مهرجان الجونة السينمائي وانفتاح جديد على إنسانية الفن

79

على شاشة عملاقة تتصدر ” مسرح مارينا ” في منطقة تتضمن أيضا ثلاث شاشات أخرى للسينما ، شاهدت مع جمهور شغوف ومهتم فيلم زياد دويري ” القضية 23″ لينتهي العرض وتبدأ الرغبة في التعليق على عمل سينمائي مثير للتساؤلات والجدل .. زياد دويري هو المخرج اللبناني الذي حصل فيلمه هذا على إحدى جوائر مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي منذ عشرة أيام ، جائرة كبرى هى أفضل ممثل والتي ذهبت إلى كامل الباشا ” أحد بطلي الفيلم الأساسيين ، وهو ممثل فلسطيني عمل بالمسرح طوال حياته وهاهو يخطف جائزة أعرق مهرجان سينمائي دولي بدور اعتمد أساساً على رد الفعل والتعبير بلغة العيون وحركات الرأس والجسد أمام البطل الآخر في الفيلم ، الممثل اللبناني عادل كرم بحضوره القوى وكلماته الصارخة ، كانت لحظة مهمة في تاريخ عشاق السينما في مصر ، أو الذين ذهبوا منهم إلى مهرجان الجونة في دورته الأولى ، أن يتفاعلوا مع فيلم سينمائي قادم توا من “فينسيا” ومعه جدله الكبير فيما يخص مستواه الفني الذي أهله للمسابقة الرسمية، وما يخص قضيته عن علاقة الفلسطينيين بلبنان وأهلها وسياساتها ثم ما يخص مخرجه المشارك في كتابته المثير للجدل دائما زياد دويري منذ أول أفلامه ” بيروت الغربية” عام 1977 والذي وجد مذكرة من الأمن تطالب بالتحقيق معه فور وصوله بيروت حاملا جائرة فينيسيا، وبتهمة أتضح أن عمرها سبع سنوات ! .. المهم أنه حضر واستفز حضوره القوى جمهور “الجونة” السينمائي الأول ، وقبله كان هناك استفزاز آخر من خلال فيلم الافتتاح (الشيخ جاكسون” الذي كتبه مخرجه عمرو سلامة مع عمر خالد وهذا هو فيلمه الروائي الطويل الرابع بعد “زي النهاردة” ثم “أسماء” ثم “لامؤاخذة” أي مسيرة مميزة في تسع سنوات فقط ، الفيلم الذي قام ببطولته أحمد الفيشاوي وماجد كدواني وأحمد مالك دوره يطرح قضية صراع الهويات لدى الشباب المصري في السنوات الأخيرة من خلال “خالد هاني” الشاب الملتحي الذي يحاصره مسار التزمت بينما يدور بداخله صراع بين أفكار ورغبات أخرى لاتبارحه مثل حبه للموسيقى الحديثة وعشقه القديم لمايكل جاكسون وهكذا ينتقل بنا الصراع من داخل البطل إلى خارجه وبالعكس كاشفا عن جزء من أزمة جيل يتعرض لمحاولات اختطاف في اتجاهات عديدة .. وما بين فيلم الافتتاح وفيلم “القضية 23” بدأت فعاليات الدورة الأولى لمهرجان الجونة السينمائي مساء الجمعة الماضي بآمال عريضة وتنظيم كبير واستعداد أكبر لوضع هذا المهرجان على قائمة الأحداث الفنية . المهمة في العالم في السنوات القادمة.

سينما من أجل الإنسانية

من الجدير بالذكر هنا هذا الاختيار لفريق عمل محترف لإدارة المهرجان الذي أسسه المهندس نجيب ساويرس رجل الأعمال الشهير والذي كانت له سابقة في تأسيس شركة للإنتاج السينمائي منذ عقدين وإقامته العديد من دور العرض في القاهرة وبعض المحافظات ، اليوم يعود ومعه على ما يبدو دعم العائلة ، الشقيق الأكبر سميح ساويرس مؤسس مدينة ” الجونة” والأب الذي جاء يتابع الحدث ويرحب بضيوف المهرجان من مقعده المتحرك ، ساويرس وصف نفسه في كلمته بكتالوج المهرجان بأنه شخص مدمن على السينما مؤكدا أن نيته هو وفريق العمل في المهرجان هي وضع مهرجان سينمائي جديد على خريطة مهرجانات الأفلام عالمياً مع التأكيد على تركيز المهرجان على شعار ” سينما من أجل الإنسانية” أما منظمو المهرجان الثلاثة الممثلة بشرى عبد الله رزة ، والاقتصاديان كمال زادة ، وعمرو منسى ، فقد وعدوا بتحقيق المهرجان لأهداف متعددة أولها اثبات ريادة مصر السينمائية التي بدأت بعروض الأفلام في الاسكندرية بعد شهور قليلة من اختراع الاخوان لوميير لآلة العرض السينمائي عام 1896، وصولا لتسويق المهرجان عالميا بالشراكة مع مجلة ” فارايتي” الأمريكية الأهم في عالم مجلات السينما ورعاية قناة الاتحاد الأوربي الفضائية “اليورونيوز” وبالطبع رعاية شبكة ” أون” المصرية ، أما الداعمون الآخرون من رجال أعمال وشركات فيكفي أن نقرأ الأسماء قبل عرض أي فيلم لنكتشف أن رجال الأعمال موجودون ولكن لا يثقون إلا في بعضهم البعض وإلا ما معنى ” فقر الدعم ” الذي تعانيه المهرجانات الأخرى في مصر وعلى رأسها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي أحد أهم المهرجانات في العالم وفقا للائحة الاتحاد الدولي للمهرجانات.

الجانب الآخر للأمل

في لائحة الدورة الأولى .. عدد من أهم الأفلام التي تم إنتاجها في العالم هذا العام في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة التي ترأسها المنتجة الأمريكية الشهيرة ” سارة جونسون” وتضم أربعة أعضاء غيرها من بينهم مخرجنا الكبير أسامة فوزي مخرج ” عفاريت الأسفلت” و” بحب السيما” وتضم المسابقة أربعة عشر فيلما منها فيلم مصري لمؤلف جديد هو هيثم دبور ومخرج جديد هو ” تامر عشري” والفيلم اسمه ” فوتوكوبي” بطولة محمود حميدة وشيرين رضا ومن الأفلام المهمة في المسابقة فيلم”الجانب الآخر للأمل” للمخرج الفنلندي الشهير” أكى كوريسيماكي” الذي يقدم قضية الهجرة الآن ” خاصة هجرة العرب الذين تعاني بلادهم من الحروب والضياع من خلال قصة لاجئ سوري تطيح به دوامات البحث عن بلد يؤويه إلى فنلندا .. ومن الهند وبنجلاديش تضم المسابقة فيلم “لافراش للورود” للمخرج مصطفى فاروكي عن خيارات منتصف العمر بالنسبة للرجل ، وهل هي حقيقية أم مفتعلة تتحول إلى كارثة إنسانية حين ينساق وراءها بعيدا عن كل ما يمتلكه من أوراق .. وأيضا الفيلم الإيطالي “موسيقى الصمت” إخراج مايكل رادفورد الذي يقدم قصة معني الأوبرا الإيطالي الشهير أندريا بوتشيلي ، كفيف البصر الذي أصبح عالميا بموهبته والذي كتب سيرته الذاتية ونشرها فوجدها المخرج الانجليزي الكبير فرصة لإنجاز فيلم يرفض فيه مثل شهير هو ( الموهبة ضد العاهة ).

وليلى

في المسابقة أيضا ، يعرض فيلم القضية رقم 23 الذي أشرت إليه في بداية المقال والفيلم المغربي ” وليلى” للمخرج فوزي بن سعيدي والذي يطرح فيه من خلال حارس أمن شاب وزوجته التي تعمل شغالة في بيوت الأثرياء صورة للطبقية والتفاوت الكبير بين هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقون النقود وبين آخرين لا يعرفون متى ستأتي اللقمة التالية.

الرجل الذي أسقط البيت الأبيض

مسابقة ثانية للأفلام الوثائقية يقدمها المهرجان وترأس لجنة تحكيمها الناقدة الأمريكية ديبورا يانج وتضم 12 فيلما طويلا وهذا أمر مهم أن تمثل الأفلام الوثائقية مكانتها في مهرجاناتنا لأهميتها المتزايدة وقدرة صناعها على تقديمها في قوالب فنية ذكية وأحيانا قاسية مثل الفيلم الفرنسي “الحدود المتوحشة” الطويل”225دقيقة” والذي يطرح قضايا اللاجئين إلى أوربا والباحثين عن مأوي فيها بعد اشتعال النار في بيوتهم وبلادهم وليجدونه فيما اصطلح عليه با ” الغابة” عند مشارف باريس قبل ان تهاجم الشرطة الفرنسية في نهاية 2016، ويتشردون من جديد .. وفيلم ” شفرة” للمخرج الانجليزي ” توماس مورجان” عن مخيم” برج البراجنة” للاجئين في لبنان وفيلم ” السيدة فانج” للمخرج الصيني وانج بينج عن الأيام العشرة الأخيرة في حياة أمرأة عجوز مصابة بالزهايمر والفيلم المصري الوحيد هنا للمخرج محمد زيدان هو عن حياة أقدم كومبارس في العالم ، ومن الأفلام الوثائقية الطويلة إلى الأفلام القصيرة إلى المسابقة الثالثة للمهرجان ولجنة تحكيم برئاسة الفنانة نيللي كريم ومعها عشرون فيلما قصيرا متنوعا ، وأخيرا برنامج خاص عن الاختيار الرسمي خارج المسابقة والذي يتضمن عشرين فيلما من أهم الأفلام التي رآها العالم أخيراً لأسماء لها قيمتها في عالم السينما مثل المخرج الألماني فيم فيندرز وفيلمه “غرق” والمخرج الأمريكي بيتر لاندسمان وفيلمه ” الرجل الذي أسقط البيت الأبيض ” والفيلم الفرنسي” المريع ” عن حياة المخرج الشهير جان لوك جودار.

أوليفرستون ومحاورات بوتين

أخيرا البرنامج الخاص للمهرجان والذي يتضمن أربعة أفلام فقط للتاريخ هي ” باب الحديد” ليوسف شاهين و” محاورات بوتين” لأوليفر ستون والذي أخرج أيضا فيلما عن ” سنودن” الذي فضح التجسس الالكتروني ثم ” الهائمون” للمخرج التونسي الكبير ناصر خمير .. أنه تنوع خلاق في البرامج والأفلام يذكرنا بما يقدمه مهرجان القاهرة السينمائي في العاصمة ، وهنا يحول هذا المهرجان المبرمج الشهير انتشال التميمي ” نريده موعدا سينمائيا يشكل جسرا حقيقيا بين السينما العربية والعالمية ونافذة يطل منها السينمائي العربي نحو المشهد السينمائي العالمي ” طموح مشروع خاصة في مدينة رائعة الجمال والحسن ، طرازها يذكرنا بالماضي الجميل ومبانيه ذات الطراز المصري والعربي بمباني ينسجم مع البيئة والبحر والبحيرات وشلالات الخضرة ، الجونة هنا هي اكتشاف جديد ليس للمصريين وحدهم وإنما لكل العالم الذي حضر صناع السينما فيه هذا المهرجان ، وأيضا لنا نحن الصحفيين والنقاد ، فقط كنت أتمنى أن يتلاقى منظمو المهرجان مسألة عدم دعوة الصحفيين إلى قاعة الافتتاح بسبب اتساعها ، فلماذا دعاهم المهرجان وبالطائرة ووفر إقامة مريحة لهم إذا كان هذا ممكن التغلب عليه ؟ خاصة مع التكريمات المهمة في الافتتاح مثل جائزة الانجاز الابداعي للفنان الكبير عادل إمام الذي يمثل وجوده الفني إنجازا نادرا في تاريخ الفن العربي والعالمي ، وأيضا جائزة الانجاز الإبداعي للناقد والكاتب اللبناني إبراهيم العريس والذي واظب على مدى سنوات طويلة على الكتابة عن السينما والأدب وتاريخ الفن في جريدة ” الحياة اللبنانية” وفي حفل الختام مساء الجمعه ـ بعد غد ـ تعطي الجائزة الثالثة للإنجاز الابداعي للممثل العالمي فورست ويتكر الذي مارس الإخراج والانتاج بالاضافة للتمثيل الذي بدأه عام 1982 بالمسلسلات قبل ان يصبح بطلا للسينما على يد المخرج والممثل الكبير كالينت استوود ” في أول التسعينيات .. مهرجان الجونة السينمائي حدث جديد مهم وإضافة إلى عالم الثقافة المصرية وأحداثها بعيدا عن القاهرة العاصمة .. ولكنه قريب من كل العالم طالما استطاع صناعة تحقيق أحلامهم.

التعليقات متوقفه