مأساة الجنيه المصري

98

لا تزال سياسة التسعير بشكل عام تتبع شكل منحنى سعر الجنيه مقابل الدولار قبل مارس الماضي. ولا تزال أسعار المحاصيل الزراعية والأسماك، رغم أنها سلع ترتفع فيها نسبة المكون المحلي، عند مستوياتها التي كانت عليها، باستثناء تغيرات موسمية مؤقتة، تترافق مع تراجع القوة الشرائية للنقود في جيوب المستهلكين. وإلى جانب ارتفاع أسعار الأعلاف والأسمدة والمبيدات والوقود والطاقة والخبز، فإن سوء تنظيم السوق، وانعدام الشفافية، ونقص الرقابة، وانتشار الفساد، يزيد من حدة وعشوائية ارتفاع الأسعار. كما يمثل انخفاض الجنيه محركًا رئيسيًّا من محركات التضخم.

تأثير هبوط الإنتاجية

وتعكس قيمة العملة مدى كفاءة إنتاجية العمل ورأس المال والأرض. كما تعكس أيضًا القدرات التنافسية للسلع والخدمات القابلة للتداول المنتجة محليًّا. وتتوقف إنتاجية العمل على التعليم والمعرفة والتدريب والمهارات التكنولوجية. بينما تتوقف إنتاجية رأس المال على معدل الاختراع والابتكار والتجديد التكنولوجي. ومع أن السياسات الاقتصادية تختلف في مراحل التنمية المختلفة، من الحاجة إلى دور أكبر للدولة في مراحل التنمية الأولى، إلى تعزيز قوة السوق وتقليص دور الدولة في مراحل التنمية التالية، فإن بناء طاقات إنتاجية أوسع، وأكثر تنوعًا، وأشد قدرة على المنافسة، يظل هو عصب سياسات التنمية الصحيحة، كما يظل أيضًا أهم محركات التنمية البشرية والمادية. ورغم أن المصريين زاد عددهم وزاد كدهم، فإن إنتاجية الفرد المصري انخفضت كمًّا وكيفًا بسبب انخفاض مستوى التعليم وانعدام التجديد التكنولوجي من الداخل تقريبًا، وانخفاض الاستثمار الحقيقي، وهجرة الكفاءات، واتجاه الدولة إلى تفضيل الاعتماد على الاقتصاد الريعي. هذه الأسباب تمثل عوامل الضغط الاقتصادية الرئيسية على قيمة الجنيه. لكنها ليست وحدها التي تفسر التدهور التاريخي لقيمة العملة المصرية، فهناك عوامل أخرى ترتبط بضغوط التضخم، واللجوء إلى سياسة نقدية إدارية فاشلة، والقضاء على استقلال البنك المركزي، وتراجع الثقة في السياسات الاقتصادية الحكومية بشكل عام.

رحلة هبوط الجنيه

أمضى الجنيه المصري النصف الثاني من القرن الماضي، والربع الأول من القرن الحالي، وهو يسقط من حفرة إلى بئر ومن بئر إلى آخر. وتسببت سياسات سعر الصرف الثابت أو المحدد إداريا، إلى إحداث صدمات قوية مفاجئة، أدت إلى تآكل قيمة الجنيه المصري صدمة بعد صدمة. الصدمة الأولى جاءت مع الخطة الخمسية الأولى عندما تم تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 23% تقريبا عام 1963 ليتم ربطه عند 2.3 دولار للجنيه الواحد بعد أن كان في حدود 3 دولارات. الصدمة الكبرى الثانية ترافقت مع سياسة الانفتاح الاقتصادي، حيث اخترق الدولار حاجز الجنيه ثم استقر عند حوالي 1.5 جنيه للدولار الواحد حتى أوائل التسعينيات. ومع استمرار فترة الركود الكبير من الثمانينيات إلى العشرية الأولى من القرن الحالي تلقى الجنيه صدمة كبرى جديدة ليهبط إلى 7 جنيهات للدولار. ثم تلقى الصدمة الكبرى التالية في عام 2016 بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ليهبط إلى 19.6 جنيه للدولار مقابل 8.88 جنيه. هذا يعني أن الدولار في كل صدمة من الصدمات الكبرى بعد صدمة الخطة الخمسية الأولى تضاعفت قيمته تقريبًا مقابل الجنيه المصري أكثر من مرة. وفي الصدمة الكبرى الأخيرة في مارس الماضي قفزت قيمة الدولار من 31 جنيهًا إلى 50 جنيهًا تقريبا.

وقد تحالفت على الجنيه المصري سياسات نقدية ومالية حمقاء، وتدهورت إنتاجية القطاعات العينية وأهمها الزراعة والصناعة، وتبنت “الدولة المصرية”- وهو مصطلح لا يزال يعاني من الهلامية والغموض- مشروعات بنية أساسية عملاقة مكلفة قليلة العائد، مع تمويلها بالديون، والإمعان في التحول إلى سياسة ريعية، تعتمد على عائدات تصدير الغاز والذهب وإيرادات المرور في قناة السويس وبيع الأصول الاقتصادية. وقد أدت هذه السياسات إلى تفاقم التضخم بنسبة تصل إلى 170% على مدى السنوات العشر الأخيرة، وارتفاع أسعار الفائدة إلى رقم قياسي يصل الآن إلى 28.25% ووصول العجز في الحساب الجاري إلى أكثر من 17 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الأخيرة. و نتيجة لذلك خسر الجنيه ما يقرب من خمسة أمثال قيمته الشرائية مقابل الدولار، من عام 2015 إلى 2024، وهي أسرع نسبة هبوط يتعرض لها في تاريخه منذ نشأته رسميا على أساس قاعدة الذهب عام 1885. وكان يزن في ذلك الوقت 7.4375 جرام من درجة نقاء 999%. وبعد أن كانت قيمته تعادل 300 سنت أمريكي عام 1950، هبط إلى ما يعادل حوالي 2 سنت فقط في الوقت الحالي. فهل آن الأوان كي ينهض الجنيه من كبوته أم أن نزيفه سيستمر؟.

 

 

التعليقات متوقفه