فهو شخص بالغ الأهمية في تراثنا الثقافي الجديد.

الثقافة العميقة

وأضاف دكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق قائلاً: إن الناقد والمترجم الكبير إبراهيم فتحي يتميز بعدة مزايا نادرة أهمها ثقافته العميقة، فرغم انتمائه لليسار، لكنه كان علي معرفة بكل التيارات الغربية  تقريباً فعلي سبيل المثال أنا أول مرة أعرف اسم الناقد الروسي “ميخائيل باختين” وكتابته عن الكاتب الفرنسي “فرنسوا ربليه” وعن الكرنفالية وعن القناع وغيرها من الموضوعات المهمة الكثيرة في النقد الحديث عرفتها من خلال حواري ومناقشاتي مع الأستاذ إبراهيم فتحي، عندما كنا نجلس أحياناً في “أتيليه القاهرة” فهو كان واسع المعرفة، وكان لديه ميزة أخري مهمة وهي الألتزام بقضايا الوطن ودفاعه عن المظلومين والمعرفة بتاريخ مصر وتاريخ العالم والرؤية التي كانت تتميز بالأتساق.

واستطرد عبد الحميد قائلاً: إبراهيم فتحي كان مهتمًا أيضاً بمتابعة الأدباء الشبان والتيارات الجديدة فهو كان دائماً حاضرا وموجودا ويتابع الأعمال الجديدة، وكان لديه قدر من الاستمرارية والدأب والمثابرة ونادراً ما كنا نجدها عند غيره من المثقفين، بالإضافة إلي كتاباته المهمة عن نجيب محفوظ، وقدرته علي اكتشاف أعماق الكُتاب وابراز ما لديهم من مناطق أبداع قد تكون خفية علي غيره من النقاد. كان لديه أيضاً حس نقدي يلتقط به أشياء قد لا ينتبه إليها غيره فهو مثقف كبير وهذه الثقافة كانت تخدمه في كتاباته.

المصطلحات الأدبية

وفي نفس السياق، أكد الكاتب والقاص الكبير أحمد الخميسي، أن الراحل إبراهيم فتحي أستطاع أن يحل مشكلة المعاجم الأدبية “القليلة جداً في مصر” التي لا تراعي  معظمها خصوصية الواقع المصري، فهي مجرد ترجمة للمصطلحات فقط، علي عكس إبراهيم فتحي الذي كان يراعي هذه الخصوصية في تعامله مع تلك المصطلحات.

وأضاف الخميسي قائلاً: من أهم إنجازات إبراهيم فتحي تقديمه لكثير من  الأدباء والكتاب الشباب وكان يكتب لهم مقدمة أعمالهم لدرجة إني قلت له: إن عدد المقدمات زادت جداً، ضحك وقال إن له صديق  اقترح عليه أن يجمع هذه المقدمات ويكتب لها مقدمة وينشرها.

وكان له دور مهم  علي الساحة الثقافية وهو تصويب الحركة النقدية والفكرية من وجهة نظره الماركسية، ففي الوقت الذي كان ينادي “إدوارد الخراط” بالحساسية الجديدة، رد عليه إبراهيم فتحي بتفنيد فكرة الحساسية الجديدة كتيار، وعندما كان هناك من ينادي “بالفن للفن” كانت له أيضاً مبادرة الرد.

وبالنسبة لأهمية دوره  لليسار المصري فيما يتعلق بالأدب كان  يصوب المفاهيم النقدية والفكرية من وجهة نظر اليسار.

دوره في النقد

واستطرد الخميسي قائلاً: عندما سُأل الأديب العالمي نجيب محفوظ  عن أفضل كتاب صدر عنه قال كتاب إبراهيم فتحي، ولقد قُمت بإرسال هذا الكتاب إلي المستشرقة الكبيرة “فاليريا كيربتشنكو” التي كتبت عنه وأكدت أهميته.

كان لدينا مدارس نقدية حتي الستينيات، وفي السبيعينيات كان هناك زيول مدارس نقدية مختلفة وواضحة حالياً ليس لدينا مدارس نقدية علي مدي ربع القرن، اختفت كلها وكان هناك أيضاً محاولة  لمحو معالم المدرسة النقدية القائمة علي الماركسية، لكن إبراهيم فتحي كان دائما يقرع الناقوس من خلال مقالاته المتعددة حول مفهوم الألتزام وهذا المفهوم رغم حدوث جدل واسع حوله لكنه كان من المفاهيم المستقرة الشائعة حتي اختفي، ولكنه ظل يقرع أجراس التنبيه بأن هذا المفهوم قائم، وأيضاً كان يعمل علي توضيح الفكرة بإن الالتزام ليس ألزاما “فلا يحق  لأحد أن يلزم كاتبا، فالكاتب لابد أن يختار بنفسه، وفي المدرسة النقدية حافظ  ليس فقط علي وجهة النظر الماركسية العتيقة التقليدية، بل حافظ أيضاً علي وجهة نظر الماركسية المتجددة، كان لديه وهج عقلي لامع جداً في كل كتاباته السياسية والادبية والنقدية.التي توقف عنها منذ ثلاث سنوات تقريباً فكان يكتب في الأهرام من حين لآخر. ولقد كتب عن مجموعة قصص لي في الأهرام منذ سنتين أو ثلاث تقريباً.

الترجمة الانتقائية

وفيما يتعلق بأسهاماته في الترجمة كان إبراهيم فتحي يتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية وبالتالي كان له دور كبير في الترجمة فترجم كتبا مهمة جداً، ويتميز  بإنه كان يقوم بترجمة أعمال يختارها بشكل انتقائي، بسبب الحاجة الماسة إليها  لتؤدي دوراً أو وظيفة محددة في توقيت معين.

فهو لا يمثل قيمة فكرية وأدبية ونقدية فقط، بل أن قصة حياته هي قيمة تضاف إلي القيم النضالية لليسار المصري. فحياته هي نموذج لارتباط المثقف بكلمته فالثقافة ليست علمًا فقط بل هى علم وموقف.

مثقف موسوعى

وجاءت كلمات الكاتبة الروائية سهير المصادفة، تقطر حزناً علي هذا الفقد العظيم قائلة: إبراهيم فتحي هذا المثقف الموسوعي اليساري الكبير الذي ظل خلال سنوات يمنح ويعطي والذي لم يسأل أحد حتي عن عمره لأننا نريد أن يعيش بيننا إبراهيم فتحي إلي الأبد لأنه علم كبير ولم يتغير ولم يتبدل ولم يغادر موقعه الدفاعي عن الثقافة المصرية والعربية والهوية المصرية طوال الوقت، فهو رمز كبير جدا وعظيم في المشهد ليس الأدبي والثقافي والترجمة والأدب المقارن ونقل إلي الغرب فقط، ولكن إبراهيم فتحي هو موسوعة رائعة ومتكاملة لكل المشهد السياسي الاجتماعي الأدبي ومن يريد أن يعرف وجه مصر الثقافي عليه أن يتابع منجز إبراهيم  فتحي، وجه مصر اليساري الثقافي أي مصر المثقفة العالمة مصر السياسية فعليه أن يتابع إبراهيم فتحي ملفتاً  الأنظار إلي أديبنا العظيم والكبير نجيب محفوظ.

كل إنجازات إبراهيم فتحي نسميها في علم المكتبات أعمدة المكتبة، فهو أصبح جزءا  من أعمدة فيما يتعلق بضبط المصطلح إذا كان إبراهيم فتحي وهناك مرجعيات كبري في المكتبة العربية معاصرة سيظل هو أكبر اسم فيها، ثم تأتي إنجازات الكبار محمد عناني، جابر عصفور، صلاح فضل الذين نطلق عليهم مرجعيات وأعمدة المكتبة العربية، وإبراهيم فتحي بالتأكيد علي رأسهم.

الشخصية الجاذبة

وفي نفس السياق، يقول الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد، هناك عدة كتب لإبراهيم فتحي أهمها كتابه”العالم الروائي عند نجيب محفوظ” الذي أثني عليه نجيب محفوظ، فعندما سأل أستاذ الأدب والنقد الدكتور حسين حمودة نجيب محفوظ قائلاً: من أهم من كتب عنك؟ أجاب بلا تردد قائلاً: إبراهيم فتحي، فنجيب محفوظ كان سعيدًا جداً بكتابه وكلامه عنه.

وما يميز إبراهيم خارج الكتب هو علاقته المباشرة بالمبدعين التي بدأت عام 1964م، بعد خروج هذا الجيل من الاعتقال ففي الحركة الثقافية في الستينيات كان هناك كثير من الأدباء ولم يكن هناك شخصية جاذبة واحدة سوي إبراهيم فتحي،  فكان التحلق حوله في المقاهي المختلفة حيث استطاع أن يضع كل مبدع ناقد داخله بمعني إنه جعل كل مبدع يستطيع أن يضع يده علي نقاط القوة والضعف في عمله وبالتالي هو استطاع أن يخلق قاعدة عريضة جدا من المبدعين الذين لديهم ملكة تطوير أنفسهم، وهذا يعد فضل لإبراهيم لا ينسي.

علاقته بالكتاب والمبدعين الشباب في شتي المجالات الأدبية والفنية وأيضاً الترجمة الذين كانوا يلجأون لإبراهيم الذي لم يمارس عليهم مطلقا أستاذية رغم أنه كان الاستاذ الحقيقي لهذه الأجيال ولكنه لم يدع يوماً أنه أستاذ.

نحن عرفنا الكثير من المثقفين الموسوعيين في مصر خصوصاً من هذا الفصيل الفكري والسياسي والأيدلوجي ولكن إبراهيم كان يجلس مع الناس ويتحدث بأسلوب بسيط جداً، لا يستخدم مصطلحات صعبة. كان يستطيع أن يوصل ثقافته الموسوعية العريضة جداً إلي الكثيرين وبشكل بسيط جداً.

الإنجازات المترامية

وفي نفس السياق، قال عنه الكاتب والناقد الكبير شعبان يوسف، لم تكن تجليّات ابراهيم فتحى تظهر فى العمل السياسى فحسب، بل كان مثقفا موسوعيا منذ البدايات الأولى له فى كليه الطب، حيث زامل الأدباء الشباب الطليعيين فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضى، وقاد معهم حركة أدبية قوية، وعلى رأس هؤلاء يوسف ادريس وصلاح حافظ ومحمد يسرى أحمد، وغيرهم، وكان هؤلاء منخرطين فى أنشطة “مكتب الأدباء والفنانين”، وهو أحد مستويات منظمة  “حدتو” الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى”.

كان ابراهيم فتحى يكتب ويترجم وينشر، دون أن يفقد حلمه بتكوين كيان سياسى وفكرى يعبّر بشكل قوى عن حركة شباب المبدعين المتمرد آنذاك، ومنهم الشعراء سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودى، والنقاد صبرى حافظ وسيد خميس، والباحثون صلاح عيسى وغالب هلسا، وكتّاب قصة مثل جمال أحمد الغيطانى ويحيى الطاهر عبد الله، وراح ابراهيم يستعيد “و.ش” مرة أخرى، بعد أن علت أصوات هؤلاء المبدعين، ونشروا قصصا وأشعارا تشى بالمعانى المختلفة التى لا تؤرق الساسة فحسب، بل تؤرق الجيل القديم كذلك من المبدعين والنقاد والمفكرين، وسوف نلاحظ أن كتابات ابراهيم فتحى فيما بعد، مراجعات وانتقادات فكرية عميقة للتوجهات النقدية التى كانت سائدة آنذاك.

فابراهيم فتحى الذى بدأ حياته السياسية والثقافية والفكرية منذ ما يقرب من سبعين عاما، وأنجز لحياتنا الفكرية والثقافية الكثير والكثير، ولم تخضع سيرته الفكرية حتى الآن للإعداد الببلوجرافى، فإنجازاته المترامية فى تلك المجالات مازالت حتى الآن غير مشمولة بالجمع الكلى، هذا عدا المقالات والدراسات المنشورة فى بطون المجلات والصحف المصرية والعربية، مثل مجلات الهلال وأدب ونقد، وصحيفة القاهرة.

وكذلك الكتب والدراسات السياسية التصحيحية، والتى اعتبرها الشباب بمثابة برنامج فكرى وأيديولوجى لهم، وتكونت حول هذه الكتابات جماعات سياسية، ظلّت تمارس العمل السياسى لعقدين من الزمان، وداعاً للمفكر والناقد الكبير ابراهيم فتحى.

التعليقات متوقفه