نصيب دعم الخبز من الناتج ينخفض للنصف في 10 سنوات
أصبح دعم الخبز موضوع جدل واسع، لكن هذا الجدل بقي سطحيا في معظم الأحيان، حيث وضعته الحكومة على أرضية معادلة هل يكون الدعم عينيا أو نقديا؟ وأقول أنه بقي سطحيا لأن أحدا لم ينفذ إلى جسم الدعم لتشريحه، وكشف مكوناته والعلاقة بينها. كما أننا نحتاج إلى جانب عملية التشريح، أن نعيد مناقشة مبدأ المسئولية الاجتماعية للدولة كوظيفة أساسية من وظائفها، وليس مجرد شعار يتم تسويقه لإبعاد الشبهات. ولا يكتمل الجدل في مسألة دعم رغيف الخبز دون مناقشة السياسة الاقتصادية والزراعية، والحاجة إلى زيادة معدل الاكتفاء الذاتي من القمح، وأن يتضمن الجدل موضوع الفقر بمعناه النقدي والاجتماعي، ولماذا بعد عقود طويلة من مزاعم التنمية، ونحن نقترب من منتصف القرن الحادي والعشرين، لا يزال لدينا ملايين المصريين عاجزين عن توفير احتياجات حد الكفاف؟ ومن ثم فإن الموضوع الحقيقي للجدل في مسألة دعم رغيف الخبز لا يتعلق بما إذا كان نقديا أو عينيا، وإنما يتعلق بضرورة توفير الحد الأدنى الكافي من الدخل النقدي والعيني لتوفير حياة كريمة لما يقرب من 65 مليون مواطن يعتمدون على الدعم التمويني، ورفع نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح والمواد الغذائية.
مسئولية السياسة النقدية
من المفيد أن نعرف أن حصة دعم السلع التموينية في الموازنة الجديدة قياسا إلى الناتج المحلي الإجمالي تعادل نصف ما كانت عليه قبل عشر سنوات. ففي مشروع الموازنة بلغت مخصصات دعم السلع التموينية حوالي 134 مليار جنيه، ما يعادل 3.5% من الموازنة العامة للدولة، وما يقل عن 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي. وتقدر الحكومة دعم الخبز وحده (قبل رفع الأسعار بنسبة 300%) بحوالي 100 مليار جنيه، ما يعادل 0.58% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر للسنة المالية 2024/2025.
ولغرض المقارنة فإن أرقام ختامي موازنة عام 2014/2015 تظهر أن دعم السلع التموينية بلغ حوالي 35 مليار جنيه بما يعادل 5.1% من المصروفات العامة للدولة، و 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا يعني أن دعم السلع التموينية منذ عشر سنوات كان يعادل ضعف نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي. أي أن كل هذه الهستيريا بشأن دعم الرغيف، لتصويره على أنه سبب الكارثة الاقتصادية الحالية، لا تمس إلا أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي لدعم كل السلع التموينية، منها 0.5% من الناتج لدعم للخبز.
مبالغة في سعر القمح المستورد
كما يجب أن نعلم أيضا أن حسابات وزارتي المالية والتموين تتعمد تضخيم القيمة الأسمية للدعم، وذلك عن طريق تضخيم تكاليف استيراد القمح، وتكاليف إنتاجه، ما أدى إلى حساب تكلفة إنتاج الخبز التمويني، وهو أردأ أنواع الخبز، بواقع 1.3 جنيه للرغيف الواحد. وبناء على تضخيم التكاليف جرى حساب قيمة الدعم في مشروع الموازنة بقيمة 100 مليار جنيه، قبل إعلان زيادة أسعار الخبز التمويني بنسبة 300% اعتبارا من أول يونيو الحالي.
وحتى تتضح الصورة، فإن وزارة المالية حسبت سعر القمح المستورد بواقع 280 دولارًا للطن، بدون تغيير عما كان عليه في الميزانية الحالية. لكن في الوقت الذي كان يتم فيه إعداد مشروع الميزانية كانت أسعار القمح تتراجع عالميا. في الشهر الماضي تراوحت أسعار القمح الصادر من منطقة البحر الأسود وروسيا، وهي المورد الرئيسي لمصر بين 200 إلى 220 دولارا للطن، وترتفع بحوالي 10 – 20 دولارًا للدفع المؤجل. السعر لم يصل إلى 280 دولارا للطن أبدا منذ بداية الموسم الحالي، وهي الفترة التي تتعاقد فيها مصر على شراء القمح من الخارج، خصوصا بعد أن نجحت في إقامة صوامع حديثة لتخزين ما يزيد على 5 ملايين طن سنويا.
وتحتاج مصر إلى استيراد 12 مليون طن من القمح سنويا في المتوسط، نصفها تقريبا تتعاقد عليه الهيئة العامة للسلع التموينية، بينما يتولى القطاع الخاص استيراد النصف الآخر. وبافتراض أن الهيئة كانت تستورد الطن في العام الماضي بقيمة 280 دولارا، فإن هذا كان يعادل 8680 جنيها على أساس أن سعر الدولار كان 31 جنيها. وإذا افترضنا جدلا أن الحكومة ستدفع المبلغ نفسه بالدولار لمصدري القمح فإن المعادل بالجنيه المصري، على أساس 45 جنيها للدولار يصبح 12600 جنيه للطن. أي بزيادة 3920 جنيها في الطن الواحد. هذه الزيادة تتحمل مسؤوليتها الحكومة وليس المواطن المستهلك للخبز؛ لأن سياستها هي التي تسببت في تدهور قيمة الجنيه المصري. طبعا هناك نواحي فساد كثيرة جدا في منظومة دعم الخبز، تؤدي إلى تضخيم التكاليف، تبدأ من هيئة السلع التموينية وتمتد حتى المخبز ونقاط التوزيع. هذا الفساد سيستمر رفيقا لمنظومة الدعم، سواء كان عينا أو نقدا.
ولهذا فإن الجدل بشأن دعم الخبز لن يتوقف هذا العام أو العام القادم، أولا لأن احتمال تراجع الجنيه المصري أكبر من احتمال تماسكه. وثانيا لأن فجوة الاكتفاء الذاتي من القمح تتسع. وثالثا لأن الدخل الحقيقي للفئات الاجتماعية الفقيرة وغير القادرين يتدهور. ورابعا لأن الدولة تتصرف في مسألة الخبر بمنطق صاحب مخبز، وليس بمنطق السلطة السياسية التي تتحمل مسئولية اجتماعية رئيسية تجاه الشعب.
التعليقات متوقفه