ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :سيرة ذاتية لامرأة شجاعة

102

شغفتُ بقراءة كتب المذكرات التى يكتبها ساسة ومفكرون وكتاب وأدباء وفنانون وعاديون من البشر.لم يكن شغفا يشبه تطفل بعض من يبحثون فى هذا اللون الفريد من الكتابة عن زلات الآخرين، ومن يسعون للتنقيب بين سطوره عن خبايا الحياة الشخصية غير المتداولة لإرضاء غريزة التلصص على حياة الآخرين والتدخل فى شئونهم، أو لاستخدمها فى التشهير الشخصى أو السياسى بهم، كمثل هؤلاء الذين اختصروا شخصية فذة فى تاريخ النضال الوطنى المصرى مثل الزعيم سعد زغلول فى أنه اعترف فى مذكراته بأنه كان مقامرا.!

المذكرات التى تنطوى على السيرة الذاتية لكاتبها، وسير الشخصيات العامة التى يكتبها عنهم غيرهم،هى كنز متراكم من الخبرات الحياتية والمعرفية التى تضيف لقارئها عمرا جديدا.فهى تتيح للقارئ فرصا للتعرف والتعلم من نجاحات واخفاقات تجارب لم يخضها، وفهما للبيئة التى انتجتها، وانتجت غيرها من قرارات سياسية لقادة قد تغير فى مصائر الدول والشعوب، وقد تنهض بأمم، وتنتكس بأخرى.لكل تلك الأسباب ولغيرها، أنهيت قراءة مذكرات الكاتبة والمترجمة والناشطة النسوية اليسارية ” نولة دروريش”الصادرة منذ أيام عن دار الكرمة تحت عنوان “..وأجمل الأيام ستأتى حتما “فى ليلة رمضانية واحدة، حيث يكون الوقت لا حساب له. وكما هو واضح من إيحاء عنوان الكتاب الذى هو شطرة من قصيدة من أبدع وأشهر القصائد العالمية للشاعر ناظم حكمت، أن ما تسرده عن نشأتها منذ الطفولة وحتى الآن كان رحلة شاقة مثقلة بالألم والتحديات والضغوطات الأسرية والاجتماعية التى تفرض عليها طوال الوقت أن تكون غير نفسها.
نشأت نولة درويش فى بيت يرفل فى أقلية من كل نوع.أسرة يهودية و شيوعية ومثقفة تنتمى لشريحة متقدمة من الطبقة الوسطى، يقودها الأب المحامى العمالى اللامع والمناضل “يوسف درويش” الذى قرر لأسباب نضالية أن يعلن إسلامه، لكى يقترب من الفئات العمالية الكادحة الذى وهب حياته للدفاع عنها فى ساحات المحاكم، وهو ما قاده لتأسيس دار الخدمات النقابية والعمالية لتقديم الاستشارات القانونية لتوعية العمال بحقوقهم، فضلا عن أم وزوجة عاشقة ترعاها هى وأخيها غير الشقيق. عاشت الكاتبة طفولة ملبدة بالخوف والترقب فى ظروف صعبة على الكبار، فما بالك بطفلة صغيرة عليها أن تواجه مخاطر القلق على أب ما يكاد يخرج من ظلمة السجن حتى يعود إليه مرة ثانية. طفلة تجوب مع أمها كل أنواع السجون لزيارة الأب، وهى رحلة لمن عاينها تكبد أوجاعا تترسب فى الأبدان وجراحا فى النفوس طول العمر، لاسيما فى تلك الأزمان التى كان يسقط فيها مناضلون موتى من التعذيب فى السجون، بينهم طبيب الأسرة والفقراء والغلابة الشاب الدكتور “فريد حداد” الذى خلف استشهاده والكاتبة لم تتجاوز سن العاشرة، ندوبا لم تندمل لديها ولدى كثيرين حتى اليوم.
بدأت نولة دوريش علاقتها مع نفسها ومع الآخرين ومع العالم من حولها بمشكلة فى الاسم الذى تحمله، حيث بدا غير مألوف فيما هو شائع من اسماء فى المجتمع الذى تتحرك فى أوساطه. ومع أن كلمة نولة فى قواميس اللغة العربية تعنى عطاء، وهوما قصدته والدتها وهى تبشر الزوج بمقدمها كهدية تحملها إليه فى سجنه، إلا انها لم تفلت من أسئلة دائمة تطلب تفسيره، كما أكسبتها ملامحها الجميلة الأقرب للمرأة الأوروبية معاناة لم تكن ترغبها.وما كادت الكاتبة تصل إلي سن الثلاثين حتى صارت أما عزباء مطلقة تعيش مع ابنتها بعيدة عن أخيها وأبويها اللذين اضطرتهما الظروف السياسية للعيش سنوات والعمل فى الجزائر وتشكوسلوفاكيا، وتتنقل من عمل لآخر لتوفير متطلبات الحياة.
من يقرأ كتابها الحافل بالبساطة وخفة الظل، والقدرة على الحكى الآخاذ، سوف يتبين له أننا أمام امرأة قوية وشجاعة، استطاعت فى رحلة البحث عن طريقها الخاص التائق دوما إلى العدل والمساواة، أن تروض صدمات الطفولة، وأن تصمد أمام نوائب المرض، وأن تفلت من كدمات الحياة وخذلانها، متسلحة بتراكم ثقافى، وتعليم رفيع المستوى واتقان للغات الأجنبية، فى سلة واحدة عمادها قوة الإرادة والاعتماد على النفس.
عرفتُ نولة درويش فى حزب التجمع حينما كانت واحدة ممن شكلن فى مؤتمر الحزب الأول اتحاد النساء التقدمى، واستغربت كثيرا عن الإشارات غير الودية الواردة فى كتابها عن التجمع وأعضائه. وكنت أتمنى وهى شاهدة على نشأة وعمل ثلاث منظمات يسارية هى الحزب الشيوعى المصرى ومنظمة شروق وحزب التجمع، أن تكشف بكثير من التوسع والمعلومات التى لا يعرفها غيرها،عن تلك المنظمات خدمة للتاريخ والسياسة.وربما يكون العذر فى عدم حدوث ذلك، هو اختيارها بالابتعاد عن العمل السياسى المباشر والانخراط فى ميدان العمل النسوى الذى ساهمت فيه مع غيرها فى إصدار واحدة من أهم المجلات المتخصصة فى دراسة قضايا المرأة فى بداية الألفية الجديدة هى مجلة “طيبة “.

التعليقات متوقفه