روايــة ..التي رأت.. صفاء عبد المنعم .. الجـزء الثاني

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

616

روايــة
التي رأت
صفاء عبد المنعم

الجـزء الثاني

كُنت فين يا على وأمك بتدور عليك؟

« يضع الجلاد حبل المشنقة حول رقبته. فينطق بالشهادتين. وفجأة يشق الميدان عن فارس ملثم فوق جواد أشهب يطيح بسيفه رقبة الجلاد، ويهجم بفرسه على الحراس فيفرقهم، ثم يقطع حبل المشنقة ويحمل على الزيبق الذاهل فوق جواده، ويقفز به فوق الجند المذعورين، ويندفع كالسهم فى شوارع القاهرة، مفلتا من مطارديه.. وكان الفارس عندما هجم على الجلاد قد صاح به جاءك فارس العصر، وغفير أهل مصر… .»
ثلاث ساعات وسمرة تبحث عن على ونور فى كل مكان. وأخذت تنادى عليه : يا على.. يا على .. يا نور.. إلى أن صعدت إلى السطح ورأته يقرأ من كتاب فى يده ، ونور تجلس إلى جواره فى صمت مستمعة إليه . خلعت سمرة الشبشب من قدمها ، وأخذت تضربه بعنف وقوة
وأم جابر وراءها تصرخ : انتى يا بنت.. يا بنت الكلب هى الغوله أكلت عيالها. ثم أمسكت الشبشب من يد سمرة ، ونزلت به عليها . وسمرة تصرخ : يا أمه..تلات ساعات وانا بنادى عليه.. وهو قاعد فى السما وماسك الكتاب وبيقرا ومش سامعنى . صمتت أم جابر، وأخذت على فى حضنها وهو يبكى .- كنت فين يا على وأمك بتدور عليك ؟ جفف على دموعه ، وهو ينهنه : كنت اقرأ كتاب على الزيبق يا جدتى.. ونورأهه شاهده .
تقدمت نور من جدتها وقالت : آه والله يا جده . أصل النهاردا كان عندنا حصة قراءة. ومس هند حكت لنا حكاية فاطمه أم على الزيبق . عشان النهاردا عيد الأم . كل سنه وانتى طيبه يا جده. أخرجت نور من جيبها زهرة حمراء ، وأعطتها لجدتها وقبلتها ، ثم نظرت تجاه سمرة ، وهى تمسح دموعها : كل سنة وانتى طيبه ياماما . مالت سمرة على على وقبلته فى رأسه ، ثم أخذته فى حضنها وهى تبكى : يقطعنى يا على . يا ريت تنقطع إيدى .
ترك على حضن جدته ، وجرى إلى حضن أمه ، وبكى ، ثم أخرج من جيبه وردة حمراء كبيرة وأعطاها لها وقال : كل سنه وانتى طيبه يا أمه.

ست عشرة امرأة فى بيت دردكه العجوز، يصنعن فيضاً من الحنان والحكايا.
أوكلت أمه لهن رعايته. بعد أن مات أبوه، فأصبح يتنقل بين ست عشرة شجرة من الفاكهة الطازجة التى لم تمس. يقطف ما يحلو له من الثمار فى براءة ودعة وخبث خفى، وطيبة جدته طاغية عليه. هكذا احتل عليش رعاية خالاته بعد رحيل أمه وتركه صغيراً وتزوجت آخر. وكان أخوه الأصغر يحتل رعاية جده حبشى فيتنقل معه فى رحلاته الطويلة بين الأسواق والموالد يبيع بضاعته الراقدة فى الخرج على ظهر الحمار. أقفال ، مفاتيح، وسلاسل حديدية كان حبشى يجلس طويلاً عند السلطان بجوار ابنته الصغرى سمرة وينادى مفاتيح أعمر ثم ينتقل بعد المولد إلى مولد آخر ساعياً وراء رزقه. يحمل الطفل سيد صندوقاً صغيراً على كتفه وينادى مع جده أصلح بوابير الجاز، وجده وراءه يجر حماره متابعاً له.. ندق الألمونيا. كان الجد حبشى يستقبل بحفاوة بالغة فى طنطا مسقط رأسه ، وجوار حبيبه شيخ العرب لقد ولدته أمه فى مولد السيد البدوى فقررت أن تسميه حبشى لسبب سواده الفاحم، وكانت ترفض أن ترضعه ، وتردد : من أين لى بهذا العبد ؟
جلس سيد الحفيد إلى جوار جده ، وأخذ كل منهما يتطلع إلى جامع السيد البدوى ، عيون ملؤها الخشوع والرهبة. والنسوة يتوافدن على مكانهما لإصلاح بوابير الجاز . مد الجد يده داخل الخُرج الملقى على الأرض ، وأخرج قطعة عيش مرحرح أعطتها له امرأة مقابل تصليح قفل لها . ثم أخرج قطعة جبن وأخذ يأكل على دراديره الباهتة وهو يحدث حفيدة بحفاوة بالغة: اسمع يا شيخ العرب. بكره الليلة الكبيرة. شالله يا سيد، عايزين نجبر بدرى، عشان نلحق مولد سيدى الدسوقى بدسوق ، شالله يا أهل الله.
صاح سيد زاعقا : يا جدى. أريد أن أرى أخى عليش. ضحك الجد وبانت دراديره ، ثم مد يده وملس على رأسه وقال : ببركة السيد إن شاء الله.. سوف يحضر الشيخ عليش مع سمرة خالته وأم جابر ويقضى معنا الليلة الكبيرة. تعجب السيد الصغير غير مصدقا ، وغير رافضا . ولكنه قال : وخالاتى الباقيات، أريد رؤيتهن.ضحك الجد وضمه لصدره وهو يقهقه: يا شيخ سيد. كفياك طمع. أنا لا أريد أن أرهق السيد البدوى بطلباتى فيطردنى من جواره. تملق الشيخ الصغير جده، وداعبه وقال: اطلب يا جدى. وهو سوف يلبى طلبك. قول شالله يا سيد، يا شيال الحمول.ضحك الجد وقهقه مسروراً وهو يهز رأسه طرباً، وفرحاً. – خالاتك كثيرات..
– ولكن سوف يأتى بهن السيد.- يا شيال الحمول يا سيد.. أجب له طلبه.
وما هى إلا دقائق معدودات ، مجرد أن طلب الجد. حتى كانت الخالات جالسات أمامه يقطعن رغيف العيش المرحرح ، ويقضمن ويضحكن . وأم جابر تضحك : كده يا شيخ سيد. تجيبنى على ملا وشى حافيه ومن غير لباس .ضحك الجد وهبد أم جابر على ظهرها.
– وهو من إمتى يا بنت العرب بتلبسيه . وتضاحكوا وضحك الصغير لأنه يعرف مغزى حديث جده. ثم تقدم من على ونور وقدم لهما قطعة من الجبن. وهما نائمان، على ، علي فخذ سمرة، ونور علي فخذ أم جابر. وأصوات المنشدين تأتي إليهم من بعيد.
يا ما في الجبل سواح جاعدين في خلاويهم
بياكلوا المر واللحلاح والحنضل حلي ليهم
يا مراكبي تعالي شوف بعد الفجر بشوية
تلجاهم صفوف وراخيين على الهدب طيه

لقد تخلصت هند من الأرق، والروح الحبيسة، ودخلت تصنع كوباً كبيراً من الشاى. أضاءت الشمعة الوحيدة داخلها، وجلست ترقب قدوم شخص ما، شخص يهذب الوحشة المخيفة داخلها، والغابة المترامية الأطراف حولها.
النيل يسير فى هدوئه المعتاد قادماً من أعماق الماضى، حاملاً ثقل السنين والحضارات والغزوات والطاعة والترويض والتحدى والاستمرار. بلا تاريخ يأتى.. سيد الغزاة، بلا ماض يبحث عنه داخلها، وأثره يحتفظ به، شىء يخصه، مثل فرح خاص، أو ألم خاص، أو سر قديم من كهنة قدامى لم يذع له سر.
روحي لك يا زائر في الليل فدى يا مؤنس وحشي إذا الليل هدى
إن كان فراقنا مع الصبح بدا ما أسفر بعد ذاك صبح أبدا
أى كبوة تحتفظ بها ذاكرتك يا هند؟
إنه يأتى متوحداً، يغزوها، بعنف، بقوة، إنه يريد أن يقتحم قلعتها المحصنة جيداً بالبخور والأحجبة، والأدعية والابتهالات. والأم المتربصة لها دائماً. كى لا يقربها أحد. إنه يريد أن يغزو تاريخها، أن يترك أثره فوق أطلالها المتناثرة عبرعصور من القهر والسجن والإحباط، عصور تقف أمامها منذ آلاف السنين وتوارثتها كما هى، سليمة لم تخدش شيئا قط. هى تقف متنهدة وهو يأتى مهدداً، ناشراً فحولته. أنت سيد الفاتحين؟ سيد الغزاة. الطامع فىّ. تأتى قاطعاً الطريق فى لمح البصر، من مولد السيد البدوى، إلى مولد الدسوقى، إلى باقى الموالد فى جميع المحافظات. وأخيراً : تأتى فى الرابع عشر من ربيع الثانى. ليلة السلطان، الليلة الكبيرة. يأتى السيد بكل حشوده، بكل أحبائه، بكل مريديه، ودراويشه وشحاذيه.. ويأتى معهم السيد وجده الحبشى ابن أخو أم جابر، يجلس بجوار السلطان، شابا صغيراً، خط شاربه الأخضر، بالأمس فقط، هو اكتشف هذا صدفة. جاء يصلح ما أفسده الناس. بوابير أعمر.
تقف هند أمامه طفلة صغيرة فى الثامنة من عمرها، تمد يدها له : والنبى صلح لى الوابور.
بلا هوية يتقدم ، مثل الرمال المتحركة من وسط الناس، يمد يده، ويجلسها إلى جواره ضاحكاً : وانتى اسمك إيه يا أموره.
– اسمى هند.
يضحك السيد الصغير : هند بنت عتبه ؟
تضحك الطفلة مصححة له الاسم : هند جعفر النوبى.
يقف على الأرض محارباً قديماً. يحتل ربوتها المعشوبة بطحالب خضراء صغيرة متناثرة. يمد يده أسفل جلبابها وبدون أن تدرى، ترى بقعة دم على الأرض..تصمت.
ثم تواصل توسلاتها : والنبى صلح لى الوابور، أمى هاتضربنى.
يا راحلا وجميل الصبر يتبعه هل من سبيل إلى لقياك يتفق
ما أنصفتك جفوني وهى دامية ولا وفي لك قلبي وهو يحترق
هى الطافية على سطح النيل الدائم الأبدى. من هنا.. من بلاد الطمى بولاق.
وهو الآتى من بلاد بعيدة، بلا تاريخ يخصه. هى أبنة القمح والشعير والطوفان ، ابنة الأزمنة والمكان والسلطان وثورة القاهرة. ابنة الإلهات الجميلات، يسجدن خشوعاً للرب، ابنة الكهنة، الساحرات العاشقات. تحمل خصوبة لا تنتهى. وهو يحمل التملك، يحمل هوية الغازى.
صرخت فيه أم جابر ونادته : أنتَ يا واكل ناسك ، مشى الست هند، لحسن أمها تستغيبها.
ومدت يدها أخذت وابور الجاز وأعطته له فى خشونة. ثم أخرجتك يا هند من الطابور الطويل وأخذت بيدك وأوصلتك إلى البيت. وهى تلهث خائفة ومضطربة : يا ست غزاله .. الست هند أهيه ، لقيتها عند السلطان أبو العلا. والنبى يا ست ماتضربيها ، الليلة مولد والدنيا زحمه.
صبت هند كوب الشاى، وخرجت إلى الصالة ثم أضاءت النور. لماذا تعود إلى روحى كى تستلبها، وترهق قلبى بعنادك الدائم؟ عندما اجتاز الحدود، ومد يده السيد الصغير، وأوقع منها بقعة دم صغيرة. هى لم تدرك مدى خفته ، ومدى ترسب روحه داخلها. وستظل لسنوات طويلة تعانى من أثر ذلك. وأتى إليها قاهراً غازيا . وسكن إلى جوارها.. سكن جوار السلطان فى حجرة صغيرة عند خالته. رفض أن يعود مع جده يدور فى الأسواق والموالد ويتنقل بين البلاد. جلس إلى جوارها ، هند جعفر النوبى، القاطنة العمارة الفارهة أمام السلطان .
وكل فتى يهوى فإني إمامه وإني بريء من فتى سامع العذل
ولى في الهوى علم تجل صفاته ومن لم يفقهه الهوى فهو في جهل .
” كانت ابنة خماروية تتجمل وتخضب يديها بالحناء، ويغنى لها العامة أغانى جميلة. كانت قطر الندى تطل من قصرها العالى، فترى بركة الزئبق، والأب عارياً يسبح داخلها متلذذاً، بنظرات الجميلة، وكاسراً حالة الأرق. وتجمع البسطاء، الفلاحون والتجار والصناع والمغنون، يعدون جهاز العروس، وينشدون أجمل الأغنيات، أياماً وأياماً، وامتلأت الشوارع والحوارى بأغانيهم.
يا حنه يا حنه يا حنه..
يا قطر الندى يا شباك حبيبى يا عينى..
جلاب الهوى .
الهواء البعيد المجهول.. يغذو النفس ببطء، يزيد الأرق. وكان الأب مفتوناً بجميلته، حبيبته، يمامة روحه، كيف تبعد عنه، ذاهبة إلى بلاد بعيدة، بلاد أخرى، فيقتل أيامه حزناً على طائره
المسافر، وليفته، عنبة قصره التى سيقطفها رجل غيره. هنا في شوارع بولاق.. وثورة القاهرة والفرنسيس. هنا ترقد الجثث متفحمة، هنا بجوار جامع السلطان يسكن السيد، وأمامه تسكن الست هند جعفر النوبي ، أبنة الحكايات وملكة الحواديت . يسكن المريد الجديد بجوار حضرة جمالها. انتهى كوب الشاى. دقت أم جابر الباب، قامت هند تفتح لها زاعقة : ما هو اللى اختشوا ماتوا كنتى فين يا وليه يا خرفانه طول النهار. ضحكت أم جابر وهى تضع لفة كبيرة أمام هند: كنت فى المولد يا ست – شالله يا شيخ العرب.
هنا بلا معارك، بلا أمجاد، تسكن هند. بلا أحزان جديدة، تضاف إلى أحزانها القديمة. تكتب عنها، بلا آثار تكتشفها وتداريها. هناك شىء بعيد تحاول الإمساك به، يفلت، تحاول، يراوغ.
فتحت أم جابر اللفة، ووضعت طبقاً كبيراً من الحمص والحلوى، وهى تضحك وتمد يدها: قولى شالله يا سيد، يا شيال الحمول أرمى حمولك على الله يا بنتى.
ستظل النار مشتعلة مهما حاولت هند إطفاءها. هل جربت أثناء الليل أن تتمنى شخصاً بعينه فلا تجده؟ فيستبد بك الأرق، ويهجرك النوم، وتظل تبحث عن ملامحه الهاربة من تاريخ طفولة قديم، دون فائدة، دون أن تراه.
تربت أم جابر على كتفها بحنو، وتأخذها بين ذراعيها فى طيبة ودعة، وتجلسها أمامها، ثم تقرأ قصار السور والفاتحة.
مدت هند يدها وأخذت قطعة من الحلوى على شكل قطعة جبن بيضاء، ثم أخذت تقضمها ببطء، وهى تتأمل أم جابر جيداً، ثم قالت لها: ألا أنتى فاكره الشيخ سيد يا أم جابر؟
ضحكت أم جابر وهى تعتدل فى جلستها.- قصدك الشيخ غراب داهيه تقطعه وتقطع سيرته. إيه فكرك بيه.
– فاكره يا أم جابر لما خطفنى وأنا صغيره، وراح شايلنى هيلا بيلا زى الحمامه المذبوحة ، وأنا متعلقة فى رقبته.
– أيوا يا بنتى فاكره والناس اتلمت وبقت تصوت، وأمك تنده عليه وهو ولا سأل.
وأنا وقفت وصرخت وقلت : يا سلطان يا أبو العلا وقفه. راح موقفه فوق المئذنة وربطه. وأنا رحت طالعه بشويش على السلالم، وقمت جيباكى. ومن ساعتها ولحد النهاردا كل يوم ييجى غراب فى نفس الميعاد ويقف على المئذنه ويزعق: غاق.. غاق.
– ليه يا أم جابر؟
– عشان خان العهد، السلطان مرضيش يرجعه لأصله. السلطان حرسك ونزلك.
– ياه يا أم جابر كانت أيام.
– الله لا يعودها.. إيه فكرك بيها.
– احكى لى حكايه يا أم جابر.
– شالله يا أهل الله.
صلى على النبى يا ست..
” بيقولو كان فيه واحده اسمها فاطمه بنت برى ، خدت شرب أربعين والى من الصالحين. راح لها السيد البدوى وعمل رجل غلبان. راحت مسلطه عليه القمل ، وقالت له : عليك يا قمل بيه. راح السيد مسلط النمل واكل القمل. قالت له: لازم تتجوزنى. قال لها: هاتى هون، وحطته على كفة ايديها، وتف فى قلب الهون، فراحت التفه خرمت الهون، وخرمت ايديها، وخرمت سابع أرض. قال لها: أنك أنتى مش مستحمله تفتى، إزاى تستحملى نطفتى؟ وسابها ومشى “.
اعتدلت هند وقالت: طب أنت عرفتي حكاية «سمنون المحب» مين سمنون ده يا ست هند؟
ده راجل متصوف ، وكان عايش في العراق . وسموه المحب لشدة حبه لله. وده إيه اللي حصل له؟
” بيقولوا في مره وقعت عين امرأة على جمال سمنون، وعرضت عليه نفسها. فرفض. راحت المرأة «للجنيد » وقالت له: قل لسمنون أن يتزوجني، فغضب منها الجنيد وطردها.
راحت «لغلام الخليل » واتهمت سمنون بتهمه أنه حاول يعتدي عليها. سمع غلام الخليل الكلام، وراح للخليفه وزود من عنده عن سمنون وأفعاله. ولما أمر الخليفه بقتله ، وجه السياف يصدر الأمر، راح أنعقد لسانه. ولما نام الخليفه بالليل شاف في المنام حد بيقوله: إن زوال روح سمنون مرتبط بزوال ملكه. راح صاحي وأصدر أمره بالعفو عن سمنون “.
شفتي يا أم الهم ، إن مش فاطمه بنت بري بس هي اللي حبت السيد البدوي. لكن طول عمر الحب زي النار لما يشب في القلب ولا مية الدنيا تطفيه.
ما هو يا ست هند اللي قبلنا قالوا : الحب خايله، بنار هايله، عوج السليمه، وعدل الميله.
ومين الميله بقى يا أم قويق؟ روحي نامي روحي، وأنت وليه خرفانه.
ثلاثة أيام، والسماء تمطر. وهند جالسة فى حجرتها، لا تخرج منها. هى تعودت على ذلك منذ كانت صغيرة، تكره البرد، ولا تحب الشتاء، وتصاب باكتئاب موسمى، لا تعرف سببا له. ولكن اليوم جلست أمام النافذة تتأمل النيل، والشمس قد أشرقت، فى يوم من أيام ديسمبر الباردة الشمس ترسل اشعتها على خجل واستحياء، وهى بين لحظة وأخرى تأتى متبخترة من خلف الضباب، تغمض عينا وتفتح عينا، وتبتسم على استحياء، وتشرق لهند: أيوه كده يا جميله أطلعي ونوري. مدت هند يديها خارج الشرفة وفردت أصابعها للشمس، فعلت ذلك مرات عديدة إلى أن تخلل الدفء أصابعها، وفرد الجلد من البرد بعض طياته أشعلت وابور السبرتو الذى أحضرته لها ناهد، ووضعت البراد الصغير لتصنع كوباً من الشاى ثم أخذت تتأمل الأفق الممتد، والشمس تخترقه بضوئها ودفئها وأشعتها. فتنتعش العصافير وتزقزق فرحة، وتفرد ريشها وتنشر جناحيها. نظرت هند إلى الجانب الآخر، رأت رجلا وابنته داخل قارب صيد صغير. الابنة تجدف بذراعيها. والأب ينشر الشباك فى الماء وهو واقف على القارب، ثم نادى بعلو صوته : أصباح الخير يا ست. ردت هند بصوت أعلى كى يسمعها : معاك رزق؟
رفع الرجل صوته ، وهو مازال مكانه على القارب ينشر شباكه. – على الله بعد الضهر إنشاء الله ، أعود بالطرحه والرزق اللى يطلع من السمك على وشك. ثم أخذ يختفى القارب من أمام عينيها. والبنت مازالت تجدف بكل قوتها. رفعت هند البراد من على النار، وأطفأت الوابور، ثم سكبت كوباً كبيراً، وأخذت تحدث نفسها بصوت مسموع. كأن أحداً يجلس أمامها وتحدثه كثيراً ما تفعل هذه العادة، تتحدث بصوت واضح وهى تتأمل النيل وترشف الشاى.
بالأمس حاضت ابنتى إنها فى الثالثة عشرة، إنها على مشارف الأنوثة، إنها فى مثل السن الذى أحببت فيه لأول مرة أستاذى. كانت أكثر جرأة من كونها طفلة تعلن حبها وتقول بملء فيها بحبك يا أستاذ.. وهى فى حضرة الست أم هاشم. كان يمسك يدها ويقبض عليها جيداً. لقد أوصته أمها أن يشترى لها حذاءً جيداً. أخذها من يدها وطاف بها. ظلا طوال اليوم يبحثان عن حذاء جيد، ولا يريدان العودة. هو يقبض على يدها الصغيرة فى يده. وهى تسكن وادعة صامتة. دخلا محل كشرى. طلب لها طبقاً كبيراً. أخذت تأكل بخجل طفولى، وأسقطت بعض الطعام على ملابسها. ضحك، ومسح لها بالفوطة فستانها، وقال بود وحنو: ولا يهمك.
ثم طلب طبقاً آخر من الأرز باللبن. فأخذت تأكل وهى خجلة، تضع القليل فى فمها. وهو يأكل بشراهة واستمتاع، وينظر إلى رقتها ويبتسم، ثم يحدثها بحذر. – انتى خايفة تكلى؟ ولا يهمك كُلى براحتك، ماحدش بيبص على حد. كله مشغول بالأكل .وعندما نظرت إلى عينيه الجميلتين . كانت لأول مرة تراه مختلفاً، باسما، لا ينهرها، ولا يهددها بالضرب على الأخطاء، والتفتيش عن الواجب. ضحكت، ودارت فمها بالمنديل الذى فى يدها، وقالت له : انتَ طيب قوى يا أستاذ وانا بحبك. نظر إلى عينيها، غير مصدق هذا الصوت الرقيق، الصغير، يخرج هكذا بسيطاً، رقيقاً، عذباً، مغرداً، كاسراً كل تابوهات الخوف، والخجل، والصرامة، والتعليمات.
وقال لها مندهشاً: عنيكى لونها عسلى. كيف لم أرهما من قبل؟ ثم أمسك يدها، وضغط عليها بقوة : انتى اليوم جميلة. كيف لم أراكى من قبل. ثم أمسك يدها وخرجا معاً إلى الميدان الفسيح. قالت له ولم تعد تخجل أمام عينيه الجميلتين. وهو يبتسم فرحاً لاكتشافه لون عينيها : أنا عايزه أزور الست أم هاشم ، وأزور القلعة والنبى يا أستاذ. ضحك، وأمسك يدها بقوة. مابلاش أستاذ دى! قولى يا حمزه. خلع حذاءه، وأمسك يدها. وفعلت مثله، خلعت حذاءها، ودخلت حافية القدمين، فى رشاقة وخفة لم تعهدها فى نفسها، وأخذت تقبل شباك الضريح بحب، والدموع تسيل من عينيها. ثم أخرجت بعض النقود، ووضعتها فى الصندوق. تبسم حمزة وقال لها: إيه دا يا هند؟ مسحت دموعها بظهر يدها، وهى مازالت ناظرة للأرض. – ده ندر. كنت نادراه لأم هاشم. لو حبتنى قد ما بحبك. ضحك غير مصدق هذه الطفلة، ثم وضع يده على كتفها وضمها بشوق إلى صدره: للدرجة دى بتحبينى. أنا بحسبك بتضحكى.غضبت هند من حديثه، وتركت يدها من يده: بحبك قوى يا أستاذ. وربنا اللى يعلم. خرج غير مصدق ما رآه وسمعه، وغير متأكد من مشاعر هذه الطفلة الصغيرة، التى عهدت الأم له أن يشترى لها حذاء جديداً. تحبه هكذا! أخذها من يدها الصغيرة، وظلا يسيران في الشوارع، غير عابئين بالوقت، يحكي لها الحكايات القديمة التى سمعها والتى قرأها في كتب التاريخ، وحكى لها عن انضمامه إلى الفرقة الصوفية في قريته، وكيف كان مريدا طيبا ومطيعا ثم ضحك: أنت عارفة يا هند سنباط دى بلد الفن والمغنى، زمان سمعت أن محمد فوزي، ورياض السنباطي كانوا يجوا عند جدى ويتفرجوا على الآلات القديمة اللى عنده، أصل جدى أبو أمي كان غاوى آلات، وأمي كان صوتها جميل وفيه بحه حلوة كنت أحب أسمعها وأنا بذاكر، وجدى قاللي أن أبويا الشيخ محمد الله يرحمه كان بيغني مواويل في الموالد، وجدى يعزف له على الربابة، وحب أمي وأجوزها.. لكن مات قبل ما تولد راح بلدهم وما رجعش. أمسكت هند يد أستاذها وضغطت بقوة طفلة ناضجة، وقالت له بحنان وحب: ولا يهمك يا أستاذ أنت هنا بين أهلك، ثم ضغطت أكثر والنبي سمعني موال من اللى كان بيغنيهم أبوك، أكيد الست والدتك، غنت لك منها موال.
أنا من قلة الخال ختك يا غريب خالي
حطيت رجلي على المليان
سقطت وجت في الخالي
أنا عايزلي ضمار يضمر على حالي
قالي شقي البخت من يومك
خدوا غزالك وصبحوا موطنك خالي.
أخذت تصفق هند بيدها : الله يا أستاذ ، صوتك حلو، قوي. سيبك من دروس التاريخ واشتغل مغني . ضحك حمزة وضم يدها بين يديه : يا هند التاريخ طعمه حلو زى المغني بالظبط كل عصر وله موال ، ساعه يبقى فرح وساعه يبقي حزين، هى الحياه كدا كل ساعه في حال. يا أستاذ، التاريخ كله حروب ومعارك وناس ماتت وناس انتصرت ، تاريخ موت مش حياه. يا هند، التاريخ هو الناس، أنا وأنت، والناس اللى حوالينا، بس محدش كتب عنهم غير المواويل والحكايات والنكت. بكره لما تكبري وتقري تعرفي إن التاريخ مش هو اللي في كتاب المدرسه، لأ، التاريخ هناك في الكتب على الرفوف أقري ابن إياس والجبرتي، وأنت تعرفي. يا أستاذ، أنا عايزه أعرف أنا ليه كدا! خايفه أكلمك، وامش معاك، وأحبك بحريه.
يا هند ، ده حاجه تانيه ، في أوروبا ده عادي ومن حقك . لكن احنا هنا، لازم نفكر الأول إيه الصح وإيه الغلط ، نقرا التاريخ بجد ومن المصادر، حاولي تقري يا هند.
وأول كتاب عبد الرحمن الرافعي وبعد كدا الجبرتي وده مهم جدا
بالنسبة لك. حاولي تسمعى كويس، لأن ده مهم، وبعدين تقري بتمعن وهدوء، واللى ما تعرفهوش، أنا أساعدك، مش احنا خلاص بقينا أصحاب. أحباب يا أستاذ أحباب .
وضعت هند البراد ثانية على النار. لتصنع كوباً جديداً من الشاى، وهى مازالت تتذكر أحداث ذلك اليوم البعيد، وكيف عاهدها حمزة أن يفكر فى الأمر، وربما يكون يحبها ويبادلها نفس المشاعر وهو لا يدرى.
“العبد إذا تخلق ثم يحقق، ثم جذب، اضمحلت ذاته، وذهبت صفاته، وتخلص من السوى، فعند ذلك تلوح له بروق بالحق بالحق، فيطلع على كل شيء، ويرى الله عند كل شيء، وهذا أول المقامات.”
سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، نادت بعلو صوتها: ادخل الباب مفتوح.
دخلت أم جابر وهى تحمل على رأسها قفة كبيرة مليئة بخيرات كثيرة جبن وزبد وعيش مرحرح. نظرت هند تجاهها وضحكت: كنتى فين يا وليه اليومين اللى فاتو؟
اقتربت أم جابر، وجلست على الأرض أمامها: كنت فى مولد السيدة زينب ، الست أم هاشم .
ضحكت هند، وهبدت أم جابر على كتفها بقوة: يا وليه يا خرفانه. مش ناوية تبطلى موالد. بقيتى عضمه كبيره. مسحت أم جابر وجهها بطرف طرحتها وهى تضحك: يوه يا ست. اللى فيه داء ما يبطلوش. واللى خلق الخلق. أنا كنت فى الحمام. ولا كان على بالى مولد ولا دياوله. ما حسيت إلا باللى بيشلنى هيلا بيلا، ويرمينى قدام المقام. رحت لقيت المخفى عليش، وعماته قاعدين بيتغدوا سمك. وأول ماشافونى، نزلوا هات يا ضحك كركركر. ضحكت، وقلت لهم: مالك يا مفضوحه انتى وهى، بتضحكوا على إيه؟ قالوا: أصل يا خاله لو كنا طلبنا ألف جنيه ، ماكنش جه، إحنا لسه بنقول: يا أم هاشم ابعتيها، بصينا لقيناكى قدمنا. ضحكت أم جابر وأخذت تضرب كفا بكف.- والله ياست هند أنا كنت بعمل زى الناس، ولسه ماخلصتش، لقيت اللى بيشلنى ويهبدنى على الأرض.
أطفأت هند الوابور وصبت الشاى فى كوبين ومدت يدها بكوب منهما لأم جابر، وهى تضحك. يا عنى يا وليه، عايزانى أصدق أن السيده زينب شالتك هيلا بيلا ورمتك عندها.
– وحياتك حصل، ولا روحى تطلع.
– طلعت روحك يا وليه، تسيبى العيال لوحدهم يومين، وتسرحى فى الموالد زى الكلبه، وسحبه مرات ابنك وراكى، والواد والبت لوحدهم فى البيت. البت حاضت يا مرة، اركزى، واعقلى.
ضحكت أم جابر، وأخذت تهبد بيديها على صدرها مرة ، وعلى الأرض مرة غير مصدقة، ثم قامت واقفة، وملأت البيت بالزغاريد والرقص كأن بها مس.
– والنبى حصل يا ست ؟ يا مشالله يا مشالله . والله كبرنا وادورنا ، وخراط البنات خراطنا.
نظرت هند إلى أم جابر نظرة غاضبة ، أوقعتها على الأرض من كثرة الرقص ، ثم صمتت على إثرها ، وهى تدارى فمها بيدها، وتصنعت أنها تشرب من كوب الشاى، وهى تتمتم ببعض الأدعية والتعاويذ، ثم قراءة المعوذتين والفاتحة والصمدية. نظرت هند إليها متفحصة. يا وليه البت إمبارح جاتنى معيطه ، ومش عارفه مالها ، ولما سألتها؛ قعدت تلف وتدور، وبعدين حكت لى إنها لقت دم فى الكيلوت. دون أن تنظر أم جابر تجاه هند، لشعورها بالخزى، والتقصير، قالت فى أدب وهدوء: نور أخت على. وهو بيخاف عليها زى عينيه.
– والشيطان، يا أم أربعه وأربعين.
– إن كنتى خايفه عليها، خليها عندك. جحا أولى بلحم توره.
هبدت هند أم جابر على رأسها بقوة وعنف صارخة فيها. يا مجنونه. أخدها أزاى ، وهى عارفه إن على أخوها : وجابر أبوها وسمره أمها، وانتى سبب المصايب. يومها قلت لك سيبى سورتها تموت. قلتى حرام، ورحتى حطتيها جنب مرات ابنك وقلتى جابت توءم. مع إن الواد أسود. والبت بيضه ، وشعرها أصفر. أرجع أخدها إزاى . مسحت أم جابر دموع عينيها، وبصوت حزين وضعيف: خير تعمل، شرتلاقى، ربنا أمر بالستر. وانا سترت عليكى، ودى بنتك من دمك.
– دم أما يلهفك. قومى صحيها وخديها معاكى. واوعى تسيبيها تانى، ماطرح ماتروحى خديها، فاهمه. – حاضر. أى أوامر تانى. مدت هند يدها بالكوبين وقالت بغضب: اغسلى دوول.
انصرفت أم جابر تجاه المطبخ، وهى تمسح دموعها التى نزلت على خديها ، وهى تردد بصوت ضعيف: اتحكموا فينا ياللى مالكتونا.. إحنا العبود وانتو اشترتونا.
صاحت هند صارخة بحدة وعنف : إيه يا أم قويق .
رفعت أم جابر صوتها. وأخذت تنادى : يا نور. يا نورى. اصحى يا عين ستك. جبتلك غوايش وحلق من عند الست أم هاشم. قومى يا عينى قومى. ثم أخذت ترقص، وتصفق بيديها وتغني :
البت قالت لأبوها ولا اختشت منه
توب الحيا داب والنهد بان منه
والزرع اللى بحري البلد طاب.. عجل عليه لمه
لطير الظنايا يقطعوا النوار منه… ويعولوك همه.
يا نور، يا نوري ، قومي يا عين ستك، قومي يا قمر.عملت لك كوباية كركادية سخن ، يحمر خدود الصبايا، الصبايا الملاح، اللى أدورو، ونورو، وبقوا عرايس :
قاله رمانك طاب يا بدر
قولى الرطل منه بإيه
قاله أنت عيان ولا دهشان ولا إيه
يا خي قولي ربع الوقية بإيه
قاله ده شىء غالي
ملفوف في ورق ومخالي
لما أنت خالي وأصل أبوك خالي
تلوم على المبالي ليه.
ثم دخلت حجرة نور وهى مازالت تغني وترقص والكوب في يدها. ونورجالسة على السرير صامتة وخائفة. نور يا عين ستك، ونن عينيها من جوه. كبرتى يا نواره، وبقيتى عروسه. ألقت نور بكامل ثقلها على صدر جدتها وأخذت تبكي: كدا يا جده تسيبيني لوحدى أنا وعلي، وفضلنا نعيط أنا وهو. يا حبة قلبي ونن العين، سماح يا نواره. الست أم هاشم نادتني، وأنت عارفه، مقدرش.. ألست كرامها زايد وفايض ، شوفي يا نوري جبت لك إيه غوايش نايلون، وحلق بدلايه، وخلخال فضة. وبكرة أجيب لك حاجات حلوه كتير، دانا هاشورك، شوار من الغالي. حرير في حرير، ودهب بندقي، وكل الحاجات لست البنات. خدي يا نور، خدى أشربي . أخذت نور الكوب من جدتها وأخذت تشرب في بطء .
وأم جابر تملس بيديها على رأسها وهي تقرأ عليها بعض الأدعية : سبحانه الشافي العافي . الأولة باسم الله ، والثانية باسم الله ، والتالتة لا حول ولا قوة إلى بالله.
ثم أمسكت ورقة من النتيجة المجاورة للسرير وصنعت منها عروسة ، وأخذت إبرة من رأسها وأخذت تثقب الورقة وهى تردد : من عيني. ومن عيني الست هند والست ناهد وعين علي، وسمره، وجابر. وكل اللي شافوكي، ورأوكي، ولا صلوش على الحبيب النبي. ثم قامت واقفة ، ودخلت المطبخ، وأحرقت العروسه وعادت مسرعه، تلقي بالرماد على الأرض، وتدوسه بكعب قدمها اليسرى، وهى تبصق: روحي يا عين، روحي يا عين. ثم صنعت بالرماد صليب على قورة نور.
صرخت هند من الخارج عندما شمت رائحة النار: أنت يا وليه يا خرفانه، يا بتاعة الموالد بطلي خرافات بقي. خرجت أم جابر وفى يدها نور. خرفات إيه يا ست، صلى على النبي. العين فلقت الحجر. أنا هاحسد نور يا أم جهل .
يوه بقي ، ما يحسد المال إلا أصحابه. صلي على النبي صلي. عليه الصلاة والسلام. يا أم قويق .أخذت أم جابر نور في يديها، وسارت بها من الزمالك إلى بولاق، وهى مازالت تغني مرة، وترقص مرة، وتقرأ قصار السور، وعندما تصادف أحدا في الطريق تبسمل وتقول: روحي يا عين روحي.. وتغني :
لولاك يا حلو لولاك .. لم كنا جينا هنا لولاك
يا مورد الخدين .. سبونا العدا وياك
والله ما تيجي يا جميل .. لقعدك قعدة السطان ع الكرسي
وازمزم الكاس وأسقيك من جلاب تونس .. يا أعز من نور عيني
سلامات.
عبرت أم جابر الكوبرى وهي في كامل نشوتها، وحيويتها، ثم أقتربت من ضريح السلطان وملست على بابة المغلق: والنبي يا سلطان، احميها، وأحرسها ، زي ما حرست أمها، وحامتها من الشيخ سيد، أنا سايقه عليك حبيبك المصطفى والست أم هاشم رئيسه الديوان والأقطاب الأربعه: السيد البدوي،والدسوقي، وأبو الحجاج والقناوي، تحميها، وتخليها وحياة الحسن والحسين تحرسها .
منذ هذه الليلة. ليلة اكتشاف حيض نور. أصبحت هند شخصية حادة ، تصرخ بأعلى صوتها، لأقل خطأ تفعله أم جابر، ولو دون قصد. وقدمت على طلب إجازة، حتى تستريح، وقررت فى داخل نفسها، أن تذهب إلى طبيب نفسانى، كى يعطيها بعض المهدئات.
وبعد أن نصحتها ناهد بأن تظل نور تحت عينيها، وتبقيها معها فى البيت بأى حجة تراها، ومنذ ذلك اليوم، بقيت نور تضىء حياة هند بشكل آخر.شكل جديد لم تتعود عليه ، أصبحت البهجة تحيط بالمكان، وكأن نورا سقط فوقه، وشعرت هند تجاهها بمشاعر أم حقيقية، ظلت تخفيها لسنوات طويلة. وتحدثت مع ناهد بأنها سوف تتبنى البنت، وتكتب نصف ميراثها لها، وربما يكون مناصفة بينها وبين على.جاءت نور من الحجرة، وهى تفرد ذراعيها، وألقت بنفسها فى حجر هند وهى تصيح : صباح الخير يا ميس. ضمتها هند إلى صدرها بحب وقالت: صباحالخير يا نور. وأخذت تملس على شعرها الأصفر الجميل، وهى تهدهدها : نمتى كويس.
هزت نور رأسها وقالت بأدب : أيوه يا ميس.
أخذت هند تقلب كوب الشاى بهدوء وبطء وهى تنظر إلى الخارج شاردة ، وتحاول أن تتفادى نظرات نور التى تتأملها جيداً.. بنظرة جديدة عليها. قالت هند بصوت ناعم : إيه رأيك يا نور لو تعيشى معايا هنا؟ ضحكت نور فرحة، وعينيها تشرقان: أنا ياميس.
– نعم.
– أعيش هنا.
– نعم.
– وأقولك يا ست. واخدمك زى ستى.
– لأ.
لم تنتبه هند لحدة الرفض التى صدرت منها، فعادت بنظرها إلى نورضاحكة.
– بلاش ست. قوليلى يا ماما.
أخذت نور تضم هند إلى صدرها الصغير بقوة وحب غير مصدقة.
– صحيح يا ميس.
– بلاش ميس. قوليلى يا ماما.
– حاضر.
مدت هند يدها على رأس ابنتها بتحنان وحب وأخذت تملس على شعرهاالمنسدل وهى تحاول بقدر طاقتها كبح مشاعر الأمومة التى طفت فجأة وبقوة من قلبها ولكن غلبها الشوق، فأخذت نور بين ذراعيها وضمتها بقوة وعمق غير متناهية وهى تبكى، بصوت مسموع وتقبل رأسها. يا حبيبتى سامحينى. اقتربت أم جابر وهى تتصنع الشجاعة والقوة وتمسح دموعها : ياللا يا نور.الحمام جاهز.ثم أخذت البنت من يدها.صرخت هند زاعقة.- يا وليه ياخرفانه. البنت كبرت. روحى يا نور الحمام لوحدك.قامت نور وهى فرحة متجهة إلى الحمام، ثم عادت وقبلت رأس هند.- حاضر ياماما. أنا بحبك قوى. ثم انصرفت.
جلست أم جابر على الأرض أمام هند كعادتها وهى تتأمل الوجه الجديد الهادئ، والمشاعر الجديدة الطافية بنبل وقوة ، ثم قالت بهدوء: وأخرتها يا بنت سيدى. دون أن تنظر هند تجاهها.
– ولا حاجة يا أم جابر، اوعى تقولى لحد حاجه.
– أنا فاهمه يا ست.
– خصوصاً جابر وسمره.
– وعلى.
– وعلى.
**********************************
هذا ما كانت تريده هند !

كل ما كانت هند تريده من أم عسلية هو أن تحكى لها تاريخاً مختلفاً لم تعشه هند، تاريخاً عن الزمن الآنى. بعيداً ومختلفاً عن جنون أم جابر بالموالد والأولياء والحكايات والدراويش والسيد البدوى والسلطان وأم هاشم وآل البيت. حكايات عن الشياطين الجدد، والعفاريت التى سكنت بولاق الآن، بعد أن هجرها أهلها الناس القدامى الأصليين وسكنها الهاموش كما كانت تسميهم أم جابر. أم عسلية امرأة نقيضة أم جابر تماماً. لا تهتم بكرامات الأولياء، ولا قصص الصديقين وأهل الخطوة. ولكن كل ما كانت تهتم به هو العالم السفلى للجان والعفاريت الذين ظهروا فجأة فوق سطح الأرض وملأوا الشوارع والأسواق. وكيف تحافظ على مكان جلوسها فى شارع السكة الجديدة أمام دكان. زكى السماك ولكى لا يحتل أحد مكانها، كانت تستيقظ مبكراً، تفرش الأرض بالخضار الطازج. مشنة الفجل والجرجير، وعلى الضحى تأتى إليها ابنتها فاطنه الشرشوحه وهى تجر خلفها طابورا طويلا من الشياطين أولادها، والذين كانت تستغيث منهم بولاق جميعاً، رغم صغر سنهم. تربعت أم عسلية وجلست أمام الدكان، وأخذت تنادى بصوتها الرنان : الورور.. وراور يا فجل وزغاليل.
يتقدم منها أول المستفتحين الأستاذ أبو الحجاج ، يشترى منها حزمتين من الفجل وهو يصر دائماً على سؤالها : ورور يا أم عسليه ؟
ترد هى عليه بصوتها الذى به غنجة خفيفة : ورور يا بيه .
ثم تأخذ منه العشرة قروش وتقبلها وهى تردد بغنج أكبر : صباحك قشطة ياسى الأستاذ .
ينصرف أبو الحجاج ، وتتبعه أم عسلية بندائها المعتاد : الورور، الحمام.
ثم يسير بضع خطوات ، ويعبر الطريق ، ويفتح باب المدرسة ويدخل . وعندما يراه بعض المدرسين الخبثاء ، ينطلقون فى صيحة واحدة : الورور. ثم يكتمون الضحك. يلقى عليهم نظرة ثاقبة ثم يردد : موتوا بغيظكم . ويدخل المكتب، يلقى حزمتى الفجل فى الدرج ثم يغلقة بالمفتاح جيداً. يخرج من المكتب، يأمر الفراش أن يغلق الباب ويضرب جرس المدرسة ، ثم يأخذ دفتر الحضور والانصراف يغلق عليه الدرج ، ثم يخرج دفتر التأخيرات ويضعه أمامه على المكتب. كان شباك حجرة المكتب يطل على الشارع العمومى، والشباك الآخر يطل على حوش المدرسة، فهو من ناحية يتابع سير العربات فى الشارع، ومن ناحية أخرى يتابع سير الطابور والنظام. يأتى بعض المدرسين، يقفون على الباب ، يتراكم عددهم، يقفون لحظات طويلة، يتصنع هو أنه يبحث عن المفتاح، ثم ينادى بعلو صوته: يا كركر، افتح الباب.
يتقدم كركر أقدم فراش فى المدرسة يفتح الباب وهو يردد: يالله يا كركور انت وهو.. كركر. كركر الدفتر.
ثم يغلق الباب، ويعود يعطى المفتاح للناظر وهو يحدثه : خلاص كركرنا الباب والكراكير جم.
يضحك أبو الحجاج بملء فيه وهو منشرح الصدر لأن الجميع وقع فى دفتر التأخيرات، ثم يرجع بظهره للخلف ويردد: لسه يا عم كركر. الأستاذة ناهد.
يضحك كركر، ويخبط كفا بكف وهو يفهم مغزى ونظرات الناظر: والله يا كركور…ثم ينظر من الشباك يرى ناهد قادمة تجرى فى سرعة ووراءها التوءم محمد ومحمود، ثم تهبد بيديها على الباب وهى تنادى : افتح الباب يا كركر.
يغمز له أبو الحجاج أن يتلكع لبضع دقائق قبل أن يفتح ، يتصنع أنه يبحث عن المفتاح. ثم يتقدم كركر ببطء ويفتح.
تنهره ناهد منفعلة : كدا يا عم كركر. أهو زمان عمك ورور طلع دفتر التأخيرات.
يضحك كركر وهو يحاول زم شفتيه. – ما أنتَ يا كركور اتأخرت. والكراكير كركروا من بدرى. وكركر طلع الدفتر. ادخل يا كركور انتَ وهو.
تدخل ناهد المكتب مرتبكة ومنفعلة وهى تنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط وتمسك القلم وتمضى : ياربى الساعة تمانيه.
ينظر إليها أبو الحجاج متفحصاً بنظرات غاضبة ثم يأخذ الدفتر من يدها ويدون ساعة الحضور وهو يوجه لها لوما شديدا : الطابور مهم ، من صميم العمل. ولا ناموسيتك كانت كحلى .
تضحك ناهد فهى تفهم مغزى حديثه وغرضه : لأ. كانت بنفسجى . ثم تتقدم نحو الباب لتخرج، ثم تدخل رأسها : ولا أقولك كانت بمبى. ثم تواصل ضحكاتها، وتنصرف، تذهب إلى الطابور، وتقف إلى جوار هند.
– صباح الخير يا هند.
– صباح النور. مالك؟
– كالعادة عمك ورور هبدنى تأخير على الصبح.
تضع هند يدها فى يد ناهد وتضغط عليها : ولا يهمك. دلوقتى يشيل التأخير، ويمضى لك فى الدفتر، هو بس بيحب يناغشك.
تضحك ناهد وهى تفتح الشنطة: ناغشه قرد. هو فاكرنى إيه بابيع ورور ؟.
تنفجر هند فى الضحك، وترى أمامها الناظر، واقفاً فى يده العصا وينهر الأطفال على التأخير. تخرج ناهد منديلاً تمسح وجهها ويديها.
– شفتى أهو هايطلع غلبه فى العيال.
– ولا يهمك. سبيه يطق.
ثم تنصرفان كل منهما إلى فصلها، ويظل هو واقفاً، بعد انصراف الطابور، يخرج الخرطوم من دورة المياه ويرش الحوش، ويسقى الزرع. والفراشون وراءه يكنسون وينظفون دورات المياه. يتقدم الفراش كركر ويقترب منه.
– خلاص يا كركر.. كركرنا الحمام.. وعايزين نكركر العيال.
يضحك أبو الحجاج فهو يفهم ما يريد، يهز رأسه موافقاً.
يرفع الفراش صندوق الحلوى على كتفه، ويتقدم نحو الفصول وهو ينادى: ياللا يا كراكير.. كركر جه. يدخل فصل ناهد أولاً. يدفع الباب دون إذن، يضع صندوق الحلوى على الدرج.
– ياللا يا كركور.. قبل ما نكركر.
تستدير ناهد ناحيته صارخة. يا عم كركر. هو احنا لسه قلنا يا فتاح يا عليم. استنا لما آخد الغياب.
يقفز التلاميذ فوق الأدراج مهرلوين ناحية صندوق الحلوى ، صائحين : هات يا عم كركر.
– وانا يا عم كركر.
– وانا .
يحدث هرج وفوضى داخل الفصل. يدخل الناظر صائحاً.
تقف ناهد صامتة.. ثم تصرخ فى الأولاد كى ينصرفوا.
ينسحب كركر خارجاً فى هدوء ، وهو يحمل صندوق الحلوى . يمسك أبو الحجاج القلم ويمضى فى دفتر التحضير، ثم يقف على الباب لحظات. وقبل أن يخرج : اسمعى يا أبلة عندك لفت نظر.
تغضب ناهد، وتلقى بالطباشير على الأرض ، ثم تجلس على الكرسى غاضبة، يتحلق الأطفال حولها باكين: آسفين يا ميس. معلش.
ينصرف أبو الحجاج مبهوراً بانتصاره، واستفزازها.
يمر كركر من أمام باب فصل هند ولا يدخله ، يدخل الفصل المجاوروينادى.
– ياللا ياكركور، قبل ما نكركر.
يصيح الصغار زاعقين، مهللين.
– هيه عم كركر جه.
– عم كركر هات عسليه.
يمر أبو الحجاج من أمام الفصل ولا يدخل، ثم يذهب إلى مكتبه. فى التاسعة تماماً يدخل . عسلية صبى الكشك المجاور للمدرسة حاملاً كوباً كبيراً من الشاى باللبن ويضعه أمام الناظر: أى خدمة تانى يا باشا. يشير له أبو الحجاج أن ينصرف، ولكنه يناديه ثانية: يا عسلية. أنتَ يا زفت. يعود عسليه مسرعاً فى خفة : أيوه يا بيه.
– اوعى حسك عينك ، أشوفك مدخل شاى للمدرسين. فاهم.
يمسح عسليه على رأسه وهو يبتسم: عيب يا بيه. لا ممكن أبداً. حضرتك وبس.
– عال.
ينصرف عسلية وهو يغنى ويصفر ويخبط بيديه على الصينية نقرات منتظمة.
عجبي على حتة حليوه
في أيدها اليمين خاتم
طلبت منها الوصال
قالت يا جدع رب العباد خاتم
وإذا كان بدك في يا جميل
روح لأبويا بحري البلد حاكم
وعدله المهر على كفه وتعالى
نطير الدم اللي ليه زمان خاتم.
يصطدم وهو خارجا بأم جابر، يوقفها قليلا، ثم يضحك : فكرتى يا أم جابر..أجيب الشبكة لنور وأجي أمتى؟ هبدته أم جابر على كتفه وهى تضحك: لما تكبر يا نونو. وأمك تبطل تبيع الفجل … الورور. يغتاظ عسلية ويخرج من الباب مزمجرا.
تبصق أم جابر وراءه، وهى تضحك: جر يا نخنوخ على أمك، قال نور قال. دى ست العرايس. دى بنت الأكابر، يا ورور.. ثم تصطدم بناهد.. وتناديها.. ياست ناهد يا أستاذه.
تدخل ناهد المكتب غاضبة : يا عنى بتحلله لنفسك ، وتحرمه على الناس. ثم تأخذ كوب الشاي باللبن من يده وتشرب منه: راسى وجعانى.
فهو يعرف مغزى هذا الحوار ويقدره تماماً. ثم يقول بمكر: وافقى وانا افتحلك قهوة يا جميل.
– وتشيل التأخير.
– ونشطب الغياب كمان، ولا يهمك يا قمر.
– ولفت النظر.
– طظ. يا عنى هو تحقيق.
– والعيال محمد ومحمود.
– فى نن العين، بس انتَ شاور وقول حاضر.
– والفجل يا ورور
– فجل مين، دا حتى دبلان. انتى مزرعة قلبى.
تهبد ناهد على الدرج بكل قوتها وتصيح : يا راجل، يا خرفان، ياللى ماعندك دم. أنا الأستاذة ناهد وأخت الباشا أنور مأمور القسم، وخالي وعمي وجدي. سلالة بشوات وجدي البشتيلي أتساوى بام عسليه، بياعة الورور.
ينتفض أبو الحجاج، وهو يرى بعض العيون قد نظرت نحوهما، وكركر قادماً بصندوقه الملىء بالحلوى وهو يصيح بصوت مرتفع : خلاص كركرت. ثم يضع كيساً مليئاً بالنقود على المكتب.تقبض ناهد على الكيس وهى تصرخ : والله ممكن أوديك فى داهيه. بتبيع عسلية فى المدرسة يا ناظر.ثم أخذت تهلل وتصيح إلى أن تجمع بعض المدرسين فى المكتب.
فتح أبو الحجاج الدرج بسرعة وأخرج حزمتى الفجل من الدرج ووضعهما أمامه، ثم أخرج ورقة وقلماً وأخذ يكتب.
س: لماذا يا أبله تقومين ببيع الحلويات فى الفصل؟
ج:…..
س: لماذا خرج التلميذ من الفصل؟
ج:…..
ملحوظة .. تم ضبط حزمتين من الفجل فى يد التلميذ، وكوب شاى باللبن فى يد المعلمة أثناء الشرح داخل الفصل.
س: لماذا تأخرت اليوم عن طابور المدرسة؟
ج: ….
س: لماذا تم تجاوز أيام العارضة؟
ج:….
س: لماذا تركت الفصل دون إذن؟
ج:….
ثم أخذ الفجل ووضعه داخل مظروف كبير وأغلقه، وأخذ بعض الحلوى ووضعها فى مظروف آخر، وأرفقهما بالتحقيق، بعد أن أجاب هو على الأسئلةكاملة. وناهد واقفة مندهشة، وكذلك المدرسين. ثم أمسك القلم ونادى : تعال يا عم إبراهيم أمضى هنا شاهد، أنك شفت الأستاذة ناهد بتبيع حلويات للتلاميذ داخل الفصل. صمت كركر مندهشاً، ثم أمسك القلم ومضى، ثم انصرف صامتاً. وهو يردد بصوت خفيض : منك لله يكركور ، خلتنى أكرر ظلم .
– وانتَ يا أستاذ أنتَ وهو تعالوا أمضوا شاهدين على وقاحة الأبلة، واقتحامها المكتب دون إذن، وخروجها من الفصل، وإن الأبلة كانت ماسكة كيس النقود فى يد، وكوب الشاى باللبن فى اليد الأخرى. انصرف المدرسون منزعجين من أفعاله، مذهولين من هذا التصرف، وتحايله على الموقف وقلبه لصالحه. ووقفت ناهد مندهشة غير مصدقة ما يحدث، ولم تستوعب ما حدث، وهذا الكابوس المحرج الذى وضعت فيه، وضعت كيس النقود على المكتب وانصرفت صامتة غير مصدقة. وهي تحدث نفسها مزهولة.. بقى أنا حفيدة الشيخ مصطفى البشتيلي تاجر الزيوت في بولاق، اللى قوم الثورة، ودوخ الفرنسيين من قنطرة الليمون، للأزبكية، لباب اللوق، للقصر العيني، وقاد الدنيا نار.أجوز بتاع الورور ده.على رأيك يا شيخ سيد درويش: عشنا وشوفنا. واللى يعيش يشوف العجب. ثم سارت مزهولة تحدث نفسها في الشارع، وتركت المدرسة والأولاد، والشنطة وأم جابر تجري وراءها فى الشارع : يا ست ناهد ، يا ست. الست هند بتنده عليكي.
ثم أشارت لها ناهد بيدها أن تعود.. ثم سارت هي بمفردها، في الشوارع القديمة تشم رائحة البارود والثوار وهم ينظمون الصفوف ويقيمون المصانع لصنع البارود، وأن بيتهم في شارع الفرنساوي كان محزنا للبارود كما حكى لها جدها لأبيها بعد ذلك بسنوات كثيرة .
يقول الجبرتي:
” بدأت الثورة في حي بولاق، فإنها قامت على ساق واحد، وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله من دعاة الثورة وهيجوا العامة وهيئوا عصيهم وأسلحتهم.
ويقول الجبرتي: أن الفرنسيين اعتقلوه قبل الثورة بعدة شهور، لما بلغهم أن بوكالته قدورا مملوءة بارود.
ففتشوا الوكالة ووجدوا البارود في القدور، فضبطوها واعتقلوه.. ثم خرج ووضع يده في يد الشيخ المحروقي والشيخ السادات ضد الفرنسيين “.
أخذت الدموع تنهمر من عيني ناهد، وهى مازالت تسير في الشوارع، إلى أن وصلت إلى الفرنساوي، وظلت واقفة، كأنها تنادي على جدها كي تحك له ما يحدث الآن.. وهى غير مصدقة. ثم أنتبهت على يد توضع على كتفها وتناديها: كدا يا ناهد أجرى وراكي المشوار ده كله وأنده عليكي ما ترديش عليا .
استدارت ناهد وألقت بنفهسا في حضن هند، وهي تبكي : شفتي يا بنت خالي،على أخرة الزمن. واحد لا نعرف أصله ولا فصله، لكن رب العباد شاء أنه يكون ناظر علينا، وإحنا أولاد الحسب والنسب والأصول نتبهدل. ضمتها هند بقوة إلى صدرها : يا حبيبتي الأصول تاهت..
وده مش زمن جدك البشتيلي ، ولا زمن جدى اللى سافر في أول بعثة لمحمد علي مع رفاعة الطهطاوي وغيره.. ده زمن عديم اللون والطعم والرائحة.
أخذت هند بيد ناهد وصعدت سلم البيت. ثم دخلتا حجرة الضيوف، وأخذتا تتأملين معا صورالأجداد، ويعدن الذكريات والزمن القديم. فاكرة يا هند الصور دي.
واحنا صغيرين كنا نقعد نحكي ونضحك، وأمى الله يرحمها تحكي لنا حكايات عن جدها البشتيلي الكبير. وكان أخويا مصطفى وأنور يضحكوا مع أخوكي ويهزروا.. تاريخ عائلة البشتيلي يتحدث. وأنت تغضبي لما أمي تاخد منك الصور وتقطعها، فاكرك يا هند الزمن ده ممكن يرجع تاني. يا حبيبتي كل زمن وله تاريخه وحكاياته.
فاكرة لما دخلنا تحت السرير وطلعنا الصندوق وقعدنا نقرا جوابات وورق كتير. وأنا يومها خدت جواب كان كلامه عجبني بس مكنتش فاهمه معناه..
استنى الجواب لسه شيلاه لحد دلوقتي في السحارة، نفس الصندوق يا هند.. حاطة فيه قفطان أبويا وبرقع أمي، وأول بدلة لبسها أخويا أنور لما بقى ظابط.
غابت ناهد قليلا، ثم عادت بالصندوق، وأخذت تفتحه بهدوء، وهي تملأ رئتيها برائحة التاريخ والحب.
من محمد مظهر.إلى صديقه…
عندما نزلت في مرسيليا ظهر لي جملة مناظر لم أرها من قبل،أولها جمال المباني مع علوها الشاهق ثم الشوارع المرصوفة مع إتساعها، واستقامتها ثم إني سمعت جلبه لم أسمع مثلها ،ورأيت بعد ذلك عربات تجرها الجياد وهي أول مرة في حياتي أرى فيهاهذا المنظر. وكانت تلك العربات لا ينقطع مرورها في الشوارع .. وقد أستولت على الدهشة عندما وقع بصري على السيدات الفرنسيات وقد سفرن بحرية بأزيائهن الجميلة في الشوارع والميادين والمتنزهات، الأمر الذي تأباه عادتنا وشرائع بلادنا.
طوت ناهد الجواب بعد أن قرأته ، ثم قبلته ووضعته في حضنها .. عارفة يا هند نفسي الزمن ده يرجع تاني.. زمن محمد على، والخديوي إسماعيل ، والملك فاروق. هبدتها هند على رأسها بقوة.. أنت مجنونة .. هو علشان واحد حمار، نضيع أمة. بكت ناهد ووضعت ييدها على وجهها. ماهو حرام.. دا ظلم، أنا بعمل اللي هو قاله ده. بيبع عسلية للعيال وبشتري فجل.. ناقص يقول أن أنا.. استغفر الله العظيم. يا ناهد… إن احتمال الظلم رضاء بقضاء الله… وعقابه للمظلوم على سوء ماقدمت يداه.
لماذا الخصومة والإنسان لايملك في دنياه كثيرا ولا قليلا…؟ هند.. مالك يا بنت خالي؟
إن الظالم لايقدم على ظلم أحد من الناس إلا وهو في غفلة عن ربه، ولو أنه كان في يقظه لعرف أن الله يراه، وأنه يظلم أحد عباد الله.
هند… أنا خايفة عليكي .. مالك.. إيه جرى لكل ده .. أنا خلاص مش زعلانه.. ويغور في دايه هو والتحقيق.. مش التحقيق والظلم من أبي الحجاج.إمبارح حصل في شارع محمد مظهر بالزمالك حادث مروع، شنيع، يقف له شعر الرأس.أيمن السويدي، قتل المغنية ذكرى بستين طلقة، وقتل المساعد بتاعه ومراته، وبعدين قتل نفسه. حادث لاعيني شافت ولا قلب رأي زيه، أنا سمعت الطلقات،وأنا في القصر، أفتكرت فيه مناورة، ولا الحرب قامت.
يا لهوي ستين طلقه، ليه كانت قلعه، ولا ترسانه عايز يقتحمها.
شفتي بقى إن ظلم أبو الحجاج لا يذكر.
دخلت أم جابر وهى تلهث وفى يدها جميع الجرائد التى صدرت في ذلك اليوم، ثم ألقت بهم على المنضدة: أنا رحت الزمالك، الدنيا مقلوبة. يا ريت نفضل هنا النهارده، وعلى ونور، ومحمد محمود جاين ورايا. فتحت هند وناهد الجرائد وأخذت كل منهما تقرأ في دهشة واستغراب.حادث مقتل الفنانة ذكرى.
رأت هند فيما يرى النائم. قلب حمزة مفتوحاً، وهى داخله تبكى بحرقة وانهيار. وعندما تحققت من صورتها جيداً. أغلق حمزة قلبه وضمها إلى صدره بقوة، وقال لها: أحبك.
نامت هند ليلتين كاملتين، بعد أربعة عشر عاماً على فراقهما. فى اليوم الذى توفى فيه حمزة، وقبل الحادث بدقائق. قالت له هند: لقد أوجعت قلبى يا حمزة. ضحك غير مصدق، وغير مبال، وضمها لصدره، فقالت له: لماذا تضمنى هكذا بعنف. قال: وانتى معى أنسى ما حولى.
وقبل أن تمد يدها، وتفتح الباب، أخرجت من شنطتها سلسلة مفاتيح ذهبية، ومدت يدها فى ود، وأعطتها له: كل سنة وانتَ طيب. قال مستغرباً: ما هذا؟
دون أن تلتفت نحوه، فتحت باب العربة بسرعة، ونزلت حاملة شنطتها فى يدها، وبعض الكراسات وتركته مكانه. ناداها: يا هند.. هند.
لم تلتفت وراءها، وتركته، وسارت مبتعدة. أدار هو العربة بقوة وعنف، وهو يحاول صعود الرصيف كى يعبر إلى الجانب الآخر وراءها. أخذت تنظر بعينيها بعيداً، وهى تحاول أن تدارى دموعها. وحمزة الناس حوله غير مصدقين ما حدث.
اليوم هند رأته ثانية. نفس المشهد، نفس المكان. هو يحاول اللحاق بها، ويعبر الشارع. وهى تمسح دموعها مبتعدة. ولكن قلبه خرج وراءها، وصار يناديها. يا هند.. هند.
لم تلتفت نحوه، ولكن على بعد خطوات، قرب البيت – رأت نور واقفة تبكى، وقلب حمزة فى يدها ينزف دماً طازجاً، وتناديها. يا هند.. هند. استيقظت هند من غفوتها على صوت دق الباب. وأم جابر تهبد بيديها وتصرخ. – يا ست هند.. يا ست هند، افتحى.
قامت هند بسرعة من نومها، وفتحت الباب. دخلت أم جابر وهى تلهث.
– الحقينى يا ست. مصيبة.
الست ناهد فى المستشفى.

****************************

من أين جاءتك كل هذه القسوة يا هند؟وأنتِ توجهين حوارك نحو الجالس أمامك مثل تلميذ بليد، يفرك يديه منتظراً العصا، وهو يحاول إرضاءك بشتى الطرق والوسائل. أغلقتِ عينيك على وجهه، وغضبتِ كثيراً منه، ومن جرأته المتناهية. والنبى يا مس… والنبى أنا آسف. رفعتِ كفك الكبيرة، ونزلت بها على وجهه الصغير بكل قوة وغضب، وفى حدة قاطعة : نور راحت فين يا على؟ وضع يده على وجهه، وأغلق عينيه قليلاً، كى يستحضر وجه نور أمام عينيه. هو الذى لم يرها. ثم قال معاتباً فى أدب: نور أختى. سمعت ناهد صوت هند عالياً وهى تصرخ، وعلى واقفاً يبكى. فخرجت تجرى مسرعة، وفتحت ذراعيها وأخذت على بين أحضانها: على.. على معلش يا حبيبى.
اقترب على أكثر من حضنها، وهو يكاد أن يطير. – والنبى يا ميس ناهد. قولى لميس هند مش أنا السبب. مش أنا السبب. نظرت هند نظرة قاسية تجاهه، ثم قالت وهى تبتعد بوجهها عنه. – مش كفاية كدا. انكسف على وأغمض عينيه بخجل: أنا آسف يا ميس.
تأخذ ناهد على من يده، وتأخذ هند باليد الأخرى: سامحيه يا هند. قدر ولطف. على كان هايضحى بحياته عشان نور. السواق هو السبب. كان بيعدى بالعربية، وطلع على الرصيف.
قبل على يد هند وخرج من الحجرة وهو يبكى. وناهد تجرى وراءه: تعال يا على، تعال يا حبيبى. ثم أخذته من يده، وسارا فى طرقة طويلة إلى أن وصلا إلى حجرة نور.
جرى على نحوها، وهى راقدة على السرير، وأخذ وجهها بين كفيه، وظل يقبلها بحب وشوق : ازيك يا نور. ازيك يا نورى. وحشتينى. تفتح نور عينيها بهدوء وهى تبكى.
– كدا يا على تسيبنى لوحدى. كنت هاموت. كنت فين يا على وانا بدور عليك.
دخلت هند الحجرة، وفتحت الشباك، ثم أخذت تنظر إلى الشارع والعربات المسرعة. وقف على إلى جوارها : والله يا ميس، هى اللى سابت إيدى وجريت بسرعة.
تردد هند بصوت فيه أمر وشدة، ثم بنعومة قليلة: خلاص يا على.. قدر ولطف. أختك نور هاتفضل هنا يومين. إيه رأيك؟ أبقى تعال فى أى وقت. يصمت على وينظر تجاه الأرض.
ثم تكمل هند حديثها الجاف الذى لم يتعود على عليه من قبل، فهو يعلم أنها تحبه وتعطف عليه، ولا تفرق بينه وبين نور. خلاص يا ميس أنا آسف. مدت هند يدها على رأسه، ثم أخذته بين أحضانها فى صمت، وقبلت رأسه بود. – لما تحب تشوف يا على، نور، أبقى تعال.
خرج على حزيناً، وهو يشعر بشىء ما فقده. خرج يجر أذيال الخيبة، وهو الذى يتمنى عودة نور معه إلى بيتهما، يلعبان معاً، ويصنعان مشنقة يضع على رأسه داخلها، ثم تأتى نور على حصانها الخشبى، تقطع الحبل بطرف سيفها المسطرة. وتخطفه على الحصان، وتهرب به. مثلما فعلت فاطمة أم على الزيبق فى الحكاية. ثم يحملها على بين ذراعيه، ويدور بها على السطح، ويغنى لها أغانيه الجميلة.
– نور يا نورى.. يا قلب بنورى.. وسنه لولى .
وهى تضحك، تضحك، وتمسك رأسه بين صدرها وتضمها بقوة، وتغنى له.
– كنت فين يا على وأمك بتدور عليك. وينام إلى جوارها، ساهراً، حارساً لها، وخائفاً عليها.
عند الباب وقف على قليلاً ثم أخرج من جيبه لفافة صغيرة، بها بعض الحلوى، ودخل منادياً: يا نور. حلاوة من عم كركر. العسلية اللى انتى بتحبيها .ثم جرى نحوها بسرعة.
أخذت ناهد اللفة من يده وقبلته على خده. تركها ثم هبط السلم سريعاً. وقد أدرك الآن أن شيئاً جديداً ينبض داخله، شيئاً مختلفاً عما كان يكنه لنور من قبل. وأدرك كذلك معنى الحرمان.
جلست أم جابر على الأرض وهى تبكى. مدت ناهد يدها باللفة وقالت: خليها معاكى لما نور تصحى. أخذتها أم جابر، ووضعتها داخل صدرها. صحت نور من نومها، بعد إغفاءة طويلة، وأخذت تنادى : على.. يا على.
فرحت أم جابر، وأخذت تزغرد، ثم قامت من مكانها، وهى تجرى نحو السرير، وألقت بلفَّة الحلوى على صدر نور. وقفت ناهد، وأخذت اللفَّة وفتحتها بيدها، وهى تنادى: نور يا نورى.. يا قلب بنورى. وسنه لولى، تاخدى حته. ضحكت نور، ومدت يدها، وأخذت قطعة من الحلوى وقضمت فى صمت، وهى تتأمل الوجوه التى حولها.
وتتركنى بين ارتباكى وفرحتى. وخوفى من أن يرانا أحد. هكذا.. متوحدان، جسداً وروحاً.
وتركتنى. كيف لبنتٍ فى الثالثة عشرة، أن تفرق بين الحب وبهجة الانتظار، فى غرفة مظلمة؟
تترك لكَ الباب موارباً. تفتحه وتدخل، بهدوء على أطراف أصابعك، بنسوارتقولها بخفة غيردقيقة فى النطق. كنت تريد الخروج من…؟
جلدك،
من بيئتك،
من لون عينيك،
من جلباب أبيك،
كنت تريد أن تخرجنى من…؛
الدفء وعدم المغامرة.. لى أسباب كثيرة للصمت. ولديك أسباب أكثر للبوح، للمضاجعة، للخوف من أبيك، من عيون الناس، من أمسيات الشتاء الدافئة على السرير وسط براد الشاى، والأيادى الصغيرة تمتد.
– والنبى يا أستاذ فهمنى الكلمة دى؟
– والنبى يا أستاذ يعنى إيه طليطلة؟
– والنبى يا أستاذ بلاش درس بكره. نفسنا نروح الفرح.
تضحك. تغمز بعينيك ناحيتى. – وماله روحوا الفرح.
يفرح الصغار، يصرخون مثل دجاجات خرجت من أعشاشها. – هيه .. هيه.
وتلوك بين أسنانك جملة، ضعيفة. – بس انتى مش هاتروحى الفرح. فيه درس بكره.
وتأمن الأم على كلامك. تواطؤ خفى بينكما. كيف لطفلة فى الثالثة عشرة، أن تدرك معنى الحرية ؟ وكبت الذات، والزيارات؟ كيف لأم تلوك بين أسنانها: وماله !
أن تدرك معنى صدر طفلة ينبض فى فراغات الأسئلة، والحجرة المظلمة ، والصغار فى الفرح .
– بتحبينى؟
– قوى.
– قد إيه؟
– قد الدنيا دى كلها.
– لأ قد عينيا.
– قد عينيك، لإن عينيك حلوة بشكل.
– يا حبيبتى.
مدت ناهد يدها، وأخذت قطعة من الحلوى وأعطتها لهند وهى تتأمل النيل والليل من النافذة. وهى تناديها : لماذا فعلتِ كل ذلك يا هند ؟ لماذا كسرتِ قلب علىى؟
يا راحلا وجميل الصبر يتبعه هل من سبيل إلى لقياك يتفق
ما أنصفتك جفوني وهى دامية ولا وفى لك قلبي وهو يحترق
ما كان لك يا هند أن تنهرى قلب على بهذا الشكل ، وهو الصغير الذى جاء بالحلوى لأخته نور. والتى تقضمين منها الآن بلذة متناهية. مدت ناهد يدها بقطعة أخرى من الحلوى وقالت : خدى يا هند. مدت هند يدها، دون أن تنظر إليها، ومازال مشهد الصغار على السرير أمام عينيها، وصورة الأم وهى تمد يدها بكوب الشاى لحمزة وهو ينظر إلى هند، ويسألها : مالك؟
تغمز الأم بعينيها، وتنظر ناحيتها : هند عيانه.
يمسك حمزة بكوب الشاى ويمده ناحية هند، واليد الأخرى يضعها على قورتها كى يتأكد من حرارة جسدها. تنتفض هند عندما لمستها يده، ثم تزيحها فى سرعة وخفة، وتلم قدميها أسفل الفراش، وتضع رأسها بين فخذيها منكمشة، خائفة أن تنظر إلى عينيه، فتضعف. وتكشف الأم أمرها. يمد يده ثانية، يأخذ يدها ويقبلها فى حنو : ألف سلامة يا هند.
تنظر الأم مغتاظة من هذه الرقة. لقد وصلتها الرسالة، والشفرة العاشقة، ثم قالت غاضبة : إيه مافيش درس النهاردا ؟ يقوم حمزة منتفضاً نحو حجرة المكتب، والصغار خلفه.
ويتركك وحدك على السرير، ومازالت رأسك بين كفيك، وجسدك يرتعش. تمد الأم يدها تملس على رأسك وتتحدث بأسلوب آمر وشرس : أوعى يكون وعدك بالجواز؟
تهزين رأسك نافية. تطمئن الأم، وتبلع ريقها : الحمد لله. مبقاش إلا الغجر اللى نناسبهم. ده مش من توبك ما حد عارف إن كان نقرتي ولا خشنى .
جملة فى البدء لم تدرك معناها يا هند. ولم تعلق على كلام الأم. لكن وصلت الرسالة بما فيها من تهديد ووعيد وقسوة. كل ما كان يهمك فى هذه اللحظة، هو وضع يده على رأسك، وتقبيل يدك. وارتعاشة جسدك الذى أصبح ينتفض كلما رآه .
بشرته الداكنة !
وشعره الأسود الفاحم ، وأنفه المستقيمة، وأسنانه البيضاء الناصعة، وعيناه العسليتان الواسعتان. كانت تتيه فيهما هند. بمجرد رؤيتهما، أو تصويبهما نحوها، وسؤالها عن الواجب.كانت تفتح الكراسات بيدين مرتعشتين، ضعيفتين، خائفتان من ضرب العصا. وأحيانا كانت تحمر خجلاً إذا عنفها أمام الصغار. أصبح جسدها ينحل كل يوم عن اليوم الذى قبله ، كانت ترى فيه درجة من الجمال الفطرى الذى لم تره من قبل. وهو يحدثها بصوت دافئ حنون : أنا مش غجرى يا هند ولا نقرتي مالى والغجر هذا زمن ضائع. أنا ابن المدينة.
– والأصل. يا حمزة
– يا هند أنا أرتدى ثوبٍاً آخر.
– أصل الشىء يا حمزة، هذه شريعة الأجداد.
– هند هذه شريعة أمك . إنها تكرهنى .
– أمى دائماً تكرمك. ولكنها تردد على مسامعى كل يوم، هذا ليس من توبك. احنا لا نتزوج الغجر. سامحني يا حمزة، يقوم واقفا يأخذ وجهها بين كفيه ، يقبل رأسها ثم يتركها ويخرج .
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
وإن كان فرط وجدى في محبتكم إثما فقد كثرت في الحب آثامي

دخلت ناهد على هند الحجرة وهى صامتة. وعندما رأتها نور قفزت فرحة.
– ميس ناهد. ازيك يا ميس.
أخذت ناهد نور بين ذراعيها وهى تضحك: بضاعتنا ردت إلينا. مالك يا بنت خالي .
ممكن تدخلى أوضتك يا نور.
خرجت نور من الحجرة، وهى تجمع كراساتها بين يديها ثم التفتت تجاه ناهد وقالت: تاخدى حلاوة يا ميس. ستى أم جابر جابت حلاوة كتير من المولد. ربتت ناهد على شعر نور وقبلتها: شكراً يا حبيبتى.
جلست ناهد أمام هند، وهى مازالت تنظر من النافذة صامتة. كأن هذه النافذة هى العالم السحرى الذى تستمد منه قوتها، أو كأنها تنتظر غائباً يأتى. ضحكت ناهد وقالت مداعبة: نحن هنا يا أم نور. التفتت هند من شرودها: ازيك يا ناهد. إيه الغيبة دى كلها.
ضحكت ناهد وقالت: أنا ولا انتى، من يوم جوازى من أبى الحجاج لم أركِ.
ضحكت هند. من لقى أحبابه نسى أصحابه. سبحان مغير الأحوال. القط والفأر اصطلحوا.
مدت ناهد يديها، وأشعلت وابور السبرتو، ووضعت البراد الصغير وكوبين من الماء. ثم قالت وهى تحاول أن تظهر ما فى يديها : خدى كتاب لقيته فى مكتبة أبو الحجاج. قلت يمكن يعجبك.
– عن إيه؟
– عن الغجر.
أمسكت هند الكتاب وضحكت، ضحكة واسعة : عندى، وقرأته.
نظرت ناهد غير مصدقة وقالت: وعارفه إن أم جابر منهم. – لأ.. أخوها اجوز منهم.. أجوز برمكيه. – ليه يا هند. مش خايفه. الحكاية تتكرر تانى. أطفأت هند النار، وصبت كوبين الشاى ووضعتهما، أمامها هى وناهد. – التاريخ يعيد نفسه يا ناهد حكاية هند وحمزة بقت حكاية على ونور. – إيه يا بنت عمتى هو ورث. – لأ قدر.. وجينات ورثوها.
صمتت ناهد ولم تعلق. لأن هند صدمتها. وربما تفعل نور ما فعلته أمها قديماً وتخذل أمها وتتزوج على. أخذت ناهد رشفة من الشاى : – على ونور، هند وحمزة. والحكاية القديمة. نظرت هند نحوها، وعيناها تدمعان. – والمفروض أفرق بينهم زى أمى ما عملت معايا أنا وحمزة . وفى النهاية طفلة بلا ذنب، بلا ميراث، بلا شهادة ميلاد.
أخذت ناهد تشرب الشاى فى صمت. وهى تحاول أن تسترجع شذرات من التاريخ القديم، ولكن خانتها ذاكرتها، لأنها لا تعرف الحكاية جيداً.لأنها كانت خارج مصر بينما أخذت هند الكتاب ، ثم فتحته، وأخذت تقرأ نفس المقاطع القديمة التى قرأتها من قبل، كأنها تعيد الزمن، وقراءة التاريخ مرة أخرى.
«كانوا يجلدون بقسوة أو يتم إدخال إبرة حديدية محمية طولها بوصة فى الأذن اليمنى حتى الغضروف الداخلى، تقرر أنه منذ الآن ومادامت لا توجد اتهامات جنائية ثابتة ضد الغجر.فإنه يتوجب جلد الأصحاء من الذكور القعدة عن العمل، والنساء فوق سن الخامسة والعشرين ووسمهم ونفيهم فى جماعات صغيرة متفرقة. على أن يعدموا إذا عادوا. أما الفتيات والشباب ممن لا يصلحون للعمل الشاق فيتم ابعادهم. ويجبر صحيحو الجسم على العمل القسرى طيلة حياتهم. ويتم انتزاع الأطفال دون العاشرة من آبائهم، ويسلمون إلى أناس طيبين ينشئونهم نشأة سليمة .»
مدت ناهد يدها وأخذت الكتاب من هند وقالت لها : كفايه. دا كان فى الغرب. النهاردا الدنيا اتغيرت أنا خايفه عليكي من كتر القراية وخصوصا ابن الفارض والمتصوفة اللي مالين الكتب. قالت هند وهى تنظر من النافذة إلى الخارج كأنها تتنفس قوة ساحرة: الوسم فى الداخل، ولا يمحى بسهولة. قامت ناهد تغسل الكوبين، وتأتى بماء جديد لعمل كوبين من الشاى. قفزت هند من مكانها، وأخذت تنادى على ناهد وهى تطل بكل جسدها من النافذة:
– يا ناهد.. تعالى بسرعة.. قربى.
تركت ناهد ما بين يديها، وجاءت مسرعة تستطلع الأمر الخطير. رأت هند تنادى على رجل بصوت مرتفع وهو لا يبالى بصوتها، ويجرى فى الشارع صائحاً :
– كل بلد فيها شيخ
واحنا بلدنا فيها السلطان
يا سلطان يا ابو العلا.
أخذت ناهد وهند ترفعان صوتهما، ولكنه لم يسأل عنهما، وواصل الجرى فى الشارع وهو يغنى : – يا حامى كل البولاقيه ، لو يوم حبيبى جه هنا ، حنن قلبه عليا.
أخذت ناهد تضحك بصوت مرتفع، وهى لا تستطيع السيطرة على نفسها.
– ياه لسه عايش يا شيخ عليش. يا ترى إيه رجعك. من وانا صغيرة، وانا بسمع نفس الأغنية. وهو بيجرى فى الشوارع ويغنيها. والعيال يجروا وراه ويزفوه.. ياابو الريش إنشالله تعيش.
تدخل هند وتغلق النافذة. لقد بعد صوت الشيخ كثيراً، ثم أشعلت النار، ووضعت البراد عليها.
– ياه يا ناهد.. زمن. ماتت ناس، وعاشت ناس . وعليش لساه بينادى على رباب، ويدور عليها. – الحب بهدلة يا بنت عمتى. – أيوه يا ناهد الحب بهدلة. تخيلى لو حمزة كان عايش كان بقى عليش جديد. – يا هند انسى. انسى عشان تعرفى تعيشى.

*********************************

كيف تتزوج ابنة الأصول منك ياغجرى ؟

مات حمزة. وابتعد عنها للأبد.
بعد أن رفضت الأم الارتباط بينهما. أخذت هند تعد الذين عرفتهم فى حياتها ورحلوا، وتستعيد التاريخ المنصرم، وتفتح ملفات العشق وأيهم أولى بالمحبة. فكان حمزة يحتل دائماً المقدمة. فرقت الأم بينهما بجبروتها وقوتها وسطوتها، وطردته من البيت. كيف تتزوج ابنة الأصل منك يا غجرى. حجة غير مقنعة. ولكن الأم تتمسك بها، ودبرت الحيلة مع أخيها سعد لطرده، وإجباره على ترك المكان بسهولة ويسر وفى صمت أيضاً، كانت تشعرالأم أن هذا الحريق إذا شب سيلتهم الدنيا، وإذا هدأ سوف تنقذ ابنتها، استراحت كثيراً من عبء الضمير بطرده. سنوات طويلة ظلت هند رافضة الارتباط بغيره، ووضعت همها وضعفها فى صفحات الكتب والتارخ والشعر والعلم، والصوفية فازدادت قوة بضعفها، وازدادت همة بصمتها. وعملت مكانه فى نفس المدرسة، ودخلت نفس الفصول. هل هذا يكفى وفاءً لك يا حمزة؟
في صبيحة يوم الجمعة 11 مارس عام 1811 .
أخذت القاهرة زخرفها ، وزينت بالأعلام والبيارق وخرج الأهالي إلى الشوارع لتوديع الجيش المصري الذاهب إلى الحجاز لحرب الوهابيين، والذى سيأخذ طريقه من باب العزب المطل على ميدان الرميلة بالقلعة، إلى شارع الأزهر ثم ينحرف يمينا في شاعر المعز لدين الله حتى باب الفتوح. ومنذ الصباح الباكر كان عزيز مصر محمد علي باشا يتصدر أريكة الحاكم في قصره بالقلعة ويستقبل الشيوخ والعلماء والقضاة والتجار والأعيان الذين توافدوا عليه للتهنئة والدعاء لقائد الحملة ابنة أحمد طوسون باشا. ولفت الأنظار قدوم كبار الأمراء المماليك على خيولهم المطهمة وفى ثيابهم المزركشة للإعراب عند سعادتهم بالدعوة التى وجهها إليهم محمد علي لحضور الاحتفال. وليكونوا ضمن الموكب الذى سيصاحب الحملة أثناء مرورها في شوارع القاهرة.
وكانت دعوتهم إلى احتفال القلعة إعلانا عن المصالحة وحقن الدماء وبدء صفحة جديدة تخلد فيها البلاد إلى الهدوء والاستقرار بعد ست سنوات من الاضطرابات والفتن.. والغدر من المماليك لأنهم كانوا قد فقدوا قدراتهم العسكرية منذ هزيمتهم أمام الفرنسيين، وتحولوا إلى عصابات للسلب والنهب. واستقبل محمد علي أعداء الأمس بوجه بشوش، وكلمات معسولة، ويسأل عن أحوالهم، ويضفي عليهم من عطفه ما جعلهم يقابلون التحية بأحسن منها ويدعون له بدوام العز والإقبال. وأعرب محمد علي عن رغبته في الصلح مع المماليك والسماح لهم بالعودة إلى القاهرة، ليعيشوا في سلام ووئام، وأكل المماليك الطعم.
وقبلوا العرض، وأخذوا يتوافدون على القاهرة بعد أن ألقوا السلاح، وخلعوا رداء الحرب، وارتضوا العيش الرغيد، والحياة الناعمة في أحضان حريمهم وجواريهم. وأصدر محمد علي إعلانا بالأمان العام، والصفح عن الأمراء المماليك. ودبر الخطة مع أربعة من خلصائه.
حسن باشا ؛ قائد الفرقة الألبانية.الكتخدا محمد لاظوغلي، الممثل الشخصي لمحمد علي، وصاحب التمثال الشهير بميدان لاظوغلي.
صالح قوش ، قائد فرقة الأرناؤود التى عهد إليها بتصفية المماليك. إبراهيم أغا ، الحارس.. المسؤول عن باب العزب والمكلف بغلقه في وجه المماليك. فهو سمسم الذى تنغلق البوابة بمجرد سماعه كلمة السر، وكانت رصاصة يلطقها صالح قوش في الهواء!!
وقبل ابتداء الحفلة دخل البكوات المماليك على محمد علي باشا قاعة الاستقبال الكبرى فتلقاهم بالبشر والحفاوة، وقدمت لهم القهوة، وشكرهم الباشا على إجابتهم دعوته.. وتجاذب هو وضيوفه أطراف الحديث هنيهه ثم ما لبث أن أذن مؤذن الرحيل.
فقرعت الطبول، وصدحت الموسيقى.. ونهض المماليك وقوفا، وبادلوا الباشا عبارات التحية والاحترام، وساروا إلى مكانهم فى الموكب الفخم.. اجتازت الباب طليعة المواكب، ثم رئيس الشرطة.. ثم المحافظ ومن معه، ثم الوجاقية. ولم يكد المماليك يجتازون باب العزب حتى أطلقت رصاصة في الهواء من صالح قوش، وارتج الباب وأقفل من الخارج عن حين فجأة.. إقفالا محكما في وجه المماليك، ومن روائهم الجنود الأرناؤود. فلما رأى هؤلاء الجنود الباب قد أقفل. تحولوا عن الطريق في صمت وسكون، وتسلقوا الصخور يمينا وشمالا. ولم يدرك المماليك أن الباب قد أقفل، واستمروا يتقدمون متجهين إليه.. ولم تمض هنيهئة حتى دوى طلق الرصاص.. وانهال دفعة واحدة على المماليك وهم محصورون في الطريق الغائر في الأرض. الباب مغلق أمامهم، والأرناؤود من ورائهم، عن اليمين، وعن الشمال، ومن جميع الجهات.. وسقطت الصفوف المكشوفة.. تتخبط في دمائها.. وتراجع البعض وخلعوا ما كان عليهم من الفرو والملابس الثمينة والثياب الفضفاضة ليسهل الفرار.
ولكن الرصاص حصدهم. وحاول شاهين بك الألفي الهرب ولكن.. سقط سريعا واستطاع سليمان بك البواب أن يجتاز الطريق وجسده يقطر دما، ووصل إلى سراي الحريم.. واستغاث بالنساء في عرض الحريم وكانت تكفي كي يصبح في مأمن ولكن الجنود قطعوا رأسه. واتجه بعض المماليك إلى طوسون باشا حيث كان منتظرا أن تنتهي تلك المأساة فتراموا على قدميه طالبين الأمان، ولكنه وقف جامدا.. وقتلهم الجنود. واستمر القتل إلى أن فنى كل من دخل القلعة من المماليك.. ومن لم يمت بالرصاص.. كان الجنود يسقونة إلى الكتخدا بك ويقتله بالسيف. واستمر القتل من ضحو النهار إلى هزيج الليل حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث. أربعمائة وسبعون من المماليك وأتباعهم قتلوا جميعا ولم ينج سوى أمين بك ، كان في مؤخرة الصفوف وقفز بحصانه من فوق القلعة.
وبعد انتهاء المذبحة وتضاءل صوت الرصاص.. كان محمد علي في القاعة .. ولم ينبس بكلمة.. ثم دخل عليه المسيو ماندريشي طبيبه الإيطالي وقال له: لقد قضى الأمر واليوم يوم سعيد لسموكم . صمت محمد علي وطلب قدحا من الماء فشربه في جرعة طويلة “.
أغلقت هند الكتاب عندما .
جاء حامد النوبى. ابن العم البعيد، من سكان الزمالك، صاحب القصر المتين الذى يطل على النيل بشرفاته الواسعة يخطب هند. ابنة بولاق وجامع السلطان وسألته مرة بخجل : كيف تقيم بمفردك يا حامد؟ ضحك وقال: البيت تسكنه الملائكة. أعيش بين صور لثلاث نساء جميلات، ملكات أمى، وجدتى، وعمتى رباب . ضحكت هند وغمزت له : عمتك عشيقة عليش. ضحك حامد وصمت. فقالت له : لنا يوم آخر يا حامد. كيف أسكن مع الملائكة ، وأنا الإنسية المحبطة . ضحك حامد وهبدها على كتفها بغيظ . – سأجعلك مثلهن . ملاك. شرط أن تتركى المدرسة والتاريخ والشعر. ضحكت هند ، وهى تنزل السلالم . – أصبحت من الدراويش يا ابن العم. – هات لي مبخرة ، اجلس بها بجوار السلطان. وأقوم بتبخير المقام.
كيف تكون علاقتنا إذن يا هند؟ قالت وهى تتوقف أمام الباب الكبير للقصر: نكون أبناء عم. أبناء عم فقط . نزل حامد يجرى وراءها : حبيبى اللى بحبه ولو كان عبد نوبى. تزوجا. وقبل كل شروطها : لا تنازل عن العمل. لا حجاب. صار يعشقها مثلما عشق عليش رباب. مع الفارق.. رباب ساكنة القصور العالية ، رفضوا زواجها من عليش. أما هند فقد تزوجت حامد سليم النوبى.. ابن عم النوبى الكبير..عم العم . وكانت حكاية. تحاكى بها كل البولاقية لسنوات طويلة. ثلاث ليال والموائد تقام، ثلاث ليال وتذبح الذبائح، ثلاث ليال والأنوار حول جامع السلطان ساطعة، ثلاث ليال وشارع 26 يوليو من أوله إلى آخره ضيفاً عند حامد النوبى.
ورقصت أم هند من 26 يوليو ببولاق إلى 26 يوليو بالزمالك. وودعت ابنتها عند الباب ، وقالت : والله واتنصفتى يا هند. لم تعلق هند وصمتت . ومرت الأيام كثيرة وثقيلة بعدها.
مات حامد النوبى فى دكانه.. أثناء أحداث الشغب فى أحداث يناير 77 19. والتى أطلق عليها الرئيس المؤمن : أنتفاضة الحرامية .
حرقه عليش المجذوب ظناً منه أنه خطف رباب عشيقته. حزنت هند وجن جنونها، أوقفته فى الشارع وسألته : لماذا أحرقت حامد النوبى يا عليش؟
ادعى الجنون، وخلط بين الأب والابن، وبين هند ورباب، ولكنه بعد خطوات قال : كيف أحرق رباب يا هند؟.
في ليلة مقمرة ، ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الثاني ، الليلة الكبيرة لمولد الشيخ «أبو العلا ». جلس الشيخ عليش على شاطئ النيل ، بالقرب من القصر،أسفل النافذة التي كانت تطل منها رباب، وأخذ يبكي، ويضرب فخذيه بعصاه وهو ينشد أشعار الحب والهوى ويتجلى صوته صادحا في الفضاء: أنت الحبيب الذي لا شك في خلد.. منه ، فإن فقدتك النفس لم تعش.
وأخذ يضرب نفسه بقوة وعنف إلى أن بان عظم فخذه وساقه وتبدد لحمه وهو ما زال ينشد أشعار «سمنون » المحب التي حفظهما عن شيخه : أنا راض بطول صدك عني.. ليس إلى أن ذاك هواكا. فامتحن بالجفا صبري على .. الود ودعني معلقا برجاكا.
فرمقته أم جابر من الشاطئ الآخر بالقرب من بيتها في بولاق، وهي جالسة على حافة الماء، تدعك المواعين، فأخذت تصيح وتنادي : يا عليش، يا وله. وهو زاهدا في وجده ، لا يسمع صوتها ولا يجيب. رمت ما في يدها، وأخذت تجري عابرة الكوبري في سرعة، وهي تقوم وتقع، وتقوم، إلى أن وصلت إليه ، وأخذته في حضنها وهي تبكي : يا روح خالتك.
ثم نقلته إلى مستشفى الهلال، وجلست جواره لأيام طويلة ، إلى أن توفيت رباب ، وجن جنونه ، وخرج من المستشفى تائها ، لا أحد يعرف مكانا له ، وظل ينشد أشعاره ويشكو حبه وهو تائها في الطرقات والأذقة.. يا معطش بوصال أنت واهبه .. هل فيك لي راحة إنصحت .. واعطشي .
وظلت أم جابر لسنوات طويلة تبحث عنه وتحاول أن تعيده.. ولكنه كان يختفي من أمام عينيها ولا يظهر إلا ليلة مولد «أبي العلاء » الليلة الكبيرة ، ويظل يطوف في الشوارع مناديا بعلو صوته : كل بلد فيها شيخ
واحنا بلدنا فيها السطان.
يا سلطان يا أبوا العلا
يا حامي كل البولاقية
لو يوم حبيبي جه هنا
حنن قلبه عليا.
ويظل يلف ويدور، إلى أن تتعب قدماه فيعود إلى القصر وأسفل شباك رباب يجلس باكيا، يتذكر الليلة التي رأى فيها رباب لأول مرة وهي تمديدها وتعطيه رغيف العيش المليء باللحم والأرز وتقول له : أتفضل يا شيخ .
وتمتلئ عينيه بالدموع وهو يرى صورتها تتجسد أمامه وهي تطل من النافذة عليه ، تسمع صوته وأشعاره وهو يبث لها حبه ، ويشكو هواه لها ، وهي تضحك ، وتشعل عود البخور وتدور به في الحجرة ، ثم فجأة تدخل الحبشية ، تغلق النافذة ، وتخرج من رأسها
إبرة على شكل دبوس صغير ثم تلقي ببعض التعاويذ فيتحول إلى طائر جميل يصيح صوته في الحجرة ، وعندما تراه رباب تظل تبكي وتبكي إلى أن تقع منهارة على الأرض، فتقوم الحبشية بسحرها وتحويلها إلى طائر صغير يلف ويدور في الحجرة ويغني مع طائره ، وتتركهما الحبشية، وتخرج من الحجرة في صمت.
أحرقت رباب نفسها عشية موت أبيها جعفر النوبى الكبير. سكبت الجاز على نفسها، وخرجت معه فى جنازة واحدة. تحاكى بها الناس طويلا. كانت جنازة مهيبة. تقدم الجنازة وفد من القصر. ومن يومها والملائكة تساقطوا ملاك وراء الآخر. الأخ حزنا على رباب والأب. والأم حزنا على الابن والزوج والابنة. وظل حامد الصغير فى حجر أمه ، تربيه إلى أن كانت آخر الملائكة المرفرفين. وظل حامد وحيداً زمناً طويلاً.. يحب هند، ويعلم أنها تحب حمزة. رفضت هند العودة إلى بيت أبيها بعد موت حامد، قالت: لن أعود، وأترك بيت الملائكة. حتى لا تملأنى رائحة حمزة من جديد. وكانت كل ليلة تفعل ما كان يفعله حامد، تمسك المبخرة تبخر الحجرات، وتملأ البيت برائحة المسك والعنبر، وكلما شمت الرائحة، وقفت قليلا أمام الصور تقرأ الفاتحة. كان لحامد عطره الخاص الذى يصنعه بيديه فى دكانه الصغير بجوار سينما على بابا . وكانت هند كل يوم تخرج الزجاجة تشمها وتغلقها ، تملأ رئتيها جيدا ، ثم تنام حزينة.
وفى يوم من الأيام..
وبعد سنوات طويلة من وفاة حامد كانت تمر بالصدفة على كوبرى أبى العلاء عائدة إلى بيتها. رأته واقفاً ، شابا وسيماً ، يشبه حمزة بدرجة كبيرة ، لدرجة أوشكت أن تناديه : حمزة. ترددت كثيراً ثم وقفت أمامه لحظات تتأمله ونادته : حمزة. ضحك ونظر نحوها.
– نعم.
– أسفه.
ثم انصرفت ، غير مصدقة عينيها . ووقف هو ، وظل يواصل نظراته إلى النيل.
ضحكت غير مصدقة : خيالات . ثم عادت إلى البيت تنظر إلى الملائكة ، وتشعل البخور، وتقرأ الفاتحة. ثم أخذت تنظر من الشرفة إلى النيل والشارع والسلطان ومئذنته العالية، والكوبرى، وهو مازال يقف مكانه ، يلقى بسنارته فى الماء وينتظر.
ثم فتحت الكتاب وأخذت تقرأ في صمت.
” إذا ذهبت يوما إلى قلعة صلاح الدين لتتعرف ما تشتمل عليه من المواقع والمباني والآثار فقف قليلا دقيقة حداد واتجه بنظرك إلى القعلة.
تجدها ماثلة أمامك ، بموقعها المنيع ، وأسوارها العالية ، وأبراجها الشاهقة ، وأبوابها الضخمة ، وأول ما يلفت نظرك قباب جامع محمد علي ومآذنه الهيفاء البديعة الصنع التى تداعب السحاب في علوها ، فإذا رجعت الطرف في هذا المنظر فدعه جانبا، لأنه لم يكن موجودا بتمامه في العصر الذى نكتب عنه إذ لم يكن محمد علي باشا قد بنى جامعه إلى هذه سنة 1811 وانظر أمامك ، تجد بابا ضخما غائرا في الجبل تعلوه أبراج قديمة . هذا الباب هو المسمي باب العزب وهو باب القلعة من الجهة الغربية، ويقع على الميدان المسمي الآن بميدان صلاح الدين وكان يسمى في ذلك العهد ميدان الرميلة.
فإذا دخلت من هذا الباب أقرأ الفاتحة لأنك تجد طريقا وعرا متعرجا، متوحشا في الصخر.. تسير فيه بالجهد والعناء صاعد إلى رحبة القلعة ، وتصل منه إلى جامع محمد علي ، ثم إلى القصر، فإذا تعرفت تلك المواقع ، وثبتت صورتها في ذهنك فاسمع ما جرى فيها… إنها مذبحة المماليك..”

وضعت هند الكتاب على سور الشباك وأخذت تبكي، ورأسها تدور بالأفكار والحكايات والمواضيع . ورأت طيف حمزة يقترب منها.. آتيا من الفراغ ، يخترق السحب والهواء والأضواء ، ويحتويها بين ذراعيه ، فتشعر بجسده ساخنا ، دافئا ، مثل ذلك اليوم الذى أخذته على صدرها وهو غارقا في دمائه وهى تصرخ وتبكي : حمزة أنا حامل.. سامعني أنا حامل.

**************************************

 

التعليقات متوقفه