ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :سفير أمريكا بالألوان الطبيعية

20

من بين كتب القراءات المبكرة التى لفتت الانتباه إلي أن مشاهدة السينما لا يجب أن تكون للتسلية فقط، بل أيضا للتفكير والتأمل الواعى لرسائلها وأهدافها، كتاب” سفير أمريكا بالألوان الطبيعية “للناقد والسيناريست والمخرج والفنان التشكيلى الرائد ” كامل التلمسانى “الذى يعد فيلمه” السوق السوداء الذى كتبه وأخرجه وتم عرضه عام 1945“ وأنتجه ستوديو مصر، واحدا من بين أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما العربية. وكما تفعل معظم وسائل التعبير الفني والأدبي، فإن للأفلام رسائل بعضها واضح يدركه المشاهد بسهولة وبعضها مستتر يتسلل إليه من أبواب خلفية، ليخفى عنه حقيقة هنا، ويطمس واقعة أخرى هناك وعلي المشاهد الفطن ألا يفارقه الوعي، وهو غارق في الانبهار بأحداثها.

وفي كتابه يقول التلمساني إن أفلام هوليود هي سفير فوق العادة للولايات المتحدة الأمريكية، وهي سفيرها الأول لدى شعوب العالم، لما تنطوى عليه من توجهات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وهو ما يؤكده المؤلف الأمريكى ” ليو روستن “فى كتابه ” السياسة تحلق فوق هوليود” بقوله إن الأفلام سلعة عالمية، وقد دفع هذا بالسياسة إلى هوليود لكى تلتحم معها فى عنف لا يهدأ. كما أن النوبات العنيفة التى حاقت بسياسة القوة أثناء الحرب العالمية الثانية، قد ألقت بالأخطار المحدقة بالعالم إلى أحضان هوليود، مما أدي إلي أن تسبق اليقظة السياسية لهوليود، الصحوة السياسية فى أمريكا، وتتقدم المعارك الفكرية المعارك االحربية لتمهد لها السيادة والنصر!
كتاب كامل التلمساني «1915-1972» الصادر عام 1957 أثر فى أجيال كثيرة من نقاد السينما ومشاهديها، كما أعجب به الرئيس «جمال عبد الناصر»، وأرسل له رسالة شكر علي إصداره. وخلال العقود الماضية تبين صحة ما ذهب إليه ” التلمساني”حيث باتت البنوك والتكتلات الاستثمارية وقوى الضغط السياسية والمالية والحزبية الغربية والأمريكية والإسرائيلية، تتحكم فى كل عمليات صناعة السينما، وفي السيناريوهات التى تكتب لها، وفي طرق وأوقات ترويجها، وفي صناعة النجوم أو تغييبهم عن المشهد، وحتى فى تحديد الجوائز التى تمنح لصناعها ونجومها فى مسابقات الأوسكار الشهيرة، لاسيما إذا ما تجاسر أحدهم بإعلان دعمه للقضية القلسطينية، أو مناوئة المواقف الرسمية العدوانية التى تتجاهل قضايا العالم العادلة. وقد فتح ذلك المجال لكى يظهر فى الساحتين الأوروبية والأمريكية ما أصبح يعرف بتيار السينما المستقلة التى تسعى لقول الحقيقة التى تجاهد “المؤسسة الغربية “من أجل إخفائها.
تذكرت كتاب التلمساني بعد مشاهدة فيلم “جولدا” الذي يجسد جانبا من السيرة الذاتية لرئيسة الوزراء الإسرائيلية “جولدا مائير” وبالتحديد فترة إدارتها لحرب أكتوبر 1973 وحتى وفاتها عام1978، وهو إنتاج أمريكي –بريطاني مشترك وإخراج المخرج الإسرائيلي “جاي ناتيف” وتأليف السيناريست البريطاني “نيكولاس مارتن “. الفيلم دعائي، شديد التواضع، يظهر جوالدا مائير وهى تخضع للجنة إجراءات للتحقيق فى هزيمة إسرئيل وهى تقول للمحققين لقد حولت الإنكسار إلى نصر، ولكى يقنعك بديمقراطية إسرائيل المزعومة. يركز الفيلم على بطلة الحدث وطريقتها فى التفكير وإدارة المعركة وقدرتها علي إقناع كيسنجر بجلب مزيد من الدعم العسكرى الأمريكى، ونجاح طاقمها الحربى فى عمل ثغرة الدفرسوار شرق قناة السويس، حيث تمكن خلالها الجيش الإسرائيلي من حصار الجيش الثالث الميداني وتطويقه لأكثر من أسبوعين. والفيلم يعترف بنصر أكتوبر وبمفاجأة الجيش وأجهزة المخابرات الاسرائيلية بإندلاع الحرب، وبشجاعة وقدرة الجنود المصريين والسوريين فى ساحات القتال. وهو بجانب ذلك يقدم امرأة قوية ذات عزيمة فى أحلك المواقف، برغم أنها مشرفة على الموت، لإبعاد الأذهان عن حقائق دولة الاحتلال الاستيطانى التى تقودها.
أنقذ الأداء المتقن لشخصية جولدا مائير للممثلة البريطانية ” هيلين ميرين ” الفيلم من حالة الملل التي انطوى عليها إيقاعه البطئ، والأرجح أنها ربما تنافس على جوائز الأوسكار. وإذا ما طبقنا ما أوصي به “كامل التلمساني ” في كتابه، فإن ظهور الفيلم وإجازة عرضه هذا العام فى الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، لم يكن صدفة بطبيعة الحال، وهو نجاح لحرب الدعاية التي يقود بها الغرب معاركه. يجدد عرض الفيلم الحسرة علي استمرار غياب فيلم عربي يليق بأحداث حرب أكتوبر، ويتناسب مع أهميتها ويوثق ما جرى فيها، والعوامل التى ساهمت فى نجاحها للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي– الإسرائيلي.
قدمت السينما المصرية عددا محدودا من الأفلام التجارية التى تتحدث عن الحرب بأحداث مكررة ومقحمة على وقائعها، وأخري قليلة ذات مستوى فنى رفيع، ترصد كما فعل فيلم ” سواق الأوتوبيس ” انعكاس نتائجها على الفئات الاجتماعية الشعبية التى شارك أبناؤها في الحرب واستشهد منهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل لكنهم يستفيدوا من نتائجها، لا سيما بعد التغيير في الاختيارات السياسية والاقتصادية لنظام الرئيس السادات، وتوقيع معاهدة الصلح مع إسرائيل، والخلافات التى نشبت حول ما سمي الاستثمار الخاطئ لنصر أكتوبر، وبدء سياسة الانفتاح الاقتصادي التي حصد أرباحها سماسرة من اللصوص الفاسدين.لكن فيلما حربيا يوثق أحداثها ويليق بمجدها، لم يظهر حتى اليوم.
تحكم الصورة عالم اليوم، وفى حرب الإبادة التى يقودها الاحتلال الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، كانت الصورة الفيلمية جوهر المعركة وهى توثق الجرائم والمذابح، وتلعب دورا فى تحديد المواقف وتغييرها، ولاتزال – كما يذكرنا التلمسانى- هى سفيرنا الأكثر تأثيرا للدفاع عن قضايانا العادلة، حتى لو كانت بالأبيض والأسود.

التعليقات متوقفه