ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :عام قومى لبحث المشكلة الزراعية

88

من عجائب الكون، أن مصر، فجر الضمير الإنسانى، التى روضت النهر وشقت الترع وعلمت العالم أصول الزراعة وطرق الرى والحصاد، وعظمت من شأن كل ذلك فسمت آلهة للزراعة والخضرة والحقول والحبوب، ومياه النيل والمحاصيل وخصوبة الأرض، وكانت فى قرون التاريخ الأولى سلة غذاء العالم، تعانى –يا للكسوف -من أزمة غذائية، وتستورد معظم احتياجاتها من المواد الغذائية الأساسية لتعويض نقصها من الانتاج المحلى، وتستدين لكى توفر غذاءها!.

ومنذ أعلن الرئيس السادات فى خطاب علنى، عقب تبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادى عام 1974، أن الأرض “غليت وبقالها سعر” والرقعة الزراعية فى مصر، التى كانت قد توقفت عند أقل من 6ملايين فدان، قد أخذت فى التراجع والتقلص تدريجيا، بفعل زحف المبانى السكنية والمنشآت التجارية على زمام الأراضى الزراعية .
ولم يكن هذا الزحف سوى نتيجة واحدة من نتائج السياسات الزراعية العشوائية التى سادت عبر عدة عقود .إذ أُلغيت الدورة الزراعية، التى كانت تسمح بزراعة متتالية لعدة محاصيل محتلفة لفترة معينة، وكانت تلعب دورا أساسيا فى تحسين خصوبة التربة، بما يحقق زيادة فى انتاج المحاصيل الزراعية فى قطعة الأرض الواحدة ، ويوفر تنوعها. وكانت قواعد عمل الدورة تتيح شكلا من التناوب بين المحاصيل المزروعة، بما يحسن القدرة على تطويرها وتنميتها وحمايتها من الأمراض الزراعية المألوفة .
وكان تعثر الحركة التعاونية سببا آخر من أسباب تلك الأزمة بتعدد القوانين التى تسيرها، وقدمها وعدم صلاحيتها للاستمرار، برغم أن مصر كانت من الدول الرائدة فى مجال التعاون الزراعى لخدمة مشاريع التنمية فى الاقتصاد الوطنى. و لم يكن خافيا عمن يديرون أمور السياسة خلال العقود الماضية، أن التعاونيات تسهم بقدر لا يستهان فى الاعتماد على الذات لتحقيق ما وصفه مؤتمر الغذاء العالمى للأمم المتحدة عام 1974 بالأمن الغذائى، وكان يقصد منذ من سك هذا المصطلح على وجه الخصوص ، توفير محصول القمح، بعدما صار سلعة سياسية بامتياز، تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية التى تصدرها كسلاح للضغط على الدول المستوردة، إن بتوفيرها أو بحجبها لفرض إرادتها السياسية على البلاد الصغيرة. وهو ما حدث بالضبط مع مصر فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
عم التفتت رقعة الأرض الزراعية المحدودة، بعد أن سيطر ملاك الأراضى وأصحاب المصالح على سلاح التشريع فى مجلس الشعب، وتمكنوا من استصدار قانون يحرر العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر فى الأرضى الزراعية، وهوما أدى للتوسع فى نطاق تفتيت الملكية الزراعية، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف مستلزمات الانتاج الزراعى على صغار الفلاحين. فضلا عن الإسراف فى استخدام أساليب الرى المهلكة للمياه، التى كانت سائدة قبل أن تتحول من الرش والغمر إلى التنقيط. وكان الدكتور “جمال حمدان ” قد سبق واقترح فى وقت مبكر أنه يمكن لمصر الاستفادة من نحو 3 مليارات متر مكعب من المياه المهدرة فى البحر المتوسط وتخزينها فى مناطق صالحة للاستصلاح الزراعى، وبترشيد استخدامات مياه النيل وإعادة تدوير مياه الصرف، بدلا من إضاعتها فى البحر، وتنبأ بأن مصر تستطيع بذلك مع حلول عام 2000 أن ترتفع بالرقعة الزراعية إلى ما يقرب من 14 مليون فدان. وها نحن فى العام 2024، بعد نحو ربع قرن من رؤية جمال حمدان، فإن الرقعة الزراعية بفضل الجهود الاستثنائية فى السنوات الأخيرة، لم تتمكن من تجاوز 9,7 فدان، بعدما سادت الميكنة الزراعية وتطورت التقاوى والأسمدة الزراعية وأساليب الزراعة الحديثة.
وفى بريدى تلقيت من الفيوم هذا الأسبوع رسالة من الاستاذ “جلال فوزى مراد” أحد المختصين بشئون المسألة الزراعية والمهتمين بحماس وشغف بالبحث فى علاج لمشاكلها، مرفق بها كتيب يسرد فيه ماضى وحاضر ومستقبل القرية المصرية ، فضلا عن ورقة الاقتراحات التى أرسل بها للمنسق العام لمؤتمر الحوار الوطنى ضياء رشوان، ورصد فيها ما أدت إليه السياسات الزراعية الماضية، فى تقليص حجم الرقعة الزراعية، وقلة عدد الخريجين من كليات الزراعة قياسا للكليات العلمية الأخرى، وتقليص دور وزراة الزراعة، والبيروقراطية التى توسعت فى مؤسسات لا دور لها للتعامل مع المنتجين.
الكتيب والورقة تقدمان حلولا ممكنة للخروج من تلك الأزمة، بينها حصر الملكيات الأقل من فدان وتعويض أصحابها وتجميعها فى ملكيات لمشروع التصنيع الزراعى، وانشاء صندوق لموازنة الأسعار بكل جمعية زراعية، ورفع مستوى التجريم من جنحة إلى جناية لذبح البتلو، والتفريق فى ختم الذبائح بين المحلى والمستورد لحماية الانتاج المحلى. ومن عندى أقول ووضع توصيات مجلس الشيوخ بشأن تطوير التعاونيات موضع التنفيذ، وتعديل قانونها بما يضمن الدور الحيوى الذى تقوم به.
أضم صوتى إلى اقتراح الاستاذ جلال فوزى أن ترفع أمانة الحوار الوطنى تلك الاقتراحات إلى الرئيس السيىسى، متضمنا الطلب من الرئيس أن يخصص عاما للزراعة، أسوة بعام المرأة والشباب وذوى الاحتياجات الخاصة، لبحث كل المشاكل التى تحيط بها، آملا فى أن تعود مصر إلى تاريخها التليد، فتعتمد على ذاتها، وتعود سلة لغذاء العالم.

التعليقات متوقفه