قصــة قصيـــــــــــرة .. “سبع عربات مسافرة” ..  *محمد عبد المنعم زهران

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

537

 قصــة قصيـــــــــــرة

“سبع عربات مسافرة”

 *محمد عبد المنعم زهران

انتبهتُ فجأة لتحرك القطار ودهشت؛ لأنني اعتقدت أني غفوت.

رأيت مساعدي يجلس أمامي، تأملته.. كان هو، تصاعد ضجيج الركاب مختلطًا بصوت القطار الرتيب، ومن بعيد رأيتُ الكمسري يمر عليهم للاطلاع على تذاكرهم. بدا ودودًا على غير العادة، كأنما يريد أن ينتهي بسرعة. بعد قليل جاء وجلس بجواري..

” أنهيت العربات الموجودة يا ريس “.

ظهر الصبي الذي يبيع الصحف ينادي بصوته المرتفع، ومعه صحف اليوم، أعطى كلًّا منا صحيفة مجانية لأننا نسمح له أن يبيع، أراد الولد أن يمنحني صحيفة إضافية لأنني رئيس القطار، ولكنني نظرت إليه من أسفل نظارتي فتراجع. بدأنا نقرأ في صمت، بعد قليل توقفتُ وأخذت أتأملهم وهم يقرأون. أكتفي دائمًا بقراءة العناوين، فما أعتقده يقينا أنه لا شيء سيتغير، وأن الأمور ستمضي هكذا فقط. بعد مرور وقت ألقى الكمسري الجريدة وحدق في النافذة، التفتُ وقلت له ” اهدأ “.. فنظر إليّ بعصبية:

“أنت تري يا ريس.. كل هذا الوقت الذي مر ولا يستطيعون معرفة سبب حريق القطار، أتمنى فقط أن أعرف كيف احترق؟!”

لم أستطع الرد، ولكن مساعدي تنهد:

” ربما سيستغرق الأمر وقتا أطول.. يبدو أن هناك صعوبات تواجههم..

بقينا صامتين، مستسلمين لضجيج الركاب وأحاديثهم، بعضهم نائم، والبعض الآخر منهمك في حوار لا ينقطع أبدًا، ومن وقت لآخر تخرج ضحكات رائقة من هنا وهناك، لفت نظري سيدة تجلس وحيدة، كانت تبكي، تتلفت كل وقت وتطيل النظر في كل النوافذ كأنما تنتظر توقف القطار في المحطة التي تريدها، كانت تخفي شيئًا في يدها التي تسندها على حافة النافذة، تقبض عليها بقوة. ظهر بائع السندوتشات بضجيجه المعتاد، يتوقف بصندوقه عند كل مقعد ولا أحد يشتري منه، بدا أنه يؤدي واجبًا تمرس على تأديته.

تأملت الركاب، كانوا يتلفتون في هدوء، تغمرهم سكينة المسافرين الذين يستسلمون لخدر اهتزازات الحركة المنتظمة للقطار، بعضهم يشرد، ينظر عبر النوافذ قليلا ثم يلتفت إلى من بجواره ويستأنف حديثه. وحدهم الأطفال كانوا يحدثون صخبًا، يمشون في الممر الطويل بين المقاعد، فيثيرون بهجة الركاب الذين يحاولون اللعب معهم، ومن وقت لآخر تنهض أمهاتهم وتحملنهم وتعدن بهم، ولكنهم ما يلبثون أن يعودوا.

طوى المساعد جريدته فجأة:

– انظر يا ريس! يقولون إن عدد القتلى ثلاثمائة فقط!

رد الكمساري بعصبية:

-ثلاثمائة! هذا لا يساوي ركاب عربتين على الأكثر!

تركتهما ونهضت، قررت أن أبدأ جولة في القطار..

– لا تتعب نفسك يا ريس.. لقد مررت على كل العربات.

– لمجرد أن يمر الوقت.

– الوقت لا يمر أبدًا.

أمشي بين المقاعد والركاب يلتفتون إليّ ويبتسمون فأبادلهم الابتسام، تأملت كل الوجوه التي بدت لي مألوفة، حتى هذه الأجساد الممدة فى الأعلى على أرفف حمل الحقائب، كانت تستدير وتبتسم. في العربات المزدحمة أفسح الجميع لي طريقًا للمرور، حتى بائع الشاي الذي ملأ القطار ضجيجًا، عندما رآني، انتحى جانبًا:

– تفضل يا ريس.

مررت على العربات السبع، وعندما عدت إلى عربتنا، توقفت أمام السيدة التي تجلس وحيدة، كانت لا تزال تبكي وتتلفت في كل اتجاه، جلست أمامها..

– لماذا تبكين؟

– ابني ينتظر..

– أين؟

– في البلدة القادمة..

“أرجوك.. أوقف له القطار.. إنه ينتظرني”

– طبعا.. لا تقلقي.

كانت لا تزال تمسك بشيء ما في يدها، وتقبض عليه في استماتة، تركتها وعدت إلى مقعدي، رأيت المساعد والكمسري مستمرين في حوارهما، بعصبية أحيانًا، وباستسلام في أحيان أخرى. بدأ القطار يبطئ سرعته شيئًا فشيئًا؛ لأن البلدة تقترب، ورأيت السيدة تنهض وتنظر من النافذة، وتلوح بيدها، نظرت إليّ فجأة:

– هل سيتوقف القطار؟

– بالطبع.. لا تقلقي.

أوشك القطار أن يتوقف، وهي تتحرك من نافذة لأخرى، كأنما تخشى ألا يتوقف.

أخيرًا توقف القطار، وانفتح الباب، ظهر شاب ومعه آخر، بينما تحول بكاء السيدة إلى بكاء هستيري، صمتت كل العربة، والتفت كل الركاب إلى الشاب الذي يتحرك بين المقاعد يتبعه رفيقه..

تعال.. أنا متأكد أن هذه هي العربة.

ربما كانت عربة أخرى؟

لا.. هذه هي العربة بالتأكيد.

اقتربا من المقعد الذي تجلس عليه السيدة، كانت تنظر إليه وتبكي، توقف الشاب أمامها:

هذا هو المقعد..

هل أنت متأكد؟

مدت يدها واستطاعت أن تلمس وجهه وشعره وهي تبكي، والركاب يراقبون في صمت

لماذا توقفت؟

أتذكر.. فقط.

ابحث عن الصورة ودعنا نخرج بسرعة!

مال الشاب على النافذة، بينما تنظر السيدة إليه وتبكي، كانت يدها التى تقبض على شيء مستندة على حافة النافذة، بدا أن أصابعهما تلامست، أو هكذا تخيلت لأن الشاب صرخ فجأة:

وجدتها.. هنا.. هنا فى هذه الفجوة التى تهبط فيها النافذة الزجاجية.

مد يده وأخرج صورة.

هذه هي.

– لا أصدق!

–   ألم أقل لك؟

كنتَ صغيرًا جدًّا!

عشر سنوات مرت.

……. ؟

– كنا نجلس هنا عندما ألقتني من القطار، لم أكن أملك لها أية صورة.

بكى الشاب، وكانت السيدة تبكي فى لوعة وحرقة..

إذن هيا لنخرج.

نعم..

لماذا تبكي؟!

أخيرا وجدت صورة لأمي.

عجيب أن تأتي لك في الحلم لتدلك على مكان الصورة بعد عشر سنوات!

لأنني قلت لها في الحلم.. أريد أن أراكِ.

تبادل ركاب العربة النظر في صمت، بعضهم تأثر وبدأ يبكي أيضا. مضى الشاب ورفيقه حتى آخر العربة ثم هبطا. ركاب العربات الأخرى تزاحموا على النوافذ لرؤية الشاب.

تحرك القطار الآن، فوقفت السيدة في النافذة، رفعت ذراعها ولوحت له، فرفع الشاب ذراعه ولوح أيضا..

إلى من تلوح؟

لا أعلم.. أفعل فقط ما حدث فى الحلم تمامًا.. فبعد أن عثرت على الصورة، رأيتها تلوح لي وهي تبكي، فأخذت ألوح لها..

ولماذا تبكي الآن؟!

لأنني كنت أبكي أيضا.

اختفى الشابان، وبدأ القطار يستعيد سرعته، نظرت إلى السيدة، لم تكن موجودة، كانت قد اختفت، واختفى الركاب والكمساري ومساعدي، ثم تلاشى القطار. انتبهت أخيرًا لأنني بدأت أفهم كل شيء. وفجأة شعرت بحماس غامض، وعدت أفكر بجدية في أنه ينبغي عليّ الاستعداد لنحو ثمانمائة واثنين وثلاثين حلمًا تتعلق بركاب يتطلعون في أمل.

…….

وأنتَ أنت

أنت الذي تكتب، أتتذكر؟

كنتَ آخر راكب يغادر القطار في المحطة السابقة لتحركه إلى الكارثة، نظرت إليّ وأنت تهبط وكنتَ حانقًا من الزحام، لهذا هبطت قبل محطتك بكثير، لتنجو فقط من الزحام، نظرت إليّ بضيق، فاكتفيت أنا برفع حاجبي إذ لم يكن بيدي شيء، وأخيرًا ابتسمت لك وأنت تهبط، لأنني اعتقدت بأنك هكذا ستنجو من الزحام فقط ليس إلا.

لم أكن أعرف أبدًا أنك قد عاودت الركوب في العربة السابعة قبل أن يتحرك القطار، بعد أن ترددت قليلًا، وكنت تنوي كتابة قصة جميلة عن أحلام ركاب بسطاء، تغمرهم سكينة غامضة في سبع عربات مسافرة تتحرك في هدوء.

محمد عبد المنعم زهران

التعليقات متوقفه