إبراهيم نوار يكتب :لماذا العجز في الحساب الجاري للمعاملات الخارجية رغم التدفقات النقدية

418

 

يمثل الحساب الجاري الصورة المكثفة لطبيعة علاقة الاقتصاد مع العالم خلال فترة محددة. وهو يبين ما إذا كان الاقتصاد دائنا للعالم، أو مدينا له. ويتضمن الحساب الجاري صافي تجارة السلع والخدمات، والتدفقات المالية للداخل، والتدفقات للخارج. ولذلك فإن الحديث عن الصادرات فقط دون الواردات يكون حديثا مبتورا ومشوها، وكذلك يكون الحديث عن التدفقات المالية من الخارج دون الحديث عن المدفوعات إلى الخارج. وتعاني مصر من عجز مزمن في حسابها الجاري. فهي بلا شك بلد المحصول الواحد! كان المحصول الواحد في فترة زمنية طويلة هو القطن، ثم أصبح الآن هو الغاز! .

مصر تستورد تقريبا كل ما تحتاجه من الخارج، و لا تبدو الحكومات مهتمة بالإنتاج المحلي. وعندما اعتقد جمال عبد الناصر أن مصر تستطيع أن تنتج كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ، بناء على استراتيجية “إحلال الواردات” التي كان يروجها البنك الدولي، لم يكن يعلم أن الاقتصاد سيواصل النزيف، لأنه بدلا من استيراد الإبرة والصاروخ أحتاج لاستيراد كل ما يلزم لإنتاجهما محليا! وهكذا سقطت مصر في أزمة عميقة في نهاية الخطة الخمسية الأولى، ثم عجزت عن استكمال الخطة الخمسية الثانية، لأنها لم تستطع تدبير “العملات الصعبة” اللازمة للاستيراد.

وقد استمرت خطايا الإدارة السيئة للاقتصاد، عندما قررت القيادة السياسية في جمهورية السادات أن تنفض عن نفسها تراب الميري. حيث إنها بدلا من أن تتمرغ في تراب الميري، وجدت نفسها تتمرغ في وحل الانفتاح! وكانت النتيجة أنها خضعت لوصايا صندوق النقد الدولي، وتعاليم “إجماع واشنطن” التي تضمنت الخصخصة، وفتح السوق، والاعتماد على السياسة النقدية، على أمل أن يحقق “تساقط رذاذ الثروة من أعلى إلى أسفل” حلم الرخاء! وكانت أول الأوحال التي سقطت على رؤوس الناس، هو وحل تخفيض قيمة الجنيه المصري، الذي كان يساوي قبل الانفتاح ما يقرب من 3 دولارات! وأذكر أنني في بداية الثمانينات من القرن الماضي كتبت وأنا في حالة فزع شديد في مجلة “الأهرام الاقتصادي” محذرا من أن الدولار يقترب من كسر حاجز الجنيه! فما بالنا الآن والدولار يقف تحت حاجز ال 50 جنيها، بعد أن كان قد تخطاه؟!

ومن المفيد جدا أن ندقق في ملامح الصورة الكاملة لوضع الحساب الجاري لمصر مع العالم في الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية المنتهية في 30 يونيو الماضي. المبرر الأساسي لذلك هو تأمل أثر التدفقات المالية التاريخية التي سقطت على مصر من الإمارات والسعودية وقطر والكويت وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وبنك التصدير والاستيراد الأفريقي، لتضخ في الاقتصاد مرة واحدة ما يقرب من 10% من الناتج المحلي الإجمالي إعتبارا من شهر مارس الماضي. الجزء الأهم من هذه التدفقات لم يكن استثمارا حقيقيا، لكنه كان اتفاقا عقاريا مباشرا بين طرفين. لا منافسة، ولا شفافية، ولا شروطا معلنة، ولا حقوقا أو التزامات معروفة. إنها كانت صفقة “رأس الحكمة”، وهي صفقة سنرى فيما بعد أنه يتم إعادة إنتاجها مع أطراف أخرى، بشروط متشابهة.

يخبرنا بيان البنك المركزي عن ميزان المدفوعات للفترة من أول يوليو عام 2023 إلى نهاية مارس عام 2024 أن المعاملات المالية والرأسمالية أسفرت عن صافي تدفق للداخل بقيمة 20 مليار دولار تقريبا، ومنها صفقة رأس الحكمة بقيمة 15 مليار دولار. وإضافة إلى ذلك حققت الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية صافي تدفق للداخل بقيمة 14.6 مليار دولار. وهي عبارة عن الأموال الساخنة التي هرولت إلى مصر للاستفادة من قرار رفع سعر الفائدة بمقدار 600 نقطة أساس مرة واحدة إلى 27.25%.

ومع ذلك فإن صافي الحساب الجاري لم يحقق فائضا، ولم يخفض العجز، وإنما حقق عجزا صارخا يزيد عن ثلاثة أمثال العجز الجاري في الفترة المناظرة من السنة المالية السابقة، إذ قفز العجز إلى 17.1 مليار دولار، مقابل 5.3 مليار دولار خلال الفترة المناظرة من السنة المالية السابقة.

فماذا إذا هربت الأموال الساخنة؟

وماذا عندما يتوقف سيل التدفقات المالية مقابل بيع الأصول أو تأجيرها بنظام الالتزام أو الانتفاع؟

التعليقات متوقفه