بكين تقود انقلابًا في موازين القوى العالمية..القمة الصينية الخليجية خطوة نحو البترويوان

2

قدم الرئيس الصيني شي جين بينج لقادة الجزيرة العربية عرضًا لا يمكن رفضه: سوف تصبح الصين مستهلكًا مضمونًا ودائمًا للنفط والغاز، مقابل الدفع باليوان.

تقدم القمم الصينية الثلاث في السعودية نموذجًا ومثالًا فريدًا لما يشهده العالم من تحول نحو تعددية الأقطاب، حيث يصف مراقبون الحدث بأنه بداية عصر البترويوان.

لكن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، فبقدر ما تنطوي هذه المبادرة نحو البترويوان على انقلاب جذري تدبره الصين في موازين القوى العالمية، إلا أن الدبلوماسية الصينية تتميز بقدر كبير من التعقيد بحيث إنها لا تسعى للدخول في المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، التي تصارع بضراوة على البقاء في قيادة العالم منفردةً.

في القمة الخليجية، أعلنت الصين ضمنيًا أنها ستتجه لشراء النفط والغاز حول العالم باليوان من خلال بورصة شنغهاي للنفط والغاز، في ظل أن 80% من التجارة في سوق النفط العالمية لا يزال يتم تسعيرها بالدولار الأمريكي.

بعد أن غطت وسائل الإعلام لقاءات الرئيس الصيني مع قادة الدول العربية، وعدت بكين “باستيراد النفط الخام والغاز الطبيعي بطريقة متسقة وبكميات كبيرة من دول مجلس التعاون الخليجي”.

أكبر مستورد

وتعد الصين أكبر مستورد للنفط الخام على الكوكب منذ قرابة خمس سنوات، يأتي نصف هذا القدر من الخليج العربي، وأكثر من ربعه من المملكة العربية السعودية تحديدًا. لذلك لا عجب أن كلمة الرئيس الصيني الافتتاحية في الرياض ركزت على تعميق سبل تجارة النفط، وتثني على الشراكات الإستراتيجية/التجارية المتزايدة مع جميع أطراف مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة لحديثه عن التكامل في مجالات “الاتصالات من الجيل الخامس والطاقة الجديدة والفضاء والاقتصاد الرقمي”.

خيار استراتيجي

وأكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي تطوير “الخيار الاستراتيجي” للصين والجزيرة العربية  لنطاق أوسع. فتم توقيع  صفقات تجارية بقيمة تتجاوز 30 مليار دولار، عدد غير قليل منها ارتبط بشكل كبير بمشاريع مبادرة الحزام والطريق الطموحة في الصين.

وهذا ما يقودنا إلى القضيتين المفتاحيتين بالنسبة للعلاقات الصينية الخليجية في هذه القمة: مبادرة الحزام والطريق ومنظمة شنغهاي.

طريق الحرير العربي

حصلت المبادرة على دفعة قوية من بكين في عام 2023، مع عودة منتدى الحزام والطريق. عُقد أول منتديين نصف سنويين في عامي 2017 و 2019. لم يحدث أي تقدم  في عام 2021 نتيجة لسياسة الصين الصارمة لمكافحة فيروس كورونا، والتي تم التخلي عنها الآن لأغراض عملية.

لا تمثل مبادرة الحزام والطريق مبادرة اتصال وتجارة متعددة المسارات فقط، لكنها تعبر عن المفهوم الصيني للعلاقات الخارجية ورؤيتها النظام العالمي الجديد، والتي ظهرت في أواسط القرن الـ21. لذلك من المتوقع أن يقدم منتدى 2023 للمبادرة سلسلة من المشاريع الجديدة والمعاد تصميمها لتتكيف مع عالم ما بعد كوفيد المحمل بالديون العالمية، كذلك سيتعاطى مع الصراع الجيوسياسي والجيو اقتصادي بين التصورين الأطلنطي والأوراسي.

قبل القمة الخليجية الصينية قام تشي بأول رحلة خارجية له بعد  انقضاء الجائحة، لقمة منظمة شنغهاي للتعاون التي انضمت فيها إيران رسميًا كعضو كامل العضوية. أبرمت الصين وإيران في عام 2021 صفقة شراكة إستراتيجية مدتها 25 عامًا بقيمة استثمارات  تبلغ 400 مليار دولار. وهنا الشق الثاني لإستراتيجية الصين لغرب آسيا ذات الشقين.

يمثل تسعة أعضاء دائمين في منظمة شنغهاي للتعاون الآن حوالي 40% من سكان العالم. كان أحد قراراتهم الرئيسية في سمرقند هو زيادة التجارة الثنائية، والتجارة الشاملة، بالعملات الوطنية وليس الدولار.

الاقتصادي لأوراسيا

وهذا ما يقودنا أيضًا إلى ما يحدث في بيشكيك، قرغيزستان، في تزامن كامل مع ما يحدث في الرياض: اجتماع المجلس الاقتصادي الأعلى لأوراسيا، الذراع التنفيذي للاتحاد الاقتصادي لأوراسيا.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في قيرغيزستان:  “لقد تسارع العمل في الانتقال إلى العملات الوطنية في التسويات المتبادلة… بدأت عملية إنشاء بنية تحتية مشتركة للدفع ودمج النظم الوطنية لنقل المعلومات المالية”.

سيعقد اجتماع المجلس الاقتصادي الأعلى الأوراسي  المقبل في روسيا في مايو 2023، قبل منتدى الحزام والطريق. حين نرى الاجتماعين معًا يصبح لدينا خطوط خارطة الطريق الجيواقتصادية المقبلة: التوجه نحو عصر البترويوان بالتوازي مع التوجه نحو “بنية مالية تحتية مشتركة”، والأهم من ذلك كله، نحو عملة بديلة جديدة تتجاوز الدولار الأمريكي.

هذا بالضبط ما كان يخطط له صانع السياسة الاقتصادية الكلية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، سيرجي جلازييف، جنبًا إلى جنب مع المتخصصين الصينيين.

حرب تجارية ومالية شاملة

التحرك نحو البترويوان سيكون طريقًا محفوفًا بالمخاطر.  فمن المعروف أن هذا المسار سينهي الهيمنة الأمريكية التي استمرت لخمسة عقود.  باختصار، قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بسحب بلاده من معيار الذهب، وبعد صدمة نقص النقط عام 1973، تقربت واشنطن من الرياض وقدمت عرضا لا يمكن رفضه، تشتري الولايات المتحدة النفط بالدولار وبالمقابل تشتري السعودية سندات الخزانة الأمريكية، والكثير من الأسلحة.

إن الانقلاب على هذا النظام دفعةً واحدة يهدد الجميع، لذلك يرى كثيرون أن الصين ودول الخليج سيتجهون نحو البترويوان ببطء وبدون ضجة. من الصعب على الصين أن تضحي بالترليون دولار المملوكة لها في الولايات المتحدة. كذلك ليس من السهل على الخليج تحقيق استقلال اقتصادي حيث ترتبط الثروة النفطية حتى الآن بالدولار. يتوقع بيبي إسكوبار، المحلل والكاتب الصحفي البرازيلي, بهذا الصدد أن الولايات المتحدة قد تلجأ لتنظيم الانقلابات داخل النظام الملكي السعودي لتفادي التقدم السعودي نحو البترويوان.

ومع ذلك، فإن ما يهدف إليه الصينيون والروس – يتجاوز المأزق السعودي (والإماراتي). حددت بكين وموسكو بوضوح كيف يرتبط كل شيء -سوق النفط وأسواق السلع العالمية- بدور الدولار الأمريكي كعملة احتياطية، وقد بدأ الاستهداف منذ فترة طويلة.  هذا هو بالضبط ما تركز عليه مناقشات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي؛ ومناقشات منظمة شنغهاي للتعاون؛ ومن الآن فصاعدًا مناقشات بريكس+؛ وإستراتيجية بكين ذات الشقين في جميع أنحاء غرب آسيا.

تقوم بكين وموسكو، ضمن إطار البريكس، وكذلك داخل منظمة شنغهاي للتعاون والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بتنسيق استراتيجيتهما عن كثب منذ العقوبات الأولى على روسيا بعد أحداث ميدان 2014، والحرب التجارية  ضد الصين التي اندلعت في عام 2018 .

والآن، بعد أن تحولت العملية العسكرية الخاصة التي شنتها موسكو في أوكرانيا في فبراير 2022 إلى حرب من قِيل الناتو ضد روسيا، فقد تجاوز الصراع أساليب الحرب الهجينة وانتقل إلى حرب مالية شاملة.

وداعًا سويفت

تعمل روسيا منذ عام 2014 على تحسين نظام الدفع الخاص بها، بالتوازي مع تطوير نظام الدفع الإلكتروني الصيني، متجاوزة نظام الرسائل المصرفية السريع “سويفت” الذي يشغله الغرب، الذي يُستخدم بشكل متزايد من قِبل البنوك المركزية في جميع أنحاء آسيا الوسطى وإيران والهند. في جميع أنحاء أوراسيا، المزيد من الناس يتخلصون من فيزا وماستركارد ويستخدمون بطاقات يونيون باي، والدفع عبر ويشات، وكلاهما لهما شعبية كبيرة للغاية في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا.

وبطبيعة الحال، فإن البترودولار ــ والدولار الأمريكي، الذي لا يزال يمثل أقل من 60 % من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية ــ لن يذهب إلى النسيان بين عشية وضحاها. القمة الصينية الخليجية- العربية هي مجرد فصل جديد في التحول الزلزالي الذي تقوده الآن مجموعة مختارة في دول الجنوب العالمي، وليس من قِبل “القوى العظمى” السابقة.

التداول بعملاتهم الخاصة والسعي لتغليب عملة بديلة عالمية جديدة هو على رأس أولويات تلك القائمة الطويلة من الدول – من أمريكا الجنوبية إلى شمال أفريقيا وغرب آسيا- الدول حريصة على الانضمام إلى بريكس أو منظمة شنغهاي للتعاون.

الأمور الآن على الحافة، الصراع على السيادة في أعلى درجاته، وقد يكون تصريح سيرجي لافروف في مؤتمر الخيار الأوراسي بين الدول الأطراف مناسبًا للختام: “السبب الرئيسي للتوترات المتزايدة اليوم هو السعي العنيد للغرب في الحفاظ على هيمنة تتناقص تاريخيًا على الساحة الدولية بأي وسيلة ممكنة-من المستحيل إعاقة تعزيز المراكز المستقلة للنمو الاقتصادي والقوة المالية والنفوذ السياسي. إنها تظهر في قارتنا أوراسيا، وفي أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا”.

التعليقات متوقفه