لقطات ..د. جودة عبدالخالق يكتب :أطالب بإنشاء متحف لملحمة الصمود والانتصار في السويس

7

الزمان: 24 أكتوبر 1973، حوالى العاشرة مساء بتوقيت شرق كندا (الثالثة عصرا بتوقيت مصر). المكان: خيمة في إحدى الغابات بمقاطعة أونتاريو في كندا تضمنا أنا وزوجتى واثنين من أصدقائنا الطلبة المصريين، أحمد وزوجته فاطمة. الظلام يُغَلِّف المكان. والسكون يغمر كل شيء. لا تسمع إلا حفيف الأشجار، يقطعه صوت الطيور بين الفينة والأخرى. جو ينقلك الى عوالم رحبة من التدبر والتأمل. فقد كنا نحتاج إلى استراحة محارب لتخفيف القلق الفردى الذى ينتاب طلبة الدكتوراه. في المراحل الأخيرة من إنجاز الرسالة العلمية. لكن الأهم كان القلق الجمعى على خلفية مجريات حرب تحرير الأرض التي يخوضها الوطن على بعد أكثر من تسعة آلاف كيلومتر. بطريقة لا شعورية، أخذت أُحَوِّل مؤشر المذياع بين المحطات. وفجأة سمعت المذيع في إحداها يقول “نبأ عاجل: جاءنا للتو أن السيدة جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في طريقها الآن الى مدينة السويس لتسلم مفتاح المدينة من المحافظ”.

نزل علىَّ الخبر كالصاعقة. انفجر بداخلى بركان هائل؛ مزيج من الخوف والترقب. كأن جبال الدنيا كلها جثمت على صدرى. هل هذا الخبر صحيح أم مُفَبرَك؟ هل سيتحقق فعلا استسلام السويس؟ في هذه الحالة ستُنَكَّس أعلامُنا وسيُقَتَّل رجالُنا ونساؤنا ممن بقوا في السويس للمقاومة والدفاع عن بلد الغريب. وسيُحكِم الجيش الاسرائيلى طوق الحصار حول رجال الجيش الثالث البواسل. وستنطلق قوات العدو على الطريق المفتوح من السويس ليصلوا الى قاهرة المعز في نحو ساعة! فالحساب الإستراتيجي يقول أن سقوط السويس يعنى حتما سقوط القاهرة. وإذا سقطت القاهرة، فلن تقوم للأمة العربية قائمة. شعرت بأن كابوس يونيو يوشك أن يعود، بعد أن كان قد اختفى بفضل العبور العظيم في أكتوبر. انتابنى إحساس أشبه بمن يقود طائرة على ارتفاع شاهق وفجأة أصاب محركاتها عطب، فأخذت تهوى نحو الأرض بحركة لولبية. وكأن الأرض تدور من حولى بسرعة متزايدة، وأنا في انتظار لحظة النهاية. لحظة الارتطام بالأرض. وانزاح الكابوس عندما جاء النبأ بأن جولدا مائير لن تتسلم مفتاح السويس بعد أن مُنيت قواتهم بخسائر فادحة.
الطريف أن قائد القوات الإسرائيلية المهاجمة تصور أن السويس هي بير سبع (يقصد المدينة الفلسطينية التي استولت عليها القوات الصهيونية بسهولة في حرب 1948). لكن اتضح لهم أنها كانت أشبه بستالينجراد (المدينة الروسية التي فشلت الجيوش الألمانية في احتلالها في الحرب العالمية الثانية رغم تكبدهم خسائر فادحة). إن صمود السويس ملحمة عظيمة حافلة بالدروس. وطبقا لدراسة تفصيلية نشرها مؤخرا مركز الحرب الحديثة في أكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، فإن الدفاع عن المدينة كان قمة في التنظيم والتنفيذ، فكان النصر حليف المدافعين. وارتكبت القوات الإسرائيلية المهاجمة العديد من الأخطاء الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية، فكانت خسائرهم عالية وكانت هزيمتهم ساحقة. ويرى مؤلفو الدراسة أن تلك المعركة تقدم لنا دروسا فريدة وهامة لحروب المدن في المستقبل، والتي يكون الغرض منها الاستيلاء على المدينة. وأعتقد أن هذا الاستنتاج بالغ الدلالة بالنسبة للاجتياح الاسرائيلى المرتقب لقطاع غزة.
وأرى أن الدراسة الأمريكية تجاهلت أمرين هامين. أولهما العامل الوجودى في صمود وانتصار مدينة السويس. فرجال المقاومة كانوا يدافعون عن وجودهم ذاته، أما قوات العدو المهاجمة فلاذت بالفرار من شدة خسائرها وشراسة المقاومة. وثانيهما دور الفن في شحذ الهمم. ففي ملحمة الصمود والانتصار في السويس، كانت السمسمية في ظهر البندقية. فتفجرت طاقة معنوية هائلة وكانت من أهم العوامل التي حسمت المعركة. وبمناسبة نصف قرن، فإننى أطالب من هذا المنبر بإقامة متحف حربى في مكان مناسب في السويس لتوثيق وتجسيد ملحمة صمود وانتصار المدينة. أعلم أن إحدى قاعات متحف السويس القومى مخصصة للملحمة، ولكنها غير كافية ولا تتناسب مع عظمة الإنجاز وخطورته. وأتمنى من السيد محافظ الإسماعيلية اللواء عبد المجيد صقر أن يستجيب لهذا الطلب، ولديه إرادة الإنجاز. وإذا كان التمويل عقبة، فيمكن تدشين حملة شعبية لتوفير ما يلزم. ويسعدنى أن أكون أول المساهمين.

التعليقات متوقفه