مايسة زكي تكتب :المشعلجي الأخير..أشرف عبد الغفور من الوليد بن عبد الملك إلى موسى الهادى في الخلافة الإسلامية

54

الثائر بالعقل والسجين ذو الإرادة الحرة أمام هارون الرشيد

 

قناع هنري الرابع بين التنكر والرغبة في الاختفاء

الممثل الذي ألَّف بين حافظ إبراهيم وفؤاد حداد

يطلق الفصحى بيسر ويجمع بين المتناقضات بسلاسة ويصون الماضي ولا تفوته الحداثة

بقلم مايسة زكى:

من هاتفني أو لاقاني في نهاية العام الماضي كان يجد أن حديث الظلمة يأخذ من طاقتي الكثير، وتشيع فيه حرارة إدراك للخطر المحدق في تلك الطرقات المعتمة التي نسير فيها، مشاة ومركبات. هذا الاتساع الواهم الذي يتبدد في عشوائية الحركة، وبحلول الليل خاصة. ونحن ندمي قلب المدينة بالتقاطعات التي مزقتها، فنحاول أن نلملم أطرافها من كل صوب وحدب بالتفافات أفعوانية ماكرة .
عندما داهمني خبر رحيل الفنان أشرف عبد الغفور قلت لا بد أنها نقطة من النقاط السوداء على الطريق، وساورني انقباض من يتجنب نبوءة نفسه.
في الآونة الأخيرة تلاحقنا ما يسمونها حوادث سير. تقتنص شبابًا وشيوخا. تحولنا إلى ضحايا ومذنبين. ولا أحد يشير إلى فاعل مشارك وأصيل في الحادث، الظلمة ومسئوليتها والمسئول عنها. تُطمس معالمها كل صباح، وليس لأحد أن يقبض عليها على سبيل الجنحة أو الجناية.
تتجلى المفارقة عندما يكون الراحل من المتصلين اتصالا قويا بفرع من فروع التنوير، ألا وهو الفن كما نعرفه، ونفَسَا طويلا وحاملا أصيلا لرسالته. فما أفدح فقدنا وأشد حاجتنا إلى حراس المهنة الساهرين على خدمتها ومواصلة قيمها. فكثيرا ما كان الغاطس من الثقافة والإبحار في البيئة تاريخا، ولغةً، وتزودا روحيا يفوق ويتمدد أعمق وأكبر مما اطلعت عليه الجماهير، لكن هذا الغاطس المكين هو الحارس لذلك المجال، والحامل لمكانة تلك المهنة .
هكذا أثمِّن شيخا من شيوخ المهنة هو الفنان الراحل أشرف عبد الغفور، وواحد من الأشد امتلاكا لناصية اللغة العربية وإبداعاتها. تجري اللغة على لسانه – دراميا – مجرى الأداء اليومي. هذا المسار بين لغة الضاد واليومي المعاصر هو رحلة هضم واستيعاب وتزَامُن .
فإذا كان رعيل أول رائد من عتاة الممثلين باللغة العربية اعتمد فكرة جلال اللغة وتاريخيتها ومال إلى درجات متفاوتة من الافتراق عن الأداء الواقعي اليومي، فإن أشرف عبد الغفور – ومن حذا حذوه – يتبنى تصور اعتياد اللغة واكتسابها في كل عصر. وبقدر ما يتعمق ويتيقن قواعدها مع الأيام يزداد حرصه على إرسالها فطرية يسيرة، خاصة في تلك الأزمنة التي كانت الفصحى فيها سائدة ومعتاد شموخها، فما بالك بلغة الملوك والبلاط والأدباء الشعراء .
من هذا المنطلق يقدم على سبيل المثال كلا من الوليد بن عبد الملك في الخلافة الأموية، وموسى الهادي في الخلافة العباسية، من موقف مناقض لريتشارد قلب الأسد كما قدمه الفنان الكبير حمدي غيث في فيلم الناصر صلاح الدين الأيوبي. ينطلق أداء غيث، لغةً وحركة، من عناصر من مثل المكانة الملكية وتباعد العصر وطبيعة الصراع، مؤكدا – بفخامة – المسافة الزمانية وعلو الشأن .
أما رؤية عبد الغفور التي لا تنفصل عن طبيعة الوسيط الذي يطل منه وهو الشاشة الصغيرة، والمدى الزمني المتاح له، فتؤهله لدمج طبيعة المنصب والدور التاريخي ومكونات الشخصية، محنتها ومصيرها، تحدياتها وتناقضاتها، فينزلها منزلة التجربة الإنسانية القريبة مع يسر الانتقال من شعور أو حال لآخر، وإن كان مخالفًا، لكنه مقنع بنفس السهولة التي تتقبل بها تناقضات أقرب الناس إليك في الحياة بعد عِشرة طويلة وفهم لعناصر الشخصية. وجدت أسلوبه أبقى وأصفى سبكا – على بساطته المراوغة – بعد عقود !
وإذا كان المكوِّن اللغوي يلعب دورًا رئيسيًّا في أدائه إلا أنه يصبح في أمهر تجلياته الأدائية عندما يُحدث توافقًا صوتيًّا حركيًّا حاذقًا. فمن واقع دراسته لشخصية الوليد دراميا وتاريخيا في مسلسل (عمر بن عبد العزيز) يرى فيه بعض خفة تستند على الحجاج استنادا واعتمادا كليا في توطيد دعائم ملكه حتى ليموت بعده مباشرة. يبدو بحركته من أول إقبال له على كرسي الحكم استعداد للميل يمينا ويسارا وللأمام أيضا على مكره – ومما يناسب المكر أيضا – وصولا لاستقباله نبأ وفاة الحجاج مترنحا مرتعدا حد التقوض. تقوض لكامل الجسد وعجز ملتاث عن إقامته. صورة حركية استعارية يبنيها على مدى عدد ليس بالقليل من الحلقات. ومن إشارات وإيماءات خافتة كجزء مذاب من طبيعة حركة الشخصية وإيقاعها حتى هذا المصير الصادم الكاشف لتراكم الإتكاء على سند جبار وحيد يتشكل مشهد النهاية الذي يعود ليعلق ويفسر بناء الشخصية كما قدم مفرداتها عبد الغفور عبر الأحداث، وكما استفاد – فيما أعتقد – مما تناقل عن الوليد من بعض تبختر في مشيته .
ويقدم نموذجا آخر من الحكام في مسلسل (هارون الرشيد)، موسى الهادي، بكل خيلاء واختيال الخلافة والشباب، لكنه واعٍ بما يحدق بالأمة الإسلامية والخلافة العباسية بخاصة. حازم شديد ومتزمت إلى أن تنفرج أساريره وتنحل بعض قبضته ابتهاجا وثقة بالانتصارات والفتوحات .
يستطيع عبد الغفور أن ينقل بكل سلاسة وواقعية تلك المراحل في الحكم كما ينقل هذا التناقض الأصيل في مفهوم الإيمان من موقع مسئولية الخليفة كما يتصوره الهادي. يقنعك بكامل خشوعه وفخره بالسعي لنشر الإسلام في الربوع واتساع رقعته، طالبا صدقا مرضاة الله، بنفس القدر الذي يثقل عليك هذا الحرص القبلي المتجذر في الحفاظ على نقاء الأصل القرشي للخلافة بكل قسوة، والذي يخدم محاولات متكررة بدهاء لحصره في آل بيته ويبرر به حرمان هارون الرشيد من ولاية العهد. يتراوح بين وخز ضمير على ما قد يصيب نسل سيدنا علي وتربص لا يتهاون مع البرامكة .
وأخيرا هذه الخشية الدفينة من لقاء الله مع الإحساس الخفي بدنو الأجل وخطر التآمر على حياته مجتمعيْن، وكما عزز المؤلف تداخلهما بتعاقب مشهدي الشك في إمكانية اغتياله وموته المفاجئ المريب، وليبرز في عجالة درامية طبيعة الاختبار المحنة الذي يطارد الخليفة في الحياة الدنيا، ويحمله على كاهله في الآخرة .
في كل من مسلسل (عمر بن عبد العزيز) و(هارون الرشيد) عامي 1994 و1997 على التوالي، وعلى الأرجح، نحن أمام أعمال درامية في تلك المرحلة تفحص بلاط الخلافة بمؤامراته وصراعاته، وطبيعة العصر، وشخوصه المتمايزة، والأفكار السائدة فيه من داخل الثقافة الإسلامية وتاريخها. وفي ذات الوقت قد تطرح أسئلة وجودية متصلة بهذا الإرث، ومستفيدة من التراث العالمي في مجال الدراما، والمسرحي منه خاصة .
يتجلى في هذا السياق تلك الرابطة التي جمعت الموهوبين من ذلك الزمن وصانعي المشروعات العملاقة منهم خاصة، وأخص بالذكر الفنان المثقف نور الشريف. والحق أن نور كان يمتلك هذه الخاصية الإرشادية للفريق، وبحيث يمرر اللعبة الحلوة لأقرانه. ولا شك أن دوري الوليد بن عبد الملك وموسى الهادي من الأدوار أو الألعاب التمثيلية المكتوبة بمهارة يعلم مصوبها إلى من يهديها. وقد تلقفهما عبد الغفور بكل حرص وعناية، فإجادة تسديد حتى لتزداد مع الأيام قيمة وبصيرة درامية. وليس بالمستغرب على تلك الكفاءة الفنية أن تكون الشخصيتان – تقريبا – على طرفي نقيض .
حقا في مراجعة الحلقات تكتشف هذا الانتقال اليسير وهذه الدرجات المتخافتة في الأداء التي تسمح بالجمع بين المحبة والغيرة، التآمر والعنف في القبضة ومخافة الله، نشوة بناء المساجد مثلا عند الوليد باعتبارها بيوت الله والتغاضي عن جبروت الحجاج وأفعاله الدموية في تعدي حدود الله. حتى إذا ما جاءت لحظة تحوُّل حادة بدت عفوية نابعة من توطن في الشخصية بكل تناقضاتها، والقيم التي تحركها في ظرفها التاريخي والنفسي .
وهذا من مفاتن التراث الفني والتمثيلي بخاصة عند الرجوع إليه المرة تلو الأخرى. فكما يتضاعف القصور، يُعاد اكتشاف الأساليب والمداخل الفنية الأرهف. وربما لهذا كان يشيع اطمئنان في حضور الفنان في حياته. وذلك من عمق ما أسداه وأصيل ما أسكن في هذا المستوى النوعي من الدراما التليفزيونية .
والمرء لا يستهين ،وهو يشاهد، بعظم المهمة التي قام بها المؤلف عبد السلام أمين وفريق العمل بقاماته الفنية، وعلى رأسها كل من نور الشريف والمخرج الكبير أحمد توفيق. هذا الطريق الشائك الذي مشوا عليه بين تاريخ يعج بالروايات المتضاربة والضغائن، والأسباب المتوارية خلف صراعات الفرق، وشخوص ومفاهيم مترعة بالتناقض بمفهومنا العصري، وذوق عام قد لا يقبل فداحة الحقائق التاريخية – ما يرقى منها لهذا التوصيف – فبحث عن فرص درامية مخبوءة في ثنايا الأساطير والحكايا العالقة بذات الحقبة مما أرادوا تنقيتها منه! وذلك كله للخلاص بنسخة درامية محملة أيضا بقراءة معاصرة لحاضر العمل الفني. تحاول أن تستمد من مثل هذا التاريخ – اقتداءً أو إعادة تقييم – تفسيرا لما حدث في العصر الحديث. وتُعلِّق على الراهن فارضةً رؤيتها فيما مضى وآثاره .
وفي ظل هذه المصاعب التي تكتنف عملا تاريخيا وما يشوبه من تصرف وإحلال وتبديل في صياغته الدرامية، ليس بعيدا مثلا أن يكون الاختيار الفني ألا يلحن أشرف عبد الغفور في العربية بينما كان الوليد بها يلحن، أو يطول الزمن الدرامي لحكم الخليفة الهادي ويوحي الأداء بذلك، وقد كان خاطفا لم يتعد في معظم المصادر أكثر من سنة وشهرين أو بضعة أشهر، كما أعيد صياغة موقفه والمفهوم الفلسفي الديني عن الزندقة ليشمل الفن بقوة، ربما لصالح التعليق على تضييق معاصر كان قد بدأ يعلو صوته وتظهر أماراته في مصر التسعينيات. ولعل المسلسلين أطفئا ظمأ نور الشريف البيكيتي نسبة إلى مسرحية (بيكيت) أو (شرف الله) لجون أنوي، وقلبَّاها على مختلف الوجوه !
وربما يكمن مصدر آخر من مصادر إلهام مسلسل (هارون الرشيد) وتحفيزه لرؤية أخرى للرشيد والبرامكة في بطولته لمسرحية د.فوزي فهمي (لعبة السلطان) التي اقتنصت بكثافة درامية لحظة فارقة في حكم الرشيد، وقدمها المسرح القومي عام 1986 من إخراج نبيل الألفي.
من شذرات ومرويات متناثرة عن ثمامة بن الأشرس ينسج المؤلف شخصية محورية في لحظة تاريخية خاطفة تداخل فيها غضب الرشيد عليه وسجنه قبل أن يقربه في مجلسه فيما بعد، وانقلاب الرشيد على جعفر البرمكي، وما يُروى عن لقاء أخير بين الأشرس وجعفر البرمكي ليلة مقتله، ومدى علاقة الأخير بالعباسة أخت الرشيد، ليصيغ لحظة درامية مفعمة بالأسئلة والخيارات الصعبة الدامية .
يحتل سجن بن الأشرس في ديكور صبري عبد العزيز مركزا سياديا على الخشبة، ويبدو أكثر اتساعا مما قد لا يوحي بضيق السجن وكذلك الفراغات بين قضبانه. ذلك أن المخرج يعتمد في ذلك اعتمادا كليا على الممثل. فمثل هذا التصدر للسجن وحجمه في منتصف عمق المسرح يعكس فكرة القيد على الحرية التي تتحكم في النص كله، والشخوص جميعها. قيد الحكم وقيد الحب، قيد الصداقة والولاء، وقيد النَسب والعُرف،قيود وجودية وأخرى سياسية. هنا يصول أشرف عبد الغفور ويجول في فرصة نادرة لإطلاق الوجه “المشبوب” من قدرته كما يصفه الرشيد عند فوزي فهمي .
هنا عبد الغفور في دور مناقض للملوك والخلفاء على اختلاف مشاربها. هو هنا المتمرد الثائر – بالعقل – عليهم. ربما يستمد من اسمه شراسة في الحق. وبدبيب كلماته، وحماسه، وتمنطقها الناصع يصيغ مع صليل سلسلة القيد إيقاعا للرغبة في التحرر حتى ليكاد يخرج من بين قضبان السجن رأسه المشحون بكبرياء العقل. تتخذ مساحة حركته الواسعة نسبيا داخل السجن وبطاقة عفية مكبَّلة أهميةً ومعنى مركزيا في العرض، حيث تحتل حرية العقل والإرادة المكانة الأسمى في نص فوزي فهمي، ومنها تتولد إمكانية العدل .
ليس بالإمكان القيام بمثل هذا الدور إلا باطلاع على ثقافة ذاك العصر من المعتزلة إلى الجبرية، وقدرة تمثيلية تجمع بين ما يبدو نقيضين من إعلاء للعقل والمنطق، وتمرد ثائر جموح. وذلك عبر توافق حركي صوتي في أدق التفاصيل كان يأخذ إيقاعه بكامل الانتباه والإعجاب في المسرح القومي. وما يوفيه الإخراج التليفزيوني لفايز حجاب رغم حساسيته ودقته، والمتاح على الانترنت، إلا بعض حقه المسرحي. وعي بموقعه المركزي من اللحظة الدرامية المنتقاة لتجسيد التوق إلى تحرير العقل من كل ما يأسره، وإطلاق الإرادة، وبلا تزيُّد .
ليس بالمستغرب بعد ذلك، وقد خاض غمار مثل هذه الشخوص والمواقف الدرامية المركَّبة، أن يقوم بأداء واحد من كلاسيكيات المسرح الإيطالي الحديث لبيراندللو على خشبة المسرح القومي في مطلع القرن الواحد والعشرين هي مسرحية (هنري الرابع) من إخراج المخرج الإيطالي فالتر مانفري، وهي مسرحية ذات طابع فلسفي. عبر حبكة تخلخل على نحو مباشر الزمن، يتقمص ارستقراطي إيطالي في حفلة تنكرية شخصية الإمبراطور هنري الرابع في القرن الحادي عشر. وبوقوعه من الحصان يفيق متلبسا شخص الإمبراطور، ويمضي على هذا النحو اثني عشر عاما ليستمر ثماني سنوات أخريات مدعيا وممثلا الدور مدركا كينونته الأولى، مثبتا عمره أو مداه الزمني عند عامه السادس والعشرين !
على سلم واطئ من أخفت الإشارات الحركية والصوتية يلعب عبد الغفور أعقد المفارقات الدرامية الفلسفية: الحقيقة في مقابل أطراف أخرى كالإدعاء، والتنكر، والتغير. الجنون كسبيل للوعي على ما يبدو من انفصال عن الواقع، وكمتلازمة للسلطة والطغيان، وكمصدر رعب لخروجه عن استجابات القطيع البشري والأنماط الثابتة كأن لا زمن يمر !
لو أنك اطلعت على النسخة الإذاعية التي قدمها العظيم صلاح منصور في البرنامج الثاني حيث نمط الجنون عالي النبرة يوحي بإيماءات ضخمة ملكية النزعة، كاليجولية الهوى الدرامي، لأدركت فارق الطبيعة التأملية لأداء عبد الغفور لدرجات الوعي والإنكار والجنون والحقيقة، ودقة الإيماء الصوتي والحركي. يلف به المخرج الإيطالي دائرة صالة المسرح القومي محوّلا مكاشفته لبلاطه المأجور بحقيقة شفائه إلى مونولوج، وبتسليط الإضاءة على وجهه يتكشَّف للجمهور مدى إرهاق روحه المتشظية المعذَّبة، وفكره المكدود من وطأة الكذب وعناء القناع، قناعه والآخرين .
ربما يكون عرض (المحاكمة) عام 2014 هو العرض الأكثر إدهاشا في توقعاتنا عن أشرف عبد الغفور.فعلى المسرح القومي ومن إخراج طارق الدويري يقدم شخصية المحامي “الفاضل” وفقا لإعداد عن النص الأمريكي (ميراث الريح).وعرض الدويري من العروض – لا تزال – ذات الطابع الأكثر حداثة في ذاكرة المسرح المصري. ثراء العناصر المرئية والصوتية في المشهد المسرحي، وهيمنة للشاشات الإعلامية المتسلطة بشخوصها المكبَّرة، وكذلك الكتلة المفرغة الحديدية في الخلفية بدرجاتها التي يستغلها كتكوينات للأسر والقهر، وفي ذات الوقت كارتفاعات يتسلقها ويهبط عنها قطيع الشعب الجائع والمحلَفون الذين يشهدون المحاكمة، جميعهم يرددون ترديدا أعمى كلمات نموذج رجل الدين الذي يسوق الجميع إلى حظيرة تسلطه وقصور تأويلاته للكتاب المقدس. في حركتهم تلك تنعكس بصريا قفزة القرد في علاقتها بنموذج التطور الإنساني عند داروين حيث تدريس كتابه (أصل الأنواع) هو موضوع الاتهام، والمدرس الشاب في القرية الواقعة في قيود الجهل وإنكار العقل هو المتهم. يهيمن على الموسيقى التصويرية والأغنية المسرحية أصوات الريح ومؤثر التصوير المتلاحق للكاميرا الذي يؤكد سيطرة الصورة وقوة تأثير خطاب الشاشات المعاصرة حد الجروتسك المبالِغ والمشوِّه فيما يتعلق ببعض الأداء التمثيلي، وباللقطة وحجمها، والاكسسوار المسرحي، والخشونة الحركية في بعض الأوقات، والذي يتألق في تناقضه مع عذوبة الأكورديون السارح في شوارع القرية، والقصة العاطفية الرقيقة المتوارية خلف صخب الصراع بين المُعلم المتهَم وابنة المتسلط روحيا على القرية باسم الدين .
ربما يدهشك وأنت تتابع تسجيل المسرحية المتاح كيف أن هذا الممثل الذي يبدو كلاسيكي المنشأ والمحتوى يتفاعل مع عناصر العرض ووسائطه المتعددة ليجد لنفسه موقعا متناغما فيما بينها، ويوقِّت حضوره. يقَلِّب بمهارة مهندس الإضاءة أبو بكر الشريف ممراته الضوئية الرهيفة والشاشات الباردة المتسلطة على المشهد تقلبا إيقاعيا يندمج عبد الغفور فيه اندماج المتيقظ لكل مفردات هذا الخضم حتى يعزف نوتته الأدائية. كيف يمتد الشغف إلى هذا العمر – على قلة المتاح لإبرازه – لنستمتع بمثل هذا التوزيع التمثيلي، قياسا على التوزيع الأوركسترالي، لطبقات الشخصية وتوازياتها. يجمع بين شهوات الأكول، والمحب للظهور الملتفت منتشيا لكل ضوء للكاميرا، والمتباهي بالخطابة والأناقة الكلاسيكية والشهرة، كل ذلك مع كونه مدافعا عن الحق يقينا حتى وإن اكتشف بنفسه هشاشة الأساس الذي يستمد منه يقينه وشعبيته، مما يقضي عليه في النهاية في حلبة صراع المحاكمة التي يقيمها المخرج في صميم تحولات سينوغرافيا العرض. وبدرجات متفاوتة من الحماسة الدينية والتعصب .
لاستجابته المتكررة للكاميرا لفتة ذات تأثير كاريكاتيري. يكرر في سياق آخر حركة لا تخلو من مثل هذه اللمحة الكاريكاتورية ولكن بدرجة أقل عندما يقفز قفزة لأعلى مع ارتفاع اليد اليمنى وصوته بتبجيل المقدس، ذلك أنها تختلط هذه المرة ببعض قناعة وحرارة عاطفة. ميزان مرهف الحساسية. شيء طفيف ومركَّب في صدقيته يفصله عن النموذج الشائه للمتاجر بالدين والمقدس. شيء يجعل محامي الخصم يرثيه وينقبض لموته، “غير متصور للعالم بدونه”. هذا الشيء الطفيف الذي حققه بجدارة أثقل كفته في الصراع، بحيث لم يخل سعيه من معنى أو حق إنساني وحقيقة، حتى وإن كان العرض يميل إلى خصمه ورؤيته العلمية المستقبلية .
وإذا كان من المنطقي بعد هذه الجولة العشوائية في قائمة أعماله أن “يطلق الشِعر على سجيته كأنه حديث حافظ اليومي، ويتبع شخصية ومعنى.” عام 2010 على المسرح الحديث في عرض (يا ساكني مصر) من تأليف يسري الجندي وإخراج سمير العصفوري، ويقدم مع محمود الحديني عرضا ممتعا عن حافظ وشوقي، والذي لولاهما – هذيْن المؤدييْن العظيميْن للفصحى – ما كان ممكنا، فأرجو ألّا يكون قد فاتك مغامرته عام 2018 على المسرح القومي. تشاهده مستمتعا في لعبة مسرحية جديدة، وبحس تجريبي في إلقاء شعر واحد من أساطين العامية المتجذرة في الثقافة المصرية، وهو فؤاد حداد، ومن إخراج أحمد إسماعيل المنجذب إلى مسرحة شعره لعقود. قد كنت تحب أن ترى في عرض (حي على بلدنا) هذه الرغبة الصبية في اللعب بإيقاعات العامية عبر تناسق إيمائي صوتي يكشف عن طبيعة النص ومفارقاته اللغوية والنغمية عندما تتخلل جسدا طيعا حرا، يطرب للإيقاع والمعنى في إطار من أسلبة مسرحية واعية .
والسؤال المضني الآن هل ما زال في أزمنة المادية القصوى التي نعيشها، وعداء التاريخ، وطبقات العمق الحضاري من يحمل مشعلا أو يشعل فتيلا في مدى الظلمة له ولغيره من السائرين، من يهون عمره في وجد الحرفة ليدهشنا بكل تطور، وتعمق، وشوق جديد. وبحضوره يتصل الماضي بالحاضر المتهييء لاستقبال اللحظة الإبداعية. وبوجوده نطمئن للمسير، وإن كان متثاقلا أعشى ؟
الآن ماذا نتوقع وقد انعدم الإنتاج الإذاعي الدرامي العريق أو كاد، وتوارت تلك الجدية المسرحية المطردة، وتلك كانت منابع صقل موهبة وثقافة الفنان المصري. فنان مثل أشرف عبد الغفور. لم يسعفه وهج النجوم الباكر وتدفقات الأدوار العاطفية والجماهيرية، لكنه وجد بابا فطريقا من الدأب المتأني المتمهل والمتأمل، فراكم معيارية دقيقة في وزن عناصر الدور وملامح الشخصية ومحيطها الإبداعي .
في ساحات انتظار عديدة في الطرقات الآن، بعد معاول نشطت بليل، سننتظر الإجابة .

التعليقات متوقفه