آخر المعلمين

63

لم يكن يشغل بال د. رفعت السعيد في أيامه الأخيرة سوى العمل, والعمل فقط.. لذلك كان يتم التخطيط لليوم والأسبوع والشهر والعام من خلال خططه الكتابية والبحثية.. يعمل حتي يجهد نفسه ثم يأخذ قسطا من الراحة.. ثم يواصل بعد ذلك العمل مرة أخري, وقبل أن ينتهي من موضوع بحثه.. يأتي موضوع آخر  وفق ترتيب معد سلفا, وهكذا..

يشهد العام الأخير في حياة د. رفعت السعيد أعلي  معدلات كتابة علي مدار عمره, وكأنه في سباق مع الأيام لإنجاز أكبر قدر ممكن قبل الرحيل.. يتكلم قليلا ويكتب كثيرًا .. وكلمة كثيرًا تعني كثيرًا بقدرات وكفاءة عالية لا يقوي عليها شاب في مقتبل العمر, والعمل البحثي شاق  ومجهد جدا لأنه في حاجة طوال الوقت للتوثيق وهو أمر يستدعي ذهنًا يقظًا  وقدرة علي التنظيم والفحص وشرح مصادر الاثبات والتأكيد عليها بمصادر أخري.. أمر ليس سهلا.. لكن د. رفعت السعيد وقد تجاوز الثمانين كان  يفعل ذلك بأريحية ومتعة شديدين, وبدقة بالغة مدربة ومحترفة.

ولا نندهش عندما نعلم أن محفلا عريقا مثل جامعة أثينا تمنحه الدكتوراه الفخرية على شجاعته في كتاباته، فعندما يقف رئيس الجامعة  ليقول “إن حصول رفعت السعيد على الدكتوراه الفخرية من جامعتنا يكمل قاعدة المثلث الذهبي فهو ثالث مصري يحصل عليها، وقد سبقه احمد لطفي السيد علي شجاعته وإصراره في الدفاع عن الديمقراطية وطه حسين علي شجاعته في إصدار كتاب في الشعر الجاهلي” هكذا كان الغرب يري المعلم الأخير.

في مشروعه الأخير “بناة مصر الحديثة” يكشف للقارئ الحقائق التاريخية برؤي مغايرة لما هو شائع, مستندا علي المصادر الاصلية, فالأمر ليس كتابة حرفية بليغة لا تستند على حقائق, بل محاولة للتنقيب عن المعلومة وتحقيقها بأكثر من مصدر.. وكما كان يقول د. رفعت السعيد إن التاريخ ينقسم إلي قسمين :قسم قبيح وهو الحقيقة, وقسم جميل وهو الثرثرة والتخيلات.. لكنه دأب علي كتابة الحقيقة وهو الامر الذي اغضب من يعشقون الكذب.

كانت مصر وظلت هي عشقه الكبير والأخير ومن أجلها دفع ثمن هذا الحب, ولم يخف أو يجبن يوما, وظل يعبر عن رأيه في وقت كان لا يسمع صوتا للصمت, ولم يخش شيئأ, قال كلمته لعروبته ولوطنه ومضي, بينما آخرون لم يفلحوا في صنع شيء واحد لأنفسهم.. ليس لمصر بل لأنفسهم..

رفعت السعيد هو آخر معلمي اليسار.. ستظل كتاباته تراثا قيما يعتز به اليسار المصري ويفخر بسطوره التي رصدت وأرخت لكل المناضلين اليساريين وحفظت لهم حقوقهم التاريخية وحمتهم من النسيان والتجاهل.. لقد قال الرجل كلمته ورحل تاركا تلالا من الكتب تفصح عن مبادئه وأفكاره.. فماذا ترك المتربصون سوي صراخ لا معني له ولا قيمة.

ذات مرة عندما كان يكتب “مناضلون يساريون” قلت له : وكأنك أقمت مائدة كبيرة دعوت إليها كل الأحباء والأصدقاء ولم تضع لنفسك مقعدا عليها.. فأجابني : لا يليق.. هذه هي مهمة الآخرين.. فهل يفعل الآخرون؟

ومرة أخري قلت له: ألمح معاني خافية بين السطور في موضوع كان بصدده, فأجابني  بالنفي, وأضاف الباحث الذي يكتب بين السطور لا يكتب أصلا علي السطور, والحقيقة عندما تتخفي لا تصبح حقيقة.

وثالثة.. عندما هالني ما كتبه عن زعيم وطني وصفه بأن حظي على شعبية لا مثيل لها في التاريخ, وعدد بعضًا من مساوئه التي أثارت اندهاشي, فقال لي ماذا أفعل لك إذا كنت تسمع ولا تقرأ..

في معركته مع المتأسلمين كانت أكثر المراجع التي اعتمد عليها في محاربتهم هي مصادرهم وكتاباتهم وشهاداتهم الشخصية, ولم يلجأ للمتخاصمين معهم أو المختلفين. لذلك لم يستطيعوا أن يواجهوا حجته, الامر الذي جعل موتورًا يشعر بالعار, لأن الرجل مات في داره راضيا مطمئنا وهي سترة في الدنيا يتمناها الكثيرون, وكأنه يعترض على قدر الله عز وجل, ولو كان يدري ما فعل, لكنه لا يدري.. انتصر ر فعت السعيد في الحياة وأعزه الله بمشهد أخير وهو واقف على قدميه ومداد قلمه لم يجف بعد.. وهذا ليس من قبيل المبالغة.. نعم مداد قلمه لم يجف بعد.. رحم الله رفعت السعيد رحمة واسعة..

التعليقات متوقفه