ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :سياسات التحايل على الحقوق

49

ما حدث أخيرا بموافقة مجلس النواب على خصخصة المنشآت الطبية لم يكن أمرا مفاجئا. لماذا ؟ لأن المفاجأة، لا سيما إذا كانت تشريعية ونيابية، صارت جزءا رئيسيا من السياسات الاقتصادية السائدة: فجأة ترتفع أسعار المواد البترولية ومنتجات الطاقة، وفجأة ترتفع قيمة فواتير الغاز والكهرباء المنزلية، وفجأة ترتفع قيمة تذاكر المترو، وفجأة ترتفع قيمة الخدمات الطبية فى المستشفيات الحكومية، وفجأة ترفع العيادات الخاصة قيمة الكشف لأربعة أضعاف، ثم تُعزى ذلك لزيادة نسبة الضرائب عليها، وفجأة ترتفع أسعار كل السلع الغذائية الرئيسية وغير الرئيسية، وفجأة ترتفع -دون إعلان -أسعار الأدوية قبل أن تختفى تماما من الصيدليات .

كل شىء يضّيق فرص الحياة الكريمة، بات يحدث فى المحروسة فجأة .صارت الحياة بالنسبة للغالبية العظمى من مواطنى بلادى، من الفقراء ومحدودى الدخل، مفاجآت يومية مزعجة ومؤلمة، وفوق احتمالات الطاقة والتحمل حتى لو بلغت نسبة الفقر وفقا للبيانات الرسمية نحو33% من عدد السكان، طالما كان الهدف تنازل الدولة عن أدوارها، ومنح المرافق العامة المملوكة للشعب وليس لرئيس الحكومة ووزير الصحة ورئيس اللجنة البرلمانية للصحة، للمستثمرين المصريين والأجانب لإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية القائمة !
أما أغرب ما فى تلك المفاجآة، فكان تبريرها بكم هائل من التضليل السياسى، يسهب فى الغموض والاستخدام الخادع للغة، ويخلط الأوراق بالتعمد والقصد .وبدلا من التوجه المباشر للهدف المطلوب منه مشروع القانون، وهو خصخصة الخدمات الطبية الحكومية، يصبح اسم الدلع للمشروع الحكومى هو” تنظيم منح التزام المرافق العامة، لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية “. ولا بأس هنا أن يشهر القائمون على البرلمان فضلا عن وزير الصحة فى وجوهنا نص المادة 18 من دستور 2014 ، الذى صوت المصريون فى الاستفتاء على نصوصه بنسبة بلغت 98.1% لحماية مستقبلهم ومستقبل وطنهم، الذين كانوا قد نجحوا بتضحيات غالية، فى استرداده من براثن فاشية دينية جاهلة، فى ثورة الثلاثين من يونيو، لكى يخدعوا المجتمع بالإدعاء أن خصخصة الخدمات الطبية العامة تستهدف توخى مصلحة وطنية عامة !!
أما النص الدستورى الذى قالوا لنا إن مشروع القانون الحكومى يسعى إلى تحقيقه فهو: لكل مواطن الحق فى الصحة، وفى الرعاية الصحية المتكاملة، وفقا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة، التى تقدم خدماتها للشعب ودعمها، والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3%من الناتج القومى الإجمالى، تتصاعد تدريجيا مع المعدلات العالمية . وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحى شامل، لجميع المصريين، يغطى كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين فى اشتراكاته أو إعفائهم منها، طبقا لمعدلات دخولهم .ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ، أو الخطر على الحياة . وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين فى القطاع الصحى .وتخضع جميع المنشآت الصحية والمنتجات والمواد ووسائل الدعاية المتعلقة بالصحة لرقابة الدولة .وتشجع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلى فى خدمات الرعاية الصحية، وفقا للقانون .ذلك هو النص الدستورى الذى يتناقض مع المشروع الحكومى، بعدما وُضعت نصوص الدستور فى أدراج مسئولى السلطة التنفيذية، وأغلق عليه بالضبة والمفتاح لكى نتباهى بانجازه ونتجاهل تنفيذه .
لا مفأجاة هناك، ولا شىء يهم، حتى لو اعترضت نقابة الأطباء على مشروع القانون ورفضه نواب حزب التجمع، وتعثرت منظومة التأمين الصحى الشامل، وغابت الرؤية والإرادة السياسية السائدة فى أنظمة السوق والحكم الرأسمالى، التى تقوم على قاعدة أن الاستثمار فى الصحة هو استثمار فى البشر وفى المستقبل الاجتماعى والاقتصادى والتنموى للدول، وأن الاعتماد على القطاع الخاص فى التنمية وتقديم الخدمات الصحية لم ولن يقود إلى تلك النتائج ، بل هو طريق الندامة لا محالة . وفى هذا السياق أشارت تقارير أخيرة لمنظمة الصحة العالمية، أن المواطن المصرى يتكبد فى الوضع الحالى أكثر من 72% من تكاليف علاجه من جيبه الخاص ، وأرجعت ذلك إلى المشكلات التى يعانى منها القطاع الصحى المصرى والتى تتمثل فى تعدد الجهات المسئولة عنه والعجز عن التنسيق فيما بينها، وازدواجية أدوارها، وعدم الكفاءة فى إدارتها ، وانتشار الفساد المالى والإدارى فى مؤسساتها، وفى غيبة الاستخدام المثمر للموارد المالية والبشرية والاستثمارية المتاحة، وعدم توفر تمويل حكومى مقدر لإجراء بحوث مرتفعة الجودة لدعم أهداف الصحة العامة، ولتدريب أطقم الأطباء والتمريض .
مشروع القانون الحكومى بلا مواربة، هو تحويل القطاع الطبى، إلى قطاع تجارى، يهدف أولا وأخيرا للربح، بدلا من إصلاحه .لماذا ؟ لأن الاستجابة لشروط الدول المانجة وضغوط صندوق النقد الدولى تعلو فى أولويات السلطة التنفيذية القائمة ،على مخاطر أن يتسول المصريون للإنفاق على احتياجتهم الصحية والغذائية والسكنية!.. إلخ

التعليقات متوقفه