العالم يتجه نحو ثنائية القطب:روسيا تصعد .. وتطالب بضمانات أمنية بعدم توسع الناتو

181

بدأت الأزمة الأوكرانية والحشود سواء العسكرية على الحدود الأوكرانية أو المهاجرين على الحدود البيلاروسية ـ البولندية وكأنهما أزمة بين روسيا والغرب على خلفية أحداث عام 2014 وخلع الرئيس الأوكرانى يانوكوفيتش الذى رفض التوقيع على اتفاقية العضوية المنتسبة لبلاده بالاتحاد الأوروبى، لما فى ذلك من تأثير على العلاقات مع روسيا التى يعتمد عليها الاقتصاد الأوكرانى بدرجة كبيرة.
وتغيرت القيادة الأوكرانية إلى قيادة سارعت الخطى نحو الانضمام للناتو والاتحاد الأوروبى الأمر الذى أغضب روسيا فأقدمت على استعادة شبه جزيرة القرم وشجعت المناطق الناطقة بالروسية فى شرق البلاد على المطالبة بالحكم الذاتى الموسع (ضمن إطار الدولة الأوكرانية)، وهو الأمر الذى اشعل حرباً فى أوكرانيا راح ضحيتها ما يقرب من 15 ألف قتيل.
توقع الجميع خفض التوتر والتصعيد بعد القمة الافتراضية بين الرئيسين بوتين وبايدن، لكن شيئاً من هذا لم يحدث بل قامت روسيا بحشد المزيد من القوات على الحدود الأوكرانية، ورغم تهديدات الأوروبيين بفرض أقسى العقوبات على روسيا، لكن روسيا لم ترتدع واستمرت فى حشد القوات وبقى الوضع على ما كان عليه، واستمر الغرب فى التهديد، وأوكرانيا ترتعد وأعدت الخنادق والملاجئ استعداداً للحرب القادمة مع روسيا، والغرب استمر فى إمداد كييف بالسلاح والمدربين، وهو ما اعتبرته روسيا زحفا بطيئا لحلف الناتو للاقتراب من حدودها، وهنا يجرى الرئيس بوتين اتصالاً بنظيره الفرنسى ماكرون، الأول يطالب بضمانات أمنية بعدم توسع الناتو، والثانى يطالب بخفض التصعيد ومحاولة حل الأزمة مع أوكرانيا بالطرق الدبلوماسية، والرئيس بوتين يتحدث عن أن قواته داخل أراضيها ولا نية لبلاده فى الهجوم على أوكرانيا.
صراع بين الغرب وروسيا
لكن بعد انجلاء دخان التراشقات والتصريحات والاتهامات، تبين أن الأمر ليس أكثر من صراع بين الغرب وروسيا على مناطق نفوذ تعتبرها روسيا هى مناطق نفوذها وحديقة خلفية لها، وتعتبر روسيا توسع الناتو بضم أوكرانيا خطرا عليها وتهديدا لأمنها، فقررت إنشاء حائط صد تابع لروسيا داخل أوكرانيا، وما إقامة جمهورية دنيتسك الشعبية ولوجانسك الشعبية اللتين لا يعترف بهما أحد، إلا جزء من خطة روسيا لفصل الأراضى الروسية عن الناتو الذى سيكون فى أوكرانيا كما يفترض، بالمناسبة نفس الشيء قامت به روسيا فى جورجيا التى خاضت روسيا حرباً ضدها علم 2008، واقتضمت منها مقاطعتين أصبحتا تابعتين لروسيا عضويا مما عرقل قضية انضمام جورجيا للاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، نفس الشيء فى مولدوفا حيث مقاطعة بريدنستروفية وهى مقاطعة معظم سكانها من الروس، ويوجد هناك قوات روسية، مما عرقل اتحاد مولدوفا سواء مع رومانيا أو الانضمام لأوروبا والناتو. روسيا تحاول بقدر المستطاع عرقلة زحف الناتو نحو أراضيها على حساب دول الاتحاد السوفيتى السابق.
عرقلة جهود روسيا
لكن الغرب من جانبه لا يتوقف عن محاولاته، فبالإضافة إلى التهديد بالعقوبات والمقاطعات وغيرها من الوسائل التى تعيق انطلاق روسيا اقتصادياً كقوة لها دور يتناسب مع حجمها العلمى والثقافى والسياسى والعسكرى حول العالم، فإنه يحاول عرقلة الجهود الروسية على سبيل المثال الاجتماع الذى عقد يوم 15 من ديسمبر الجارى مع طرفى نزاع ناجورنو كاراباخ علييف رئيس أذربيجان وباشينيان رئيس وزراء أرمينيا مع رئيس المفوضية الأوروبية شارل ميشيل، رغم اجتماع نفس الشخصين مع الرئيس بوتين قبيل ذلك بأيام على خلفية اشتباكات وقعت بين دولتيهما على الحدود.
اللعب مع الصين
روسيا بدورها قررت اللعب بالورقة الكبيرة التى تمتلكها، ورقة الصين، حيث عقد الرئيس بوتين مع نظيره الصينى شى جين بينج اجتماعا افتراضيا ناقشا فيه الأوضاع كل على جبهته، الرئيس بوتين التوتر على الحدود مع أوكرانيا وتوسع الناتو شرقاً، فهو يدرك أن التوتر مع أوكرانيا هو صناعة غربية وهو الذى يزود أوكرانيا بالسلاح لدفعها لارتكاب حماقات قد تؤدى لحرب شاملة مع روسيا، القضية الأهم التى تشغل روسيا هو توسع الناتو ليصل إلى حدودها الجنوبية الشرقية، وطيب الرئيس بوتين خاطر الرئيس الصينى، بسبب المظاهرة الأوروبية والأمريكية بمقاطعة أولمبياد الألعاب الشتوية فى بكين دبلوماسياً وأعلن أنه سيذهب لحضور حفل الافتتاح وأعرب عن أمله فى لقاء مباشر بالرئيس شى جين بينج. الرئيس الصينى بدوره ربما تحدث عن تايوان وعبث الغرب بوحدة الأراضى الصينية وأشاد بطلب الرئيس بوتين لضمانات أمنية بعدم توسع الناتو شرقاً، واتفق الجانبان على أن تزويد استراليا بغواصات نووية هو إخلال بالأمن فى منطقة المحيط الهادى. لكن الأهم هو الاتفاق الاقتصادى وسعى الطرفان لتحرير التجارة البينية من الدولار ويبلغ حجم التجارة بين روسيا والصين ما يقارب 130 مليار دولار، فى حين أن حجم التبادل التجارى مع الولايات المتحدة قارب على 600 مليار دولار عام 2020، وعلى المستوى الأوروبى يفوق 650 مليار، أى أنه ليس من مصلحة الصين فى الوقت الحالى والاقتصادات تتعافى من الجائحة الدخول فى حروب تجارية، أو من أجل العملة، إلا إذا رأت الصين فى قضية تايوان خطرا حقيقيا قد يكون هناك ما وراءه من تهديد لوحدة البلاد.
شروط موسكو
كانت روسيا قد أعلنت عن الضمانات الأمنية التى تطلبها من الغرب والناتو، وتشير هذه الضمانات إلى : 1ـ عدم توسع الناتو شرقاً على حساب دول الاتحاد السوفيتى السابق. 2ـ عدم إقامة قواعد عسكرية فى دول الاتحاد السوفيتى السابق. عدم نشر نووية فى خارج الدولتين روسيا والولايات المتحدة وفى حال حدث ذلك يجب إعادتها. وغيرها من الضمانات التى تطلبها روسيا، المدهش أن روسيا أرسلت هذه الشروط إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو يوم 15 ديسمبر ونشرت فى الصحافة يوم 17، مما أثار دهشة الكثير من المراقبين، فقد كان من الأفضل انتظار رد الفعل الأمريكى عليها أولاً، حتى لا تبدو وكأنها شروط إذعان، على أى حال روسيا فى انتظار الرد الأمريكى وحلف الناتو.
الرئيس الأوكرانى حضر قمة الاتحاد الأوروبى فى بروكسل، والتقى فى اجتماع خاص بالرئيس الفرنسى والمستشار الألمانى شولتز، الأول طالب روسيا بخفض التصعيد، والثانى هدد بعدم منح التراخيص اللازمة لخط أنابيب الغاز “السيل الشمالى ـ 2″، وكان الاجتماع الأهم للرئيس الأوكرانى زيلينسكى مع السكرتير العام لحلف الناتو أينس ستولتنبرج، الذى وعد الرئيس الأوكرانى بتقديم الدعم وأصر على أن كل دولة لها مطلق الحرية فى الانضمام لأى تحالف تريد، وقال إن التهديدات الروسية لن تثنى الحلف عن قبول أوكرانيا إذا ما اتخذ الحلف قراراً بذلك، والرئيس الأوكرانى بدوره أعرب عن استعداده للقاء الرئيس الروسى فى أى مكان وأنه على استعداد لمناقشة اتفاق مينسك، ولكنه فى نفس الوقت أكد إصرار بلاده على المضى فى طريق انضمامها للناتو.
قطبان مختلفان
كما نرى يتبلور فى العالم تكتلتان، الأول بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى ويعتمد بالدرجة الأولى على حلف عسكرى سياسى هو حلف الناتو، والثانى يشمل كل من روسيا والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية مثل نيكاراجوا وفنزويلا، ومنغوليا، ولا يربط بين هذه الدول أى حلف عسكرى، لكن فى كل الأحوال هناك قطبان كتلتان مختلفتان سياسياً أو لنقل إنهما متناقضتان، لكن ليس على أساس أيديولوجى كما كنا فى زمن الحرب الباردة، أو يسعى كل طرف لتدمير الآخر على أساس الانتماء الطبقى للآخر، فالصين على سبيل المثل أكبر شريك تجارى للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بحجم تبادل تجارى يفوق التريليون دولار، ولا أتصور أن أيا منهما سيتخلى عن ذلك فى لحظة غضب أو حتى من أجل صداقة وتحالف مع دولة أخرى أو حتى من أجل تكتل، ولا حتى الولايات المتحدة أو حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبى سيدخل حربا من أجل إعادة الدنباس أو القرم لأوكرانيا فالغرب له أيضاً مصالح مع روسيا، وهى من أهم الأسواق للبضائع الأوروبية، وأوروبا سوق هام للمحروقات الروسية.
الهجوم الروسى
أما هل ستقوم روسيا بالهجوم على أوكرانيا فعلاً، فالإجابة لا بالقطع، وأجهزة المعلومات الأمريكية والصحافة الغربية حتى الآن لا تستطيع الإجابة عن هذا السؤال ويقولون إنهم غير متأكدين، لكن فى حال وقوع هجوم فإن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات شديدة للغاية على روسيا، واتصل الرئيس بايدن بحلفائه الأوروبيين فى فرنسا وبريطانيا والمانيا وإيطاليا وطلب منهم دعوة روسيا لحل مشكلة الانفصال فى شرق أوكرانيا. أما ماذا تريد روسيا، فالأمر واضح ولا يحتمل الجدل، وهى أعلنت أكثر من مرة أنها لا تسعى للنزاع، وتريد تأمين توازن للمصالح فى المنطقة، والأهم أن روسيا تطالب بإعطائها ضمانا بعدم توسع الناتو شرقاً، أو حشد أسلحة للحلف بالقرب من حدودها، بل ذهب بعض المحللين لأبعد من ذلك فيما تطلبه روسيا وهو عدم إعطاء الغرب فرصة لتقوية العلاقات مع الرئيس الأوكرانى زيلينسكى. من جانبها لتحقيق أهدافها تضغط روسيا على حلفاء الولايات المتحدة فى أوروبا من خلال التهديد بقطع الغاز، حيث تستورد أوروبا نصف احتياجاتها من روسيا، وبسبب الأزمة الحالية ارتفعت أسعار الغاز بدرجة لم تحدث من قبل. كل يلعب بأوراقه وتحالفاته فقد زار رئيس منغوليا روسيا يوم 16 ديسمبر وأكد على العلاقات التاريخية مع روسيا منذ أيام الاتحاد السوفيتى حيث كانت منغوليا تقريباً جمهورية سوفيتية.
حرب عالمية ثالثة
على الجانب الأوكرانى هناك من يحاول بث الرعب فى القلوب من خلال التهديد بأن الحرب إذا بدأتها روسيا ستتحول إلى حرب عالمية ثالثة، كما صرحت بذلك السيدة يوليا لابوتينا وزيرة شئون المحاربين القدماء، التى قالت “من الناحية الجيوسياسية هذا السيناريو محتمل “الحرب العالمية”، وأشارت إلى أنه يجب إعطاء الوضع فى أوكرانيا أهمية خاصة من أجل “الأمن فى كل القارة الأوروبية” وأضافت السيدة لابوتينا إلى أنه فى حال هجوم روسيا على أوكرانيا، فإن الحرب ستتسع رقعتها ولن تقتصر فقط على أوكرانيا. على أى حال تؤكد روسيا كل يوم على أنها ليست عازمة على القيام بأى عمل عسكرى ضد أوكرانيا، وأكدت أكثر من مرة أن قضية الدنباس داخلية وعلى أوكرانيا التفاوض مع مواطنيها فى جنوب شرق البلاد فى إطار الاتفاقيات الموقعة.
لكن الأهم من ذلك إذا نجحت روسيا فى خلق تكتل مواز للناتو والولايات المتحدة وأوروبا، فإنها تكون بذلك قد كسرت أحادية القطب بالفعل، وهذا قد يجذب لها المزيد من الحلفاء المترددين حتى الآن. وإن كنت أستبعد ذلك فى القريب المنظور متذكراً منظمة شنغهاى، والبريكس وغيرها وكلها كانت محاولات روسية لكسر الاحتكار الأمريكى لمصير العالم، والأهم هو السعى لضم الهند لهذا التكتل فعلى الأقل هذا التكتل سيمثل ما يقرب من نصف سكان الكرة الأرضية، وسيكون له الغلبة على الأقل من الناحية السكانية.

التعليقات متوقفه