أمينة النقاش تكتب :قمة تحدى الهيمنة

2

أتابع برغبة صادقة فى الفهم، كتابات بعض الخبراء والمحللين السياسيين فى الصحف المصرية والعربية، وغيرهم ممن يمتطون الفضائيات العربية والدولية الذين يريدون لنا أن نقتنع عبر معادلات رياضية ونسب احصائية صماء،أن العالم يتغير فعلا، لكن الثابت فيه يظل أن الولايات المتحدة الأمريكية هى القوة المهيمنة الوحيدة التى تخالج الأوهام بعض من يظنون بتراجعها , أو يبشرون بتعدد الأقطاب الدولية التى باتت مؤهلة للمشاركة فى إدارته. دفاع مجيد لا يهن ولا يتوقف عن عالم القطب الأمريكى الواحد، مع أن وهم تعدده، إذا كان وهما،وتراجع قوته الفائضة المفرطة التى كانت ولاتزال تشكل تهديدا صارخا للاستقرار والسلم الدوليين، هو بلا شك فى صالح دول المنطقة التى ينتمون إليها، فضلا عن أن الشواهد لا تنقص تأكيده فى الساحة الدولية. وربما يكون علينا هنا أن نأخذ مأخذ الجد تحذير «إدوارد سعيد» من مثل هؤلاء الخبراء الذين يُدفع لهم لكى يفكروا بطريقة معينة!.

آخر تجليات هذا اللون من التفكير الإنهزامى،هو التقليل من شأن الدورة الثانية من القمة الروسية-الأفريقية فى سانت بطرسبورج، التى أنهت أعمالها قبل أيام. وكانت دورتها الأولى قد عقدت فى منتجع سوتشى عام 2019. ولا يتوقف الحديث لديهم سوى على التركيز على المكاسب الروسية منها، وإغفال المصالح العائدة على دول القارة.
شكل عقد قمة سانت بطرسبورج نجاحا فى حد ذاته، بصرف النظر عن نتائجها. فقد تم عقدها برغم الضغوط الأمريكية والأوروبية على الدول الأفريقية لحثها على عدم المشاركة. ومن بين 54 دولة شارك فى أعمالها 49 دولة، مثلها عدد من القادة ورؤساء الوزراء والوزراء والسفراء كان من بينهم الرئيس السيسى. وشأن كل عمل مشترك بين طرفين، فالمتوقع أن يكون عائده لصالحهما معا.ففى الوقت الذى تسعى فيه دول القارة الأفريقية للتحرر من بقايا الإرث الاستعمارى الغربى، وغل يد الهيمنة الغربية على مواردها،فإن النتائج التى أسفرت عنها قمة سانت بطرسبورج تعزز هذا الهدف.
وفى القمة تعهد الرئيس الروسى بوتين بالغاء 23مليار دولار من ديون عدد من الدول الأفريقية،، وبالاستعداد لتزويد تلك الدول بأسلحة مجانية للحفاظ على أمنها. فضلا عن وضع الجانب الروسى خطة للسنوات الخمس القادمة لرفع التبادل التجارى مع الدول الأفريقية من 20 مليار إلى 40 مليار دولار، وتوقيع اتفاقات لتعزيز الشراكة بين الطرفين فى المجالات العسكرية والأمنية والاستخباراتية والتكنولوجية والثقاقية والتعليمية، والغذائية. والتعاون فى مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية، حيث سبق أن وقعت 18 دولة أفريقية اتفاقات لبناء محطات للطاقة. وفى هذا السياق يجرى بناء محطة الضبعة للطاقة فى مصر التى تتكلف نحو 20مليار دولار. ولا يكتفى التواجد الروسى فى القارة الأفريقية على قوات فاجنر العسكرية، إذ أن عددا من الشركات الروسية الكبرى تعمل على اكتشاف مناجم المعادن واستخراجها.
شكلت الثروات الطبيعية والمعادن التى تحظى بها دول القارة الأفريقية مطمعا لقوى الاستعمار الغربى طوال عقود، لكن الشراكة التى أخذت فى التزايد مع روسيا كما هو الحال مع الصين، تقدم للقارة نموذجا غير استغلالى يسعى للتنمية الاقتصادية والبشرية التى تخدم الشعوب.وتزايد مجالات تلك الشراكة مرحبا به ليس على المستوى الرسمى فقط، بل والشعبى أيضا. وليس رفع المتظاهرين المؤيدين لإنقلاب النيجر الأخير الأعلام الروسية، سوى مظهر واحد لهذا الترحيب.فروسيا ليس لها ماض استعمارى فى العلاقة مع القارة الأفريقية، بل ان الأتحاد السوفيتى ساند بقوة حركات التحرر الوطنى الأفريقية من أجل التخلص من الاستعمار.
قدمت القمة بطبيعة الحال دعما سياسيا لروسيا فى حربها مع الولايات المتحدة وحلف الناتو فى أوكرانيا، وخرقا لحرب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وفتحت الباب مجددا لبحث التبادلات التجارية بالروبل والعملات المحلية، ليضاف ذلك إلى جهود مجموعة دول “البريكس”التى تضم روسيا والصين والهندوالبرازيل وجنوب أفريقيا، الساعية لإنشاء عملة موحدة لدولها بديلا عن الدولار، لتخفيف قبضة المنظمات المالية الغربية على اقتصاديات دول الجنوب والدول النامية.
وفى القمة أبدى بوتين استعداده لمفاوضات ترفضها كييف، للتوصل لتسوية لوقف الحرب.كما استجاب لدعوة الرئيس السيسى بالعمل على التوصل لحل توافقى بشأن اتفاقية تصدير الحبوب التى توفر موسكو 20% من الاحتياجات العالمية منها.كما تعهد بدراسة المبادرة الأفريقية لتسوية الحرب الأوكرانية.
وصف بوتين ماجرى فى قمة سانت بطرسبورج بأنه موقف موحد روسى وأفريقى يتحدى النظام الاستعمارى، ويسعى لإنشاء عالم متعدد ومبنى على الشرعية الدولية واحترام القانون الدولى، ليس مبالغة خطابية كم يروج داعمو القطب الواحد، بل حقيقة جديدة تتشكل على الأرض.وكان ذلك ما أكده عدد من القادة الأفارقة فى خطاباتهم.وقد تعنى نتائج القمة بين ماتعنى،أن الأفارقة يعلنون أن لا مصلحة لهم فى المساعى الغربية الرامية لإضعاف روسيا واستنزاف قوتها.وأن بناء هذا النظام المتعدد، يحتاج إلى روسيا قوية لموازنة قبضة الولايات المتحدة على القرار الدولى على المستويين السياسى والاقتصادى، لتمرير مصالحها على حساب الدول الصغيرة. تمنح القمة هذا الطريق المنشود، دفعة قوية حين تدفع فى اتجاه التنمية المستقلة لدول القارة.

التعليقات متوقفه